طلال سلمان

على الطريق حرب التوقيع: الاتفاق هو الأهم!

كما كان جلوس ممثلي حركة “أمل” والحزب التقدمي الاشتراكي مع ممثلي “القوات اللبنانية” إلى طاولة المفاوضات حدثاً قائماً بحد ذاته، إذ يتعذر بعده سحب اعتراف أي طرف بأهلية الآخر للحوار فإن التوقيع على مشروع “الاتفاق الثلاثي” هو حدث قائم بحد ذاته إذ يتعذر بعده تبرير الاستمرار في الحرب الأهلية، إلى ما شاء الله، في صورتها وشعاراتها الراهنة، بأقل تعديل.
الحدث الأول يعني التسليم بإمكان السلام والرغبة في الوصول – عبر المفاوضات – إلى تسوية مقبولة تغني عن الحرب المحكومة بمجموعة من “الخطوط الحمر” اللاغية لاحتمال “النصر الساحق” كما لاحتمال “الهزيمة الساحقة”،
والحدث الثاني يعني أن الحرب ومعها كل أدواتها من الميليشيات إلى الأسلحة والذخائر وخطوط التماس والحدود الواقعية للغيتو أو للكانتون، قد فقدت مبرراتها، وإن لا بد من الاستعداد للسلام بأدوات السلام، ومن بينها إطلاق الصراع السياسي على مداه، ليحسم مواضيع الخلاف أو الاختلاف سواء تلك المتضمنة في “الاتفاق” أو التي ظلت خارجه.
وغني عن القول إن “الاتفاق” لا يتضمن، وما كان يمكن أن يتضمن، طموحات اللبنانيين جميعاً وآمالهم وأمانيهم وأحلامهم في “وطن حرب لشعب سعيد”.
ولا نظنن أن أحداً من اللبنانيين ينتظر أن يحقق له “الاتفاق” العدالة في صورتها المرتجاة، أو الطمأنينة المطلقة، أو السلام الشامل، أو العروبة المصفاة، أو الديمقراطية النموذجية.
ذلك أن أحداً في لبنان لم ينج من تشوهات الحروب الأهلية، المتعددة الأوصاف والاستهدافات، والتي التهمت – في ما التهمت – قدرة أي لبناني على صياغة حلمه في الوطن بمعزل عن هواجسه ومصادر قلقه وحتى غرائزه التي أطلقت عنانها الصدامات ذات الطابع الطائفي الصارخ أو المذهبي الكريه.
والمفاوضون أنفسهم يعانون من آثار هذه التشوهات ويتحركون وهم تحت وطأة تلك الهواجس، مهما حسنت نواياهم واجتهدوا في محاولة الوصول إلى صيغ أكثر وطنية مما هي طائفية، وأكثر استجابة لمتطلبات المستقبل منها في خضوعها لترسبات الاقتتال في الماضي ومقتضيات حاضر الصراع المفتوح.
من هنا تزايد خوف المواطن على مشروع الاتفاق كلما تأخر توقيعه. خصوصاً وإن مبررات التأخير تبدو هزيلة وأقل شأناً من أن تعطل إنجازاً في مستوى الشروع في إنهاء الحرب الأهلية، ثم إنها تبدو “ذاتية” وليست موضوعية، بمعنى اتصالها بقدرة الطرف المعطل أكثر منها بطبيعة الحل العتيد.
وبصراحة ووضوح يمكن القول إن “الاتفاق” قد خسر خلال فترة “المماحكة” حول بعض بنوده المبدئية، الكثير من وهجه، وهو وهج لا يستغنى عنه أي اتفاق يراد له ومنه أن يكون المدخل إلى حل أو إلى صيغة مستقبلية تبدأ بها المرحلة الجديدة من تاريخ هذا البلد الذي اصطنعته “حروب الآخرين” ويكاد يذهب به عجز أبنائه عن صنع سلامهم الخاص.
.. وهي “مماحكة” لأن من يسلم بضرورة إلغاء الطائفية السياسية لا يجوز له أن يهدر كل هذا الوقت الثمين حول الفترة الانتقالية وهل تكون عشر سنوات أو ست عشرة سنة، وفارق السنين يصبح حجة ضد المطالب بإطالة عمر الظلم بوهم أن استمرار الظلم هو ضمانته!
.. ومن يسلم بضرورة إنصاف المحروم والمغبون، تاريخياً ، لا يجوز له في آخر لحظة أن يعود فيجادل في حق الأجيال الآتية بأن يكونوا مواطنين طبيعيين، كما في أي بلد آخر، أي متساوين في الحقوق والواجبات.
ومن يسلم بأن الطائفية شر، والمذهبية أشر، وإن الامتياز يلغي الوطن، وإن غموض الهوية يخلق أسباب الحرب الأهلية بعد سنة أو سنين، لا يجوز له أن يعود فيطالب بأن نأخذ من الأنظمة العربية أسوأ ما فيها مقابل أن نتخلى عن أفضل ما في العرب والعروبة من مزايا كما عن أشرف قضاياهم القومية،
وبصراحة ووضوح أيضاً فإن كل تأخير في توقيع الاتفاق ينقص من حجم الأطراف المشاركة في وضعه ومن قدرتها على إنهاء الحرب وأهليتها على تمثيل من يفترض فيها تمثيلهم.
أكثر من ذلك: إن التأخير يرسخ لهذه الأطراف صورة المستفيد من الحرب. وبالتالي صورة المتضرر من الحل والمعطل لإمكانات الوصول إليه،
ولأن سوريا هي التي ترعى الحل فإن المعطل لا بد أن يكون جهة أو جهات معادية للخيار العربي وللحل العربي للمسألة اللبنانية، يستوي في ذلك أن يجيء التعطيل عبر التحرشات الإسرائيلية المباشرة أو عبر الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة أو بعض القوى والهيئات السياسية المحلية المتضررة من الحل والمستعينة عليه بأعدى أعداء الأمة والشعب في الداخل والخارج.
وبصراحة ووضوح أيضاً وأيضاً فإن “القوات اللبنانية” خسرت وتخسر يومياً المزيد من مبررات وجودها السياسي عبر المماطلة في توقيع الاتفاق ومن ثم توظيفه لإحراج (وربما لإخراج) خصومها الكثير الذين حاولوا المزايدة عليها إسرائيلياً، يوم كانت في موقع الحليف لإسرائيل، ويحاولون المناقصة عليها سورياً بقدر ما تتوجه نحو بناء علاقة تحالف مع سوريا.
فبين مبررات الوجود السياسي لـ “القوات اللبنانية” بصيغتها الحاضرة ما تسميه “قرارها باعتماد الخيار العربي”، كضمانة أساسية لسلامة اللبنانيين، والمسيحيين منهم على وجه الخصوص، ثم محاولتها أن تبدو متقدمة في علاجها لمسألة الظلم الاجتماعي والتسيب الاقتصادي بما يخدم مصالح المحتكرين والناهبين من سارقي قوت الشعب،
فهل يكون الخيار في الشرقية غيره في الغربية؟!
وهل الظلم هناك غيره هنا؟
وهل روجيه تمرز يصير مصلحاً اجتماعياً عند عبوره خط التماس بين المصارف والدولارات؟!
وكلمة أخيرة: لقد استقر في يقين اللبنانيين عموماً، وعبر مفاوضات “الاتفاق” إن لا سبب موجب لاستمرار الحرب إلا لمن أراد حماية وجوه الخلل في النظام اللبناني الفريد، وأهمها غموض الهوية القومية وتقنين أسس الظلم الاجتماعي والتسيب الاقتصادي.
ولسنا نفترض أن “القوات” انتفضت على قيادة حزب الكتائب لكي تدعي إنها الأقدر على القيام بدور السياف في حماية النظام الطائفي الأشوه،
كذلك لا نفترض إن ثمة مكاناً “للمنتفضين” في صفوف حماة النظام، إلا إذا صاروا أتباعأً لهم، وعادوا إلى مهمتهم الأصلية في خدمة “القيادة التاريخية” للحزب إياه، وهي مهمة “الصبيان الذين يعدون الساندويشات” للقائد الفرد،
وفي أي حال فما قيل قد قيل وما كتب قد كتب ولن تنفع تراجعات اللحظة الأخيرة إلا في إضاعة اللحظة المناسبة وربما الفريدة لتلمس طريق الحل،
والحل لا يمكن أن يكون إلا بالتغيير، تغيير النظام وأهله،
فهل ستغتنمها “القوات” فرصة ذهبية لها وللبلاد أم هي ستضيعها لتنضم من ثم إلى السابقين ممن يمضون وقتهم اليوم في الندب والتحسر لأنهم أضاعوا الفرص الثمينة التي لاحت أمامهم فأضاعوا معها البلاد والشعب والحق في القيادة؟!
السؤال مطروح، والامتحان مفتوح، والكل ينتظر الجواب، وينتظره صحيحاً في وقته.
والوقت شرط، فما هو صحيح اليوم قد لا يكون صحيحاً في الغد،
ومن لا يثبت جدارته في تحمل مسؤوليته اليوم لن يعطى فرصة للادعاء بأنه قادر على بناء الغد، أي غد، فكيف بالغد الأفضل،
والاتفاق أهم من معارضيه، إذا ما تم التوقيع عليه، أما إذا ظل خلوا من التوقيع فإنه يصير أهم من واضعيه وينتصب معياراً للجدير بقيادة البلاد، وبموقع الحليف الحقيقي لدمشق بوصفها راعية الحل والساعية إليه،
ودمشق تنتظر معنا النتائج،
ودمشق، مثلنا، لن تظل تنتظر إلى الأبد، خصوصاً وإن من حقها، مثلنا، أن تشك بالأسباب الخفية للامتناع عن التوقيع، لأن الأسباب الظاهرة لا تقنع أحداً، ولا تمكن قراءتها إلا في ضوء ما يصدر عن واشنطن وتل أبيب، بدءاً بالخرق اليومي لجدار الصوت في لبنان وانتهاء بالخرق اليومي لجدار الأمان العربي، في أربع رياح الأرض العربية.

Exit mobile version