طلال سلمان

على الطريق حرب ابني الطائفة الممتازة أم حرب الدولة على الميليشيا؟

“حرب القرار الماروني” التي شهد لبنان واحدة من أعنف جولاتها، خلال اليومين الماضيين، تعيد طرح جملة من المسائل التي من شأنها أن تمظهر حدة المأزق الذي تعيشه الطوائف عموماً وتفرض على لبنان أن يتمزق داخله!
*أولى هذه المسائل – غياب ما هو “سياسي”، أي ما هو عام، وبالتالي ما له سمة الشأن الوطني.
صحيح إن البلاغات الحربية التي تصدرها القوى المصطرعة على قيادة الطائفة تكثر فيها التعابير الفخمة الكلمات المدوية الوقع عن الحرية والسيادة وما فيه خير البلاد والعباد، ولكن كل ذلك الركام من التبريرات والشعارات البراقة، لا يعدو كونه قنابل من دخان لإخفاء ضآلة موضوع الصراع، وانقطاع صلته بالهم الوطني العام.
*ثانية هذه المسائل – اعتبار الأمن المدخل الأوحد إلى الحل ، وإعطاؤه الأولوية المطلقة على كل ما عداه من سياسة واقتصاد وثقافة وشؤون اجتماعية.
فإذا كان الأمن هو المدخل للسيطرة، وبالتالي للتحكم بالقرار، فمن الطبيعي أن يغلب الهاجس الأمني على الأوهام التي سبق للتنظيم المعني أن باعها للناس بوصفها “أهداف نضاله” من أجلهم!!
*ثالثة هذه المسائل – إن المقاتل من أجل احتكار القرار داخل الطائفة لا يستطيع الاستقواء إلا بالطائفيين الآخرين، هو لهذا يرسل إليهم إشارات ورسائل واضحة مفادها إننا نخوض المعركة ذاتها فادعموني.. وغالباً ما يكون الصمت هو الدعم المطلوب!
وأكثر ما يزعج هؤلاء أن يأتيهم الدعم ممن يتوهمون أن انتصار طرف على طرف آخر داخل الطائفة الواحدة هو لخير الوطن، بدولته وشعبه والمؤسسات.
ولننتقل من التعميم إلى التخصيص أي إلى حرب القرار الماروني المستعرة الآن بين قائد الجيش – رئيس الحكومة العسكرية العماد ميشال عون، وبين قائد “القوات اللبنانية” سمير جعجع، والتي نجح البطريرك صفير في أن يجمدها بهدنة قد تقصر وقد تطول، في انتظار اتفاق “سحري” يلغي أسبابها المنطقية.
طوال ثمان وأربعين ساعة متصلة، تقريباً، هدرت المدافع على امتداد المساحة بين كفرشيما وضبية، وبين عين الرمانة والمونتفردي في أعالي المتن الشمالي، شنت هجمات وصدت هجمات، اجتيحت مناطق ودمرت ثكنات، سقط عشرات القتلى وحوالي مئتي جريح، ولحقت بالمواطنين في “المجتمع المسيحي” خسائر تقدر بالمليارات.
كل ذلك من دون كلمة واحدة في “السياسة” تشرح أو تبرر أو تفسر أو تطلق وعداً ما بتغيير ما لإنهاء أسباب “الاشتباك” الذي تحول إلى “حرب” لا يمكنها نسبتها – ببساطة – إلى شجرة العائلة الخاصة بـ “حرروب الآخرين على أرضنا”!
كانت بلاغات الجيش تقدم صورة جزئية عن التحركات الميدانية، بلهجة عسكرية جافة، وكأن ذلك من طبائع الأمور، أو كأنه شأن ثانوي لا يهم الناس ولا يمسهم من قريب أو بعيد،
كان الأمر في هذه البلاغات مجرد تعديات من مسلحين (غير محددي الهوية) على سيارات عسكرية أو على مواقع أو ضباط أو رتباء أو جنود،
في حالات معدودة أشارت هذه البلاغات، وعلى استحياء شديد، إلى أن هؤلاء المسلحين (المجهولين دائماً) يحصلون أتاوات ويفرضون خوات ويصادرون بعض حقوق الدولة في مرافقها وفي عائداتها المالية،
أما بلاغات “القوات”، والجو العام لقصفها الإعلامي الغزير، ناهيك بالتصريحات الملتوية التي أدلى بها بعض قيادييها، فكانت جميعاً تركز على توجيه تهمة خطيرة للعماد عون هي : العمل بالسياسة!
فالعماد عون متهم بالتحالف مع سوريا، وتحركه نحو إقامة بيروت الكبرى عمل مشبوه لا يستفيد منه إلا “الدخيل”، وبالتالي فهو يريد القرار الماروني لكي يبيعه لمن يقدم له منصب رئاسة الجمهورية على حساب الطائفة و”حقوقها التاريخية”!
ولما كانت “القوات” تملك مشروعاً سياسياً معلناً، يمكن إيجازه بكلمة الفيدرالية، بغض النظر عما يعطى لهذه الكلمة من مضامين تقسيمية،
ولما كان العماد عون قد قصر مواجهته السياسية والإعلامية في حدود الاشتباك الأمني، الذي يمكن أن يسوى بوساطة وببساطة، فقد بدا وكأنه يخوض معركة بلا أفق سياسي مفتوح على الآخرين…
لأمر ما، لا نظنه قصوراً عن الرؤية، امتنع العماد عون عن التصرف بما يمليه عليه موقعه “العملي” كرمز للشرعية، للدولة المعتدى عليها، للجيش الملغى دوره والمطعون في كرامته بسبب طغيان الميليشيا وتحكمها بالأرض والناس.
لقد تصرف وكأن أقصى طموحه هو المشاركة في السلطة الفعلية داخل “المجتمع المسيحي” وليس استحضار الدولة وتمكين جيشها من إقامة سلطتها على “المناطق المحررة” بل على بيروت الإدارية وحدها، طالما يتعذر عليه ممارستها فوق الأرض اللبنانية كلها،
وفي تقدير بعض المراقبين فإنه حاول أن يكون ممثلاً لنصف القرار المسيحي أو الماروني بدل أن يحاول الإفادة من هذه الفرصة التي أتاحها – حسب بلاغاته – تحرش “القوات” ليقدم نفسه في صورة الطامح (وصاحب الحق، مبدئياً) لتمثيل القرار الوطني والمتصدي لتنفيذه، بالقوة الشرعية الباقية للدولة المصدعة الأركان.
من هنا افتقد المواطنون داخل بؤرة الصراع، أي في المناطق الشرقية، صورة الدولة التي لا شك في احتياجهم إليها، ولا شك في تشوقهم إلى عودتها مرجع حقيقي لهم في مختلف شؤونهم، بدل أن تظل الميليشيا المرجع الاضطراري الذي يعودون إليه كارهين في ظل غياب أو تغييب الدولة ومؤسساتها، وبينها الجيش.
كذلك افتقد المواطنون خارج دائرة النار، أي في المناطق الأخرى، بدءاً من بيروت الغربية وانتهاء بالناقورة والنهر الكبير، صوت الشرعية التي تتوجه إليهم، باسم الدولة، وتعدهم بتجددي وحدة الأرض والشعب والمؤسسات، انطلاقاً من التصدي المباشر للميليشيا الأخيرة (والأقوى) التي عاشت طويلاً وما زالت في حضن الدولة ومؤسساتها حتى تماهت معها وكادت تلتهم بقاياها.
لقد حاصرت “القوات” العماد عون بالمنطق الطائفي الذي لم يستطع التحرر منه، وبمجرد أن وقع أسير هذا المنطق فقد الفرصة لكسب الحرب… فهو ينتهي إذا صار مجرد ممثل للطائفة ، بينما “القوات” تنتهي إذا خرجت منه وعليه.
وبهذا المنطق يتقزم الحدث إلى اشتباك بين “أخوة – أعداء”، وكأنما طرفا الاشتباك تنظيمات مسلحان “شقيقان” بوصفهما ابنين للطائفة – الأم ذاتها.
ليس قصد هذه الكلمات تحريض طرف ضد طرف، أو إشعال نار الفتنة بين أهلنا وأبناء عشيرتنا في المنطقة الشرقية… ذلك إن الفتنة لا تبني أوطاناً، والطائفية تستسقي الطائفية التي تلغي الدولة والشرعية والوطن والمواطنين،
لقد كان الشعور العام الذي عاشه الناس جميعاً خلال يومي حرب القرار الماروني هو الحزن لا الشماتة،
ولعل أكثر ما أحزنهم إن هذه الحرب أيضاً، قد أضعفت فكرة الدولة (وجيشها) بدل أن تقويها،
والناس في الغربية، كما في الشرقية، يريدون الدولة لا الميليشيات، ويحلمون بالسلام ويريدون أن ينتهي هذا المسلسل المريع من حروب الطوائف التي تكاد لا تبقي إنساناً سليماً أو حجراً على حجر في لبنان الذي كان أخضر،
الناس مع الجيش، عندما يكون جيش الدولة لا ميليشيا إضافية، ولا قوة عسكرية احتياطية لضمان تميز أو تمايز طائفة على سائر الطوائف،
وما زالت الفرصة متاحة أمام الجيش لأن يقدم نفسه كرمز للدولة الغائبة، بدل أن يكون عامل تغييب إضافياً بتحوله إلى ميليشيا أخرى للطائفة ذاتها يقاتل قائدها القائد الآخر على اقتسام القرار الماروني… برعاية البطريرك الذي صار لجنة أمنية للطائفة الممتازة التي تسير وتأخذ البلاد معها في طريق الانتحار الجماعي.
الدولة هي المدخل إلى الحل.
فهل الدولة أقوى في نفس العماد عون وفي تفكيره من الطائفة، أم العكس؟!
… وفي انتظار الاشتباك الآخر، أو الحرب الطائفية الأخرى، في الشرقية أو في الغربية، سيظل الحل بعيداً ما ظلت الدولة، فكرة ومؤسسة، غائبة أو مغيبة تحت سنابك الطائفيين… وكلهم أخوة – أعداء!!

Exit mobile version