طلال سلمان

على الطريق حرب الاعتراف الماروني!

لأنها نصف معركة، أو أقل، وإن كانت أنذرت بحرب، فلقد انتهت بنصف غالب ونصف مغلوب!
ولعل الخوف من حرب سابقة لأوانها، في غياب إغراء جدي بحل قريب، هو الذي جعل العماد ميشال عون يرضى بنصف ربحن وجعل سمير جعجع يسلم بنصف خسارةز
وعبر هذه التسوية أمكن لـ “الطائفة” أن تؤكد استمرارها موحدة في وجه الآخرين… أو ربما في انتظار الآخرين.
والتسوية تقضي بإقرار قاعدة جديدة – قديمة : القرار موحد وإن تعددت المراكز والقوى. الكل يسلم بالكل، والمرجع حضن الطائفة في بكركي، لا اليرزة ولا القطارة،
ففي ظل حرب مستحيلة لا بد من السلام الممكن ولو كان لا يحقق الطموح المرتجى.
المهم إن “المعركة” على القرار بين “عسكر الطائفة” قد أعادت الاعتبار إلى بكركي وإلى “المدنيين” من رجالات الطائفة الممتازة ولاسيما النواب من بينهم.
كان مستحيلاً أن ينتصر عون على جعجع طالما إنه قاتله من موقعه ذاته، موقع جيش الطائفة، وبلغته ذاتها، ولو مموهة، لغة الحرص على مصالح الطائفة و”حقوقها” في النظام.
وبرغم التعاطف الشعبي الواسع مع “الجيش” كؤسسة ترمز إلى استمرارية ما للدولة، فلقد ظلت للناس اعتراضات جوهرية على خطاب العماد عون السياسي، وتحفظات أساسية على اعتبار جيشه جيش الدولة،
*بين الاعتراضات:
1 – إن استفاقة العماد عون على ضروب التحكم والسيطرة والهيمنة التي تمارسها “القوات اللبنانية” في المنطقة الشرقية، تجيء متأخرة جداً، حتى لتكاد تكون دليلاً ضد بدل أن تكون في صالحه.
فهذا الواقع قائم منذ سنوات طويلة، بعلم العماد عون ومعرفته ورضاه،
بل إن هذا الواقع هو الذي أتى بالعماد عون رئيساً للحكومة العسكرية في الدقائق الأخيرة من حكم أمين الجميل.
أليس جعجع من رشح عون رئيساً “لحكومة استقلال وأكثر”؟!
ولقد أعاد جعجع، ليل أمس، وعند خروجه من بكركي، تعيين ميشال عون رئيساً للحكومة التي ما زالت، بنظره، “حكومة استقلال وأكثر”!!
2 – إذا كان عذر العماد عون في ما سبق 23 أيلول 1988 إنه لم يكن صاحب القرار، فما عذره بعدما بات هو صاحب القرار؟! ولماذا ارتضى أن تشاركه “القوات” السلطة، هذا إذا تناسينا إنها هي التي عينته؟! بل لماذا قبل أن يأخذ من السلطة ذلك الحيز الهامشي الذي تركته له “القوات”؟!
لقد اعترف العماد عون، في مؤتمره الصحافي أمس، إنه – كدولة! – تعايش مع هذه الأوضاع الشاذة، وحصر اعتراضه بأنه هذه الأوضاع قد تفاقمت ويجب أن تزول…
فما المبرر الذي استجد ولم يكن قائماً من قبل؟!
هل صار ميشال عون “الدولة” وهو لم يكنها من قبل؟!
وإذا كان العماد قائد الجيش – رئيس حكومة الاستقلال – قد ارتضى حتى يوم 14 شباط 1989، أن يكون مع “الدويلة” وأن يحصر نفسه فيها، فلماذا يطالب الآخرين، الآنن بأن يكونوا مع “الدولة” التي يعرف جيداً إنه قد قدم نفسه عليها حين جاءت لحظة الخيار!
3 – اتهم ميشال عون “القوات” بأنها قامت بمحاولة انقلاب ضده فأحبطها وإنها أرادت أن تنفذ فيه وفي أسرته “إهدن جديدة”، وإنها حاولت أن تحبس السلطة الشرعية في المنطقة الشرقية…
وقد يكون هذا بمجمله صحيحاً، لكن السؤال يبقى : الم تنظم “القوات” نفسها ذلك الانقلاب الذي جاء بعون إلى راس السلطة، بذريعة وحيدة هي حماية الحق المارني (الالهي!!) في الموقع الأول من السلطة، طالما تعذر انتخاب رئيس ماروني جديد للجمهورية الديموقرطية البرلمانية ذات النظام الفريد؟!
هل ذلك انقلاب مع الشرعية وهذا انقلاب عليها؟! وما هو معيار الشرعية؟! ومتى تكون “القوات” دعامة وحصناً وحامياً للشرعية ومتى تكون ضدها؟! هل ميشال عون بشخصه هو الشرعية؟!
ومثل هذا المنطق ينطبق على الضرائب والجبايات والرسوم التي تفرضها “القوات” وتجبيها على كل شيء ومن كل الناس، وعند المعابر جميعاً من البربارة إلى المونتفردي إلى عين الدلب إلى المتحف (والكفاءات سابقاً)،
لماذا سلم بها ميشال عون من قبل، وقام يعترض عليها اليوم؟! ألم يحاول، ذات يوم، أن ينال حصته فأقام لجنة مشتركة كان بين أعضائها أحد المقربين إليه من النواب ثم طوي أمرها وابتلعها النسيان؟!
** وبين التحفظات على دور الجيش:
1 – إن العماد عون نفسه قد ضرب صورة الجيش عندما تحالف، فجأة، مع “خصمه” يومذاك، سمير جعجع لمواجهة الحركة الأخيرة التي قام بها أمين الجميل في يومه قبل الأخير في منصب الرئاسة (زيارة دمشق وما كان يتوقعه ويطلبه منها)ز
لقد وضع عون الجيش، يومئذ، في صورة المعترض على المحاولة الأخيرة لفتح باب حل ما،
ثم إنه مضى قدماً في التحالف مع “القوات” مما أضاع الحدود نهائياً (وهي تائهة أصلاً) بين الجيش وبين “القوات” فصارا وكأنهما جيشان للطائفة أحدهما يتحصن بمسحة من الشرعية والآخر يتحصن بمسحة من الشعبية.
2 – يتصل بذلك إن الجيش ، وفي ظل هذا التحالف، قد قبع مثل جميع المواطنين، في مواقعه (وربما أمام التلفزيون) يراقب غزوة “القوات” لمنطقة المتن الشمالي من أجل استئصال بقايا أمين الجميل “العسكرية”!
لقد اندفعت “القوات” بآلياتها (وبعضها جاءها “هبة” من الجيش وبعضها الآخر “هبة” من إسرائيل قبل أن يصلها ترياق حكام العراق) وبرجالها المدججين بالسلاح، وعدسات المصورين تتابع اجتياحهم للمتن، وكأن لا جيش في “المنطقة المحررة” ولا شرعية ولا من يحكم إلا سيد المجلس الحربي في الكرنتينا!!
3 – إن العماد عون قد أفقد الجيش صورة وحدته حين اندفع بعيداً في منافسة “القوات” على المركز الممتاز لدى مراجع الطائفة الممتازة، مما أدى إلى انقسامه – فعلياً – وإلى قيام قيادة رديفة أو بديلة خارج المنطقة الشرقية… والطائفة المارونية.
الجنرال عون لا يريد نصائح من أحدز هو يطلب مواقف. وهو يطلبها بصفته المسؤول عن الدولة.
لكن الجنرال يواجه مشكلة تنتظر حلاً.
وهو برغم إنه “قاطع” لقاء بكركي، وأطلق مدفعية اتهاماته العنيفة، ضد “القوات” (وهي بمجملها صحيحة) مستبقاً النتائج، وبقصد التأثير عليها، إلا أنه كان محكوماً بأن ينتظر القرار منها وليس إلا منها.
و”القوات” في نظر الناس، ومنذ زمن بعيد، هي ما قاله العماد عون وأكثر،
هي منظمة مذابح ضد المسيحيين عموماً والقيادات المسيحية، خصوصاً، في إهدن والصفرا والأشرفية.
بل هي مهجرة جموع المسيحيين من الشمال ومن الشوف والإقليم وشرقي صيدا وبعض البقاعز
وهي التي قدمت “القدوة” لسائر الميليشيات في فرض الأتاوات والخوات وجباية الضرائب وسرقة عائدات الدولة،
وهي قوة فاشية بطبيعة النشأة والوظيفة وبإغراء النجاح في الاستيلاء على السلطة باعتماد الطائفة سلماً، ودبابات العدو أداة وقوة قهر للرافضين،
وهي قوة طاردة للدولة والشرعية، بالضرورة، لأن حياتها لا تكون إلا بتغييبهما في أي حال، كان على الجنرال أن ينتظر القرار من بكركي، ومنها وحدها.
فليست للجنرال مع الأسفن مرجعية أخرى.
إنه ليس الدولة، وقد فشل حتى اليوم في أن يكونها، هو من الدولة وفيها ويتمنى أن يكونها، لكنه لم يصبح كذلك، كما إنه لم ينجح في أن يكون “الشرعية” برغم إنه منها وفيها، ولو بشكل ملتبس.
ولقد جعل هدفه “القرار الماروني” ، أخذه بالكامل، إذا أمكن، من الجيش الماروني الآخر، الأغنى والأكثر اختراقاً للنسيج الاجتماعي لـ “المجتمع المسيحي”، والأكثر انسجاماً في منطقة مع واقعه… فإذا ما تعذر الاستئثار فلا بأس من المشاركة، وهو قد نالها وبرعاية المرجع الماروني الوحيد الصالح بكركي.
هدنة البطريرك ، حل البطريرك، رعاية البطريرك، لجنة البطريرك، وفي انتظار عودة البطريرك من الكويت لا بد من الصمت، ولا بد من استعادة منظهر الوحدة للقرار الماروني.. قرار الطائفة الممتازة.
أما الدولة، وأما جيش الدولة، وأما سائر مؤسسات الدولة فلا بد أن تنتظر مزيداً من الوقت.
على إنه من الضروري التسجيل إن لقاء بكركي قد أظهر استيعاباً لدروس المحنة التي عصفت بالطائفة الممتازة، وكانت عصفت قبل بسائر الطوائف اللبنانية، كل على حدة!
فاللقاء قد أظهر حرصاً على فكرة الدولة من خلال التوجه الوحدوي الذي ساده وسرى في سطور بيانه المقتضب.
واللقاء وإن كان قد جب الإقرار بالشرعية الكاملة للعماد عون وسلطته إلا إنه قد أعطاه (وجيشه) منها ما لم يعطه لـ “القوات”.
واللقاء عبر عن الحاجة إلى حل وطني عام، مقراً إن لا حل لطائفة بذاتها، وهذا توجه سليم خصوصاً وإنه قد امتحن بالنار وكلف الوصول إليه العزيز من الضحايا والهائل من الخسائر والأضرار.
الكل سواء في العجز، إن على صعيد الطوائف، أو على صعيد الأشخاص.
يكون الحل وطنياً، ولكل لبنان وكل اللبنانيين، أو لا يكون أبداً.
ونفترض أن أحداً لن يكابر الآن في أن مثل هذا الحل يستوجب قدراً من الاصلاح في النظام السياسي الظالم للجميع الممتاز منهم والمحروم أو المغبون أو المغيب صوته ودوره، لأن مجد لبنان لم يعط له!!
ونرجو أن يكون الاعتراف الماروني الذي تأخر طويلاً وكلف لبنان (والطائفة) الكثير الكثير، مقنعاً للجنة العربية في أن تبدأ مسيرتها من أن الاصلاح ضرورة للجميع، بمن فيهم البطريرك الذي تواضع فقصد الكويت، والجنرال الذي حاول ولما ينجح في أن يكون الدولة، و”الحكيم”، الذي هدد الطائفة بأن يتركها، عشية الحل، فمكن لنفسه وحجز مكاناً في الحل العتيد الذي لا يعرف أحد متى يجيء، ولكن الجميع أكثر ثقة الآن منهم في أي يوم مضى إنه قد بات قريباً جداً،
… ولعل حرب القرار الماروني هي آخر الحروب قبل حرب السلام الموعود!

Exit mobile version