طلال سلمان

على الطريق حرب حصر أضرار الحرب!

حصر الأضرار، في أعقاب هزيمة نكراء كالتي مُنّي بها العرب على يدي صدام حسين و”شركائه” الكثر، معركة قاسية تتطلب كفاءة عالية يستطيع أن يتخفف منها المنتصر في حرب بلا قتال.
وهذه الحركة النشطة التي تستولدها دمشق أو تحتضنها هي محاولة جادة لاستنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولو بعد تدمير البصرة (ومعها هذه المرة معظم جنوب العراق)..
لعله “الهجوم المضاد” الوحيد، وبالوسائل المتيسرة وهي محدودة جداً، في غمرة هذه الحرب التي وفر بعض العرب فيها الذريعة لهجوم أميركي شامل كان مقرراً ومعداً له من قبل، كما تفيد الأدلة والقرائن التي أخذت تخرج إلى العلن بعد صمت المدافع في “المنازلة الكبرى” التي لم تقع!
ولقد تمثلت أول خطوة أميركية، بعد الحرب، في أن واشنطن سحبت انتصارها بعيداً عن “أصدقائها” العرب، تمهيداً لأن تستخدمه في الوجهة التي تخدم مصالحها، وإن على حسابهم، وتحديداً: على حساب الأكثر إخلاصاً في “تحالفه” معها ولو من موقع التابع الذليل المتيم “بحب” سيده جورج بوش.
أما إسرائيل فقد شهرت انتصارها (في الحرب ذاتها) في وجه أعدائها العرب، بمن في ذلك أولئك الذين يعرضون عليها الاستسلام فترفضه وترفضهم معه.
برغم ذلك فقد تنكر الخليجيون، وبأسرع مما قدر الأسوأ ظناً بهم، لأشقائهم الذين هبوا لنجدتهم فبعثوا بجنودهم ليحموا بالدم تلك العروش المزعزعة. والتي كانت مهددة بأن تبتلعها الرمال الذهبية التي لا ينالهم منها إلا هجيرها في حين ينال السيد الأميركي ما استبطنت من ذهب أسود قادر على شراء شمس النهار وقمر الليل وأحلام الأجنة!
أما الخطوة الأميركية الثانية فقد تمثلت بالإبقاء على صدام حسين، بشحمه ولحمه، وتركه يقلد نفسه وشاح الرافدين تخليداً “لنصرة” المؤزر في “أم المعارك” التي انتهت بشطب الجيش العراقي، بل العراق نفسه عن خريطة القوى والقدرة على التأثير.
تحول العراق من رصيد عربي، مهم إلى عبء ثقيلن ومن احتياط استراتيجي للمعركة القومية إلى عامل إضعاف وتمزيق لآخر ما كان تبقى من “وحدة الصف العربي”، بعدما كانت مغامرات سابقة لصدام حسين نفسه (وشركائه الكثر) قد أودت بوحدة الهدف العربي ووحدة الموقف العربي واحتمالات التضامن العربي.
وها هو جيش العراق يطرد من المدينة العراقية دهوك فيخليها للقوات الأميركية، بعدما كانت هذه القوات ذاتها قد طردت الشرطة العراقية من المدينة العراقية زاخو، معتبرة مجرد استمرارها فيها عملاً عدائياً ضدها.
أما شعب العراق فقد سحق سحقاً في الجنوب، ومزق في الوسط، وامتهن في الجهات الأربع، كل هذا وصدام حسين باق في بغداد يحمل إليه المرجع الأعلى للشيعة لتوكيد شرعيته المنهارة، ويُدفع الأكراد إلى التفاوض معه ليحصلوا منه – وعلى حساب العراق كله – على ما لم يطلبوه ولا يستطيعون تحمل أعبائه!
دار الفلك دورة كاملة، وها هو “الملك” مجدداً في دمشق.
لعله وقد أنجز المهمة في بغداد يحتاج إلى إعادة صياغة لدوره مستقبلاً، في فلسطين وخارجها.. ولا بد من دمشق كـ “مطهر” وكـ “معبر” إلى المهمة الجديدة، خصوصاً وإنه بمجيئه شخصياً قد يضعف فرصة منظمة التحرير في العودة إلى دمشق، أو – كحد أدنى – قد ينجح في تأثير مثل هذه العودة.
أما حسني مبارك فيأتي حاملاً خيبة أمله في الخليجيين الذين ضنوا عليه بالمال ولم يمكنوه من لعب دور “الحامي” أو “وكيل الحامي”، وعاملوه – وبصفاقه – معاملة “المرتزق” مانعين عنه شرف المقاتل ومعه حقوق “المقاول” التي احتكرها الأميركي مع النفط والقرار السياسي في تلك المنطقة التي يراها مجرد امتداد للربع الخالي!
وأما الفلسطيني، ممثلاً بمنظمة التحرير كما بأهل الداخل، فيبعث برسائل اعتذارية عن تورطه في الرهان الخاطئ ، محاولاً الاقتراب من السوري عبر الموقف، لعله يساعده في كسر الحصار المضروب عليه، والذي يهدد جدياً بشطبه من “النظام الإقليمي” الجديد وليس فقط من “المؤتمر الإقليمي” العتيد!.
لكن هذه المحاولة لترميم موقف العرب “الفلسطيني” تصطدم بواقع ما بعد “حرب غزوة صدام” وهو واقع كريه خصوصاً وإنه كشف المخبوء من عهد ما قبل الغزوة البائسة ونتائجها المدمرة.
ولأن الشيخ زايد بن سلطان هو أبسط حكام الخليج وأبرأهم، نسبياً، فقد أعلن المواقف التي يداريها أقرانه الخبثاء، سواء في ما يخص مصر وسوريا أو في ما يخص الفلسطينيين!
ولقد تلقى الكل الرسالة وها هم يحاولون الإجابة عليها، كل بأسلوبه!
لكأن حكام الخليج “يمنون” على سائر الحكام العرب، وبالذات على من ناصروهم في الحرب، باستمرارهم في مناصبهم!
ولكأن الأميركي “حليف” الخليجيين ونصيرهم ومحرضهم ضد مجموع الأنظمة العربية الأخرى.
لكأن الجمهوري الأميركي قد وضع نفسه في خدمة “الملكيات” العربية عموماً ضد الجمهوريات والجمهوريين العرب،
والأهم بل الأخطر إن ذلك كله يتم في ظل إلحاح إسرائيل على أن تنال حصتها من النصر في حرب الخليج نقداً وفوراً وعبر التمكين للمشروع الإمبراطوري الذي له وحده حق الربط والامتداد بين النيل والفرات!
الإسرائيلي، باختصار، لا يريد تسوية لما يسمى “أزمة الشرق الأوسط” ولا يحتاجها ولا يخاف من مغبة رفضهاز
فهو قوي جداً، والتسوية تأخذ منه وتعده بأن تعطيه أقل بكثير مما بيده فعلاًز
أما العرب فحائرون بين نظريتين:
*العقائديون منهم، ونتيجة خوفهم من ضعفهم في ظل الواقع القائم، يقولون بترك الأمر للأجيال المقبلة، لعلها تكون في وضع يمكنها من “التوازن” إن لم يكن من النصر.
*والسياسيون بحاجة إلى إنجاز يمكن لبقائهم في مواقعهم، وتأخذهم الرهبة كلما أمعنوا النظر في واقعهم فيتنازلوا أكثر، مبررين تفريطهم بالتخوف من أن يكونوا في غد أضعف مما هم عليه اليوم، فيضطرون إلى الاستسلام المطلق.
أي إن البعض يفكر بالتاريخ محيلاً إليه تعويض الخسارة في الجغرافيا، والبعض الآخر يرى إن المزيد من الخسارة في الجغرافيا تشطبه من التاريخ، بل هي قد تلغي التاريخ كله!
لقد جاء جيمس بيكر أربع مرات، وقد يأتي مرة خامسة وربما عاشرة، لتحديد الأرباح الأميركية من حرب الخليج وهزيمتها العربية!
أما الإسرائيلي، فيرفض تحديد أرباحه.
والعرب أقرب إلى الصلح مع عدوهم القومي، وبالشروط الأميركية الملتبسة، منهم في أي يوم مضى،
لكن الإسرائيلي لا يريد الصلح مع “العرب”، بل هو يستند إلى مواقف معظم أنظمتهم ليقول إن العرب قد بادوا، وإن الموجود في “مواجهته” دول تتبارى كل منها مع الأخرى في نفي صلتها بالعرب،
ونفي الصلة يكون أوضح ما يكون بالانسحاب من القضية الفلسطينية أو التبرؤ من المسؤولية عن حاضرها، وأكثر من مستقبلها.
وإسرائيل تحاول تحقيق فك ارتباط شامل بين كل عربي وآخر، وأساساً بين كل عربي، و”الفلسطيني”، ثم بين “فلسطينيي الخارج” وفلسطينيي الداخل، ثم بين فلسطينيي المنظمة وفلسطينين المنظمة،
فاندثار “العرب” يعني اندثار فلسطين كقضية ووطن وشعب وإرادة تغيير، فكيف يمكن حصر الضرر وترميم البيت الآيل إلى السقوط؟!
لعل “بعث” جامعة الدول العربية خطوة واهنة على هذا الطريق،
لعل لقاءات ما كان يسمى “دول الطوق” خطوة أخرى،
لعل حديث معمر القذافي عن قمة عربية لا يحضرها صدام خطوة ثالثة.
لعل معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق بين لبنان وسوريا خطوة رابعة،
لكن الأميركي لا يسمح بأكثر،
والخليجي يحاول تعطيل هذا الجهد وشل فعاليته،
أما الإسرائيلي فيمكنه أن يكتفي برفض القابلين جميعاً، لأنهم أعجز من أن يحاربوا وأضعف من أن يسالموا.
وطالما إن جبهة المواجهة في واشنطن فالإسرائيلي قادر على ضمان النتائج في الحال والاستقبال.
والتسوية مستحيلة طالما استحالت الحرب… العربية!

Exit mobile version