طلال سلمان

على الطريق حرب القلعة الأخيرة

وحدها إسرائيل تمضي متوغلة داخل الأسطورة الآتية من الماضي السحيق والتي تريد أن تحكم بها الحاضر والمستقبل لذاتها ولغيرها، وهذا هو الأهم.
وحدها رات في كل انهيار حدث في العالم توكيداً لسلامة استراتيجيتها “القديمة” و”عبقرية” قياداتها التاريخية في استشفاف ما سيكون والاستعداد له سلفاً، بل والانتفاع به في ما يخدم أغراضها ومشروعها الإمبراطوري.
ولقد شجع إسرائيل على الأخذ بهذه الأوهام المجافية لدلالات التحولات التي ترج الكون، تردي الموقف العربي بأكثر مما توقع أعتى خصوم الأمة، وتهالك الأنظمة العربية بأكثر مما تطلب قوى الهيمنة الأجنبية.
كان المشهد العربي المجسد للضعف المطلق يغري الإسرائيلي المستقوي بذاته كما بشبكة علاقاته ومواقع نفوذه دولياً بالانسياق مع أحلامه بالتوسع والسيطرة والاستيلاء على المقومات الكفيلة بترسيخ الاستعمار الاستيطاني، من أرض ومصادر مياه وموارد ثروات طبيعية.
وبرغم الدرس المباشر الذي تلقاه الإسرائيلي من حرب الخليج فهو قد حاول أن يتكئ على النتائج المدمرة التي أصابت العرب، كل العرب، لاسيما الاشد تضرراً من مشاريعه التوسعية، لكي يصنف نفسه في خانة المنتصرين ويطالب بحصته من الغنائم ومن موقع الشريك وليس الحليف فحسب.
من هنا هذا الجو الحربي الذي تنشره إسرائيل هذه الأيام، والتحديات التي توجهها إلى سوريا عبر لبنان، والاعتداءات اليومية التي تشنها على اللبنانيين بذريعة التصدي للمقاومة الوطنية مع إعطاء الصدارة دائماً لـ “حزب الله” والتركيز على الدور الإيراني فيها،
وهي تحاول أن تسوق مشروع حربها الجديدة أميركياً وغربياً، فتعطي لنفسها دور “تأديب” من تبقى من المعترضين أو المعارضين أو حتى المتحفظين على النهج الأميركي في بناء ما يسمى “النظام العالمي الجديد”.
إنها تزعم، وهي “الدولة” التي يقودها أشهر إرهابي في موقع المسؤولية في العالم المعاصر، إسحق شامير، إنها إنما تكافح “الإرهاب العالمي”… وذلك مطلب أميركي معلن، بل سياسة رسمية معتمدة سخرت الولايات المتحدة لتنفيذها منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن فيها إضافة إلى “قوى التحالف الدولي”.
ثم إنها تحاول أن تبيع من الأميركان الحرب على “الأصولية الإسلامية” وعلى دولة “الثورة الإسلامية” إيران، التي ما زالت “تشاغب” – وإن بحدود – على وحدانية الولايات المتحدة كمصدر للقرار في كل شأن وفي أي شأن دولي.
وأخيراً فهي تجتهد لأن تصور نفسها كأداة تأديب أميركية للسياسة السورية التي لها رؤيتها لـ “مؤتمر السلام” ولها رأيها في المفاوضات، ثنائية كانت وبماشرة أم متعددة الأطراف والأغراض.
وغني عن البيان أن إسرائيل تضرب في لبنان متوقعة النتائج السياسية في دمشق أساساً، واستطراداً في طهران، من أجل أن تحصد الجوائز في النهاية من واشنطن.
وغني عن البيان أيضاً أن إسرائيل ستعيد توظيف مثل هذه النتائج شبه المستحيلة، إن هي تحققت، لحساب مشروعاتها التوسعية وتوكيد حقها بمقاسمة “السيد” الأميركي خيرات المنطقة الغنية وتقرير مستقبل “شعوبها”: من يبقى عبداً فوق أرضه ومن يهجر إلى حيث القت…
إن إسرائيل تتصرف وكأن العرب قد انتهوا تماماً ودخلوا عالم الأسطورة فاستقروا فيها حكاية من حكايات الماضي، في حين تخرج هي إلى عالم الحقيقة والواقع لترثهم في أوطانهم وثرواتهم وهم أحياء… ويستظلون العلم الأميركي ذا النجوم العديدة!
وإسرائيل تستغل لتظهير هذه الصورة الانقسام بين العرب، وتخلي بعضهم عن البعض الآخر، بل وتورط بعضهم في مقاتلة أشقائه وشركاء مصيره، وإجمالاً هو أن حكامهم وضعتهم وتقديمهم مصالح عروشهم على مصالح الأمة وافتقادهم إلى الشعور بالأهلية.
وإذا كان أمر حاكم العراق ومغامرته البائسة في الكويت معروفاً، فماذا يمكن أن يقال عما يدبره حكام السعودية ضد اليمن مثلاً، وضد إمارات الخليج عموماً؟!
لقد تجرأ الرئيس اليمني على عبد الله صالح وأعلنها أخيراً: إن السعوديين يتآمرون لكي يقتطعوا من اليمن ثلاث محافظات دفعة واحدة، جميعها غنية بالنفط، وهي محافظات مأرب والجوف وحضرموت.
قبل أن تمضي سنتان على تحقق الحلم التاريخي السني بإعادة توحيد اليمن لتضيف إلى امتها رصيداً من القوة والاندفاع على طريق التقدم، يحاول حكام السعودية اغتيال الحلم وإشعال المزيد من الحروب العربية – العربية وإنهاك المواطن العربي بمزيد من الخيبات والجراح بحيث تأتيه الهزيمة في عقر داره وقبل أن يصل إليه العدو الإسرائيلي والمهيمن الأجنبي.
وبدل أن تبادر السعودية إلى توظيف وزنها (المالي قبل السياسي) لتدعيم صمود سوريا ولبنان وشعب فلسطين، وتعزيز كل مقاومة عربية للاحتلال الإسرائيلي، واي احتلال آخر، تفاجئ العالم ليس فقط بالانتقال إلى الضفة الأخرى، عبر المفاوضات متعددة الأطراف التي ستنال منها إسرائيل كمكافأة حصة في نفط السعودية والخليج، بل إلى نشر جو حرب أهلية عربية في قطر مثخن بالجراح بالكاد عرف طريقه أخيراً إلى الوحدة والاستقرار والعصر، هو اليمن “السعيد”!
وبديهي ألا تخضع سوريا ومعها لبنان، وألا تستلم للشروط الإسرائيلية، وألا تستكين في مواجهة التحديات الإسرائيلية ولغة الحرب التي تبدو وكأنها تلقى قدراً من التشجيع الأميركي.
فليس اللبنانيون ومعهم السوريون مجرد وقود لنار الانتخابات الإسرائيلية ولا الفلسطينيون مجرد أهداف حية للأحقاد الإسرائيلية.
وليست الحرب نزهة، في أي حال، لا في جنوب لبنان الذي يستشهد كل يوم ألف مرة، ولا خاصة مع سوريا.
والقلعة الأخيرة تقاتل أخيراً بكل إرادة الأمة ونيابة عنها جميعاً،
وكثيراً ما كانت القلعة الأخيرة نقطة البداية لتاريخ جديد.

Exit mobile version