طلال سلمان

على الطريق حرب إسرائيلية بديل السلام الأميركي؟

كالعادة، غيّرت إسرائيل طبيعة الموضوع المطروح لتستعيد الموقع الهجومي بدل أن تبقى في موقع دفاعي ضعيف نتيجة تعنتها ورفضها لأية تسوية في المنطقة، ولو بشروط مهينة عربياًز
إلى ما قبل أسابيع كان الموضوع: مبادرة بوش وخطة وزيره جيمس بيكر لتنشيط جهود التسوية وصولاً على مؤتمر السلام العتيد الذي أجهضته إسرائيل ونسفت احتمالاته لتقيم فوق أنقاضه آلاف المستوطنات لليهود الجدد الذين استقدمتهم من أفريقيا، هذه المرة، بفضل الجسر الجوي الأميركي “الأكبر في التاريخ”!!
أما في الأيام الأخيرة، فقد بدأت إسرائيل – ومعها الدوائر الصهيونية في الإدارة الأميركية – تنظيم هجوماً مضاداً شاملاً يقفز من فوق موضوعات التسوية ليركز على خطورة الأسلحة الهجومية التي يمتلكها الجيش السوري، وعلى “الإرهاب” السوري، انتهاء بالحديث عن اجتياح لبنان وتحويله إلى “محمية سورية” قد تتخذ منطلقاً للهجوم على الكيان الصهيوني.
فجأة تم “اكتشاف” صواريخ صينية في طريقها إلى سوريا، التمي تمتلك أصلاً هذا السلاح ومنذ فترة بعيدة.
وبرغم النفي الصيني، فقد أوفدت واشنطن من يحقق ويدقق في بكين، فلما أعوزه الدليل ظل على تشككه ليبقى الاتهام سيفاً مصلتاً على سوريا التي تنوي الاعتداء على الحمل الإسرائيلي الضعيف!
فواشنطن شديدة القلق على سلامة إسرائيل التي لا تملك من السلاح النووي إلا بضع عشرة قنبلة ذرية، ومن الصواريخ البعيدة المدى بضعة آلاف، ومن الصواريخ المضادة للصواريخ بضع مئات من “الباتريوت” التي نظم لها جسر جوي أميركي دخل التاريخ هو الآخر كإنجاز متمم لإنجاز إنهاء حرب الخليج من دون حرب!
… وفجأة تم “اكتشاف” صفقة دبابات تشيكية لحساب الجيش السوري، فتحركت واشنطن وحركت الدنيا استنكاراً واحتجاجاً لهذا العمل العدواني ضد إسرائيل التي يقاتل جيشها بالنبابيت ولم يعرف الآليات والمركبات والمدرعات بعد!
… وفجأة أعيد اكتشاف وتظهير دور “الإرهاب السوري” في زعزعة النظام العالمي الجديد، من قبل أن يولد،
وفجأة أعيد اكتشاف “التصلب السوري” و”التعنت السوري” و”الرفض السوري” لكل عروض السلام الإسرائيلي والأميركي،
في غمرة هذه الاكتشافات “ضاعت” مبادرة بوش، واختفت خطة بيكر، وسقط سهواً مؤتمر السلام الذي تريده إسرائيل مجرد كرنفال دولي للاستسلام العربي… تعميماً للفضيحة!
اليوم، تقدمت إسرائيل خطوة أخرى في هجومها المضاد، فبدأت بلسان وزير خارجيتها تشيع جواً حربياً، وكأنما تمهد لعملية عسكرية تنوي القيام بها ضد سوريا، بذريعة “استباق” الهجوم السوري المرتقب… بالدبابات التشيكية التي لما تصل، والصواريخ الصينية التي لما تبع، والصواريخ الكورية الشمالية التي لما تصنع بعد…
في السياق ذاته، ركزت إسرائيل – وركز معها الخبراء والمحللون والمراقبون والمطلعون الخ – على خطورة معاهدة الأخوة التي عقدها لبنان مع سوريا مؤخراً، على الأمن الإسرائيلي، واستطراداً على نظام الأمن الإقليمي العتيد، والنظام العالمي الجديد، ومن ثم… على مستقبل جورج بوش السياسي، واحتمالات فوزه في معركة التجديد ثم التمديد لنفسه عبر وزيره الممتاز جيمس بيكر.
صارت “المعاهدة” المصاغة بأكثر العبارات عمومية، في مثل خطورة مفاعل ديمونا الذري في صحراء النقب، وأقوى تدميراً من مخازن السلاح الأميركي في الكيان الصهيوني والتي استبقاها ديك تشيني هناك “تحسباً لحرب محتملة في المنطقة”، لعلها هذه الحرب التي تشيع إسرائيل الأجواء الممهدة أو المبررة لها الآن…
فكيف، بالله عليك، يمكن للبنان وسط جو مضطرب ومكفهر كهذان أن يطالب واشنطن بالضغط على إسرائيل التي ترتعد فرقاً من المعاهدة، لكي تنفذ القرار 425 فتنسحب من الجنوب وبعض البقاع الغربي؟!
بأي عين ستواجه الإدارة الأميركية الرجل الطيب إسحق شامير، المشغول بمواجهة المطالب الملحة للمستوطنين الجدد، فتفرض عليه انسحاباً جديداً من أراض قد تستخدم منطلقاً للهجوم الشامل على مواطنيه العزل القادمين حديثاً من أصقاع العالم الفقير والمتخلف في دول الستار الحديد (سابقاً) وأفريقيا السوداء؟!
لقد استقدم هذا “القديس” مئات الآلاف من المضطهدين لكي يحررهم من الذلة والمهانة والاضطهاد “القومي”، ومن حقه أن يوفر لهم الأمن، فلا تقلقهم في أرض الميعاد التي عادوا إليها أخيراً تنفيذاً لكلمة الرب، صواريخ صينية أو كورية أو سوفياتية يتحكم بإطلاقها الإرهابيون السوريون، الذين لم يكتفوا برفض السلام الإسرائيلي بل هم حرضوا عليه أيضاً الفلسطينيين، ولجموا اندفاعة أردنية محتملة في اتجاهه، ولو بثمن باهظ.
لم يعد الرفض الإسرائيلي لمبادرة بوش من أجل التسوية هو الموضوع،
ولم يعد الرفض الإسرائيلي المهين للأمم المتحدة ودورها الطبيعي والضروري في أية تسوية محتملة، هو الموضوع،
ولم تعد عمليات الإبادة المنظمة لشعب فلسطين ومحاولة اقتلاعه من أرضه وزرع المستقدمين اليهود من شتى أنحاء الكون في الأراضي العربية المحتلة هي الموضوع،
ولم يعد السلاح الذري الإسرائيلي مثلاً هو الموضوع،
صار الخطر السوري على سلامة إسرائيل هو الموضوع الأوحد على جدول أعمال النظام العالمي الجديد،
لكأننا عشية عدوان إسرائيلي جديد يتم التسويق له جيداً في الولايات المتحدة وأوروبا وسط شلل الاتحاد السوفياتي وعجزه عن منع أية مغامرة عسكرية جديدة،
لكأن إسرائيل تستثمر الهزيمة العربية في حرب الخليج حتى الثمالة، وتكريس نفسها شريكاً أساسياً للقطب الكوني الأوحد (الولايات المتحدة) في كل ما يتصل بالمنطقة العربية والعالم الثالث عموماًز
لكن الحرب قرار أخطر من أن يتفرد به إسحق شامير ومن معه، فأين واشنطن جورج بوش من هذا كله؟!
وهل الهدف من نشر جو الحرب الابتزاز السياسي فقط، أم هو يتعدى ذلك إلى استعداء الولايات المتحدة على دمشق ومن ثم استفراد سوريا وتوجيه ضربة إلى قدراتها العسكرية… وهي آخر قدرات عربية يعتد بها في مواجهة الكيان الصهيوني المسلح حتى أسنانه؟!
هل هو الصوت في تل أبيب أم الصدى؟!
دمشق وحدها تعرف الجواب، وهي أيضاً تملك الجواب، في ضوء خبرتها الطويلة بالعلاقة الأميركية – الإسرائيلية.
“عين النسر”
بالرزانة التي يتميز بها الفرسان، انسحب اللواء سعيد بيرقدار من الميدان الذي عرفناه فيه، ملتحقاً بالميدان الآخر الذي انتدبه إليه الرئيس حافظ لاأسد في حضن جامعة الدول العربية.
وهي خاتمة طيبة لهذا القائد العسكري الذي حافظ على أصفى مشاعر الأخوة تجاه لبنان واللبنانيين، حتى في أحلك الظروف، مقدماً صورة ممتازة للجندي السوري والتوجهات القومية لدى قيادته.
لقد انتقل سعيد بيرقدار من القيادة العسكرية العملانية، على رأس القوات السورية العاملة في لبنان، إلى الجامعة العربية، كأمين عام مساعد للشؤون العسكرية، وقد أنضجته التجارب العملية والثقافة السياسية والعلاقة المباشرة بالأرض والناس، بما يشكل إضافة نوعية إلى جهاز هذه المؤسسة التي تحاول استعادة روحها ووعيها ودورها في العمل القومي العربي، ولو بالحد الأدنى.
وعلى امتداد السنوات العجاف، وتقلباتها الحادة، ظل سعيد بيرقدار على إيمانه بوحدة الأمة وبخصوصية العلاقة بين لبنان وسوريا، وبأن دور العسكريين هو آخر الأدوار في مسالة سياسية على هذا القدر من الحساسية والخطورة.
كان من موقع قيادته على الخط الفاصل بين “الشعبين في دولة واحدة”، غير بعيد عن موقع خيمة الراحلين الكبيرين جمال عبد الناصر وفؤاد شهاب، يعي طبيعة دوره ودقة مهمته… وكان “القومي” فيه أقوى من “السوري”، و”المسؤول أقوى من “العسكري”، ولعل استرشاده بقيادته في دمشق، كان يمده بكل ذلك الهدوء وضبط الأعصاب والود المشاع “للناس الطيبين”.
ولسوف يفتقد اللبنانيون صديقهم “أبا أيمن” ابن “عين النسر”، من أعمال حمص، لكن الجامعة العربية كسبت بالتأكيد وجهاً يوحي الثقة والجدية والدأب… من أجل غد أفضل، سيأتي ذات يوم، مهما كان بعيداً.

Exit mobile version