طلال سلمان

على الطريق حرب المتضررين من الهدنة!

أصعب من إعلان “الهدنة” في ظروف كالتي يعيشها لبنان الممزق والمفتت والمنخور نخراً برصاص الحروب المتصلة منذ عشر سنوات، حماية هذه الهدنة وتأمين استمرارها لأطول فترة ممكنة، أو بما يكفي لتمكين الأطراف المعنيين من الوصول إلى تفاهم حقيقي حول صيغة المستقبل، أي حول ضمانات سلاح الوطن وسلامة المواطنين.
فالهدنة، في مثل ظروف لبنان، ليست مجرد فاصل بين حربين، بل هي معركة فعلية ضد قوى مؤثرة وقادرة وذات مصلحة حيوية باستمرار الحرب وتغييب حلم السلام والسلامة.
وواجب الحريصين على بقاء لبنان أرضاً لوطن موحد وموحد لكل أبنائه هو تأمين الحماية المطلوبة للهدنة، والاستعداد الكامل لمجابهة المتضررين منها والذين سيعملون لتخريبها ونسف المرتكزات السياسية التي تقوم عليها، أو خلخلة هذه المرتكزات بما يسمح بتعديل “المواقع” بحيث يضيع في الهدنة كل ما جناه المحاربون.
بصراحة ووضوح:
إن العدو الإسرائيلي طرف متضرر من الهدنة. ولذا فهو سيتحرك بكل قدرته على التأثير لنسفها أو لمنع استقرارها واستمرارها كمناخ صحي لحوار جدي يستهدف الوصول إلى توافق وطني بين اللبنانيين حول مستقبل لبنان.
إن أول آثار الهدنة (وهو على أي حال أول استهدافاتها) تعطيل أو تحديد أو تحجيم العامل الإسرائيلي كعنصر ضاغط على الوضع اللبناني برمته، سواء بجيش احتلاله مباشرة وممارساته على الأرض، كما في الجنوب والبقاع الغربي، وإقليم الخروب، أو بشبكة العلاقات التي أنشأها على امتداد سنوات الحرب ثم في ظل الاجتياح العسكري مع أطراف وقوى سياسية وعسكرية داخل لبنان.
وهكذا فإن الإسرائيلي سيمارس أشد الضغوط من أجل فرض نفسه كطرف له مقعد على طاولة الحوار (والحكم)، عبر الإقرار بما يسميه “المصالح المشروعة” وهي مصالح تتعدى حكاية أمن الجليل لتصير مشكلة خطيرة للأمن الوطني اللبناني وللأمن الوطني السوري، وباختصار للأمن القومي.
ثم إن بين أمراء الحرب وإفرازاتها من سيتأثر وضعه ودوره وموقعه، وبالتالي “حصته” إذا ما توطدت الهدنة وأمكن تحويلها – عبر التفاهم على صيغة المستقبل – إلى مدخل إلى السلام المنشود.
فالهدنة تمثل “خطراً” على كثير من القوى و”الهيئات” التي أنبتتها الحرب (لاسيما في ظل الاجتياح الإسرائيلي وبعده)، والتي لا تعيش إلا بالحرب وعليها… وعلى سبيل المثال والحصر لنتذكر أسماء كأنطوان لحد ونزاريت نجاريان وبعض “النجوم” التي أبرزتها “القوات اللبنانية” فجأة في ليل الاحتلال الإسرائيلي للجنوب وما حوله.
والهدنة ستتيح المجال لمحاسبة وربما لمعاقبة الكثير من المسؤولين عن مآسي ما بعد الاجتياح، سواء أكانوا داخل أجهزة الدولة أم على هامشها…!
وإذا كانت عملية “فصل القوات المتحاربة” و”فض الاشتباك” وسائر ما يتصل بما سمي “الترتيبات الأمنية” (لاحظ غرابة التعابير بالنسبة لمواطني البلد الواحد)، قد تمت بشكل مرض فإن الجهد سيتركز الآن على نقل الاضطراب إلى “ما وراء الخطوط” لإحداث ارتباك في “صفوف الخصم” والتأثير من ثم على موقعه في المفاوضات ثم في الحكم.
وبصراحة ووضوح أيضاً:
إن المحاولات المبذولة لإعادة تفجير طرابلس ليست ولا يمكن أن تكون بريئة، وليس توقيتها عشية قمة دمشق ومع ظهور التوافق على هدنة تثبتها وتديمها حكومة اتحاد وطني برئاسة رشيد كرامي، بفعل المصادفات أو الحظ العاثر.
إن هذه المحاولات تستهدف شطب دور طرابلس وثقلها الوطني على طاولة الحوار حول الصيغة، وبالتالي على طاولة الحكم،
بل أكثر: إن هذه المحاولات تستهدف تحويل طرابلس إلى عبء يثنوء تحته رشيد كرامي وموقعه الوطني. إذا ما تمكنت الأيدي القذرة من استمرار العبث بالمدينة العريقة ذات التراث النضالي المجيد وذات الدور الذي لا غنى ولا بديل عنه في التوازن الوطني.
كذلك فإن “الحوادث الصغيرة” المستمرة في بيروت بوتيرة يومية، والتي يتخوف العارفون من إمكان تفاقمها (افتعال اشتباكات محدودة بين تنظيمات محلية، تفجيرات مقصودة بغرض إدامة الاستنفار المذهبي الخ)، ليست بريئة هي الأخرى ولا هي من فعل المصادفات بل هي من فعل فاعل وهي جرائم مقصودة لإضعاف موقع بيروت (والضاحية) والجبل على طاولة المفاوضات وبالتالي الحكم.
إن الأطراف والقوى المتضررة ستحاول جاهدة أن تشن “حرباً” داخلية، في ظل الهدنة الموطدة والسائدة على جبهات القتال ومحاوره التقليدية، لإضعاف خصومها السياسيين بحيث لا يصلون إلى طاولةت المفاوضات – والحكم – متى وصلوا، إلا وهم في أتعس حالاتهم، ومستعدون بالتالي للقبول بما تيسر وكفى الله المؤمنين شر القتال!
إن “حرب الهدنة” التي بدأت عشية مؤتمر لوزان، وأدت إلى تجميده عند حد الفشل، لا بد أن تتواصل بحرب على الهدنة بعد قمة دمشق التي أعادت ضخ الدم في شرايين الهدف السياسي لذلك المؤتمر،
والذين خسروا بالحرب العديد من المواقع التي حاولوا عبر الوصول إليها والتمركز فيها إضفاء طابع الهيمنة الشامل على البلاد، سيحاولون الآن – بأساليب أخرى – استعادة بعض هذه المواقع عبر الضغط السياسي والابتزاز الأمني ولاسيما في بيروت وطرابلس والجبل.
من هنا المناداة بضرورة اليقظة والتنبه والقتال لحماية الهدنة، وبالتالي حماية الموقع الوطني على طاولة المفاوضات والحكم، باعتباره هو المستهدف برصاص المفجرين والمخربين من أبناء الحرب الأهلية المهددين بالتحول إلى أيتام إذا ما توقفت.
فلنحم حقنا بالحياة، فلنحم الحلم، خصوصاً وقد باتت اليد قاب قوسين أو أدنى من الإمساك بخيطه السحري،
فلنحم بيروت، ولنحم طرابلس،
ولنرقب دائماً نجمة الصبح جنوباً، واليقظة اليقظة حتى اكتمال الشروق.

Exit mobile version