في حوار قديم مع أمير دولة الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح تساءل أمامي بشيء من اليأس، بعدما استحلفني أغلظ الإيمان ألا أنشر (في حينه) حرفاً على لسانه:
-والله يا أخي، إننا نريد أن نفعل أقصى ما نستطيع فعله من أجل لبنان وأشقائنا اللبنانيين. لبنان أعز علينا مما تتصورون، ولعلنا في الكويت أكثر من استفاد بتجربته المميزة. لبنان “وايد” على قلبنان – “وايد” بالكويتي، أي “واجد”، أي “ياسر” بالتونسي والجزائري، أي “أوي” بالمصري، أي “كثيراً” بالعربي – … ولكننا، بصراحة، لا نعرف كيف. لقد دعونا معظم الأطراف، ومن مختلف الطوائف، واستمعنا إليهم، فزادت حيرتنا وتبلبلنا. كل له طرحه الخاص المتعارض مع سائر الطروحات. الكل يظهر استعداداً للحوار والتفاوض والقبول بوجهة نظر الآخر، ولكن بشرط أن يسلم هذا سلفاً بصحة وجهة نظره هو. ولما لم يكن في قدرتنا أن نبذل ما يتجاوز النصح الأخوي أو أن نقدم غير النوايا الطيبة، فقد فضلنا أن نترك الأمر لمن هو أقدر منا وأولى بحكم القرب والمعرفة المباشرة بالأماكن والناس والطروحات وخلفياتها… بصراحة، إننا نرى أن سوريا أدرى منا بالشأن اللبناني، ونحن معها، وعسى الله ما يكون إلا الخير.
والشيخ جابر يومئ ولا يفصح، أما شقيقه الشيخ صباح فيقول متجاوزاً، إذا اقتصى الأمر، الحدود التي تفرضها منصبه على رأس الدبلوماسية الكويتية، ربما لأن قدم عهده بهذا المنصب قد جعله يعرف ما يعطيه حق الكلام المباح…
المهم إن الشيخ صباح، أوضح في اليوم التالي مرامي شقيقه الأكبر المشهور بالميل إلى الصمت والتقتير حتى في الكلام والدقة في الحساب، إذ يكاد يكون ولد في وزارة المالية (التي انتقل منها إلى رئاسة الدولة)… قال الشيخ صباح مستعيراً بعض التعابير اللبنانية:
-“أقول”… (أو “أقول” بالكويتي استهلال للكلام يراد به، ربما، لفت النظر أو استدراج التركيز) أنتم والله تطيرون عقل “الريال” – “الريال” بالكويتي هي الرجل بالفصحى وجمعها “رياييل” – ! يجيء السياسي منكم فيقول في الغرفة نقيض ما يقوله في تصريحاته اليومية، من يمتدح عرفات كل يوم يشتمه متى اطمأن إلى أن أحداً غيري لا يسمعه، ومن يمتدح الموقف السوري يشهر به أمامي، ولكني إذا ذهبت إلى دمشق أجده ينتظر بالأيام موعداً مع مدير مكتب هذا المسؤول السوري أو ذاك… من يرفع راية الإسلام يهمس في ذهني ما مفاده: هذا للدعاية، أما حقيقة رأيي فهو إن قيادة البلاد يجب أن تبقى للمسيحي!! والمسيحي المتطرف، المتهم بذبح المسلمين، يكاد يتلو على مسمعي آيات من القرآن الكريم تدليلاً على عدم تعصبه… من تريدنا أن نصدق؟!
وحين لاحظ الشيخ صباح إنني انتظر رأيه الحقيقي، لا توصيفه الكاريكاتوري، فرد ابتسامته ملء وجهه وقال:
-فهمت، الموضوع أكثر تعقيداً مما أقول، لا يتوقف الأمر على سلوك هذا أو ذاك من السياسيين، فهم بالنتيجة أسرى مواقف يفرضها منطق الحرب والصراعات المتعددة الشعارات والساحات بين القوى المؤثرة على سير الأحداث في المنطقة… ثم إننا نعرف حجمنا، ونعرف إننا الآن غير مطلوبين وغير نافعين… ولقد أبلغنا العديد من الزعماء اللبنانيين رأينا: – طالما إنكم ترون الحل والربط بيد سوريا فلماذا لا تذهبون فتتفاهمون معها؟! أنتم تريدونها وتحتاجونها، فاذهبوا إليها مباشرة، وعسى الله يكون الخير!
لا الكويت هي اليوم ما كانت عليه قبل سنين، ولا هي تستطيع أن تباهي العالم بأنها “لبنان الثاني”، على مزيد من الغنى، وفي مساحة مدينة تمطها خبرات التجار الشطار من أبنائها لتجعلها موجودة في أسواق العالم المالية جميعاً، وعبرها في مختلف المنتديات السياسية،
ولا لبنان اليوم هو لبنان الماضي. لقد تحول من “قدوة” ومثل أعلى للمعجبين بتجربته ونظامه الفريدين، إلى وباء يهرب منه الأصحاء وتتبارى الدول في تطمين شعوبها: لن نسمح بقيام لبنان جديد على أرضنا،
على إن الكويت قد خسرت، من دون حرب أهلية وربما بذريعة تجنبها، ما لم يخسره لبنان كلية بعد برغم الحرب الأهلية،
خسرت الكويت تجربتها البرلمانية، وكانت واعدة، وأفقدت نفسها بعض الرصيد الطيب الذي كانت وفرته لها حرية صحافتها الطالعة بزخم شوق الكفاءات العربية المتعددة “الجنسيات” إلى تجربة شبه ديموقراطية في الوطن العربي،
فليس اختلاف الرأي أو تعدد الأصوات والطروحات السياسية هو الذي دمر التجربة اللبنانية، ولا الحجر على الآراء والأصوات والأفكار يمكن أن يحمي أي نظام في أي بلد.
وبهذا المعنى فإن الوضع العربي المتردي، أو الزمن العربي الرديء كما يقول أصحاب علم الكلام في هذه الأيام، هو المتسبب في تسعير ا لحرب بلبنان، بسبب جنوح حكامه نحو الدكتاتورية والانغلاق والطغيان في الداخل، وفي المقابل جنوحهم نحو التفريط والتخاذل والانقياد لتبعية الخارج،
والوضع العربي المتردي، إياه كان عاجزاً – بطبيعة الحال – عن توفير الضمانات للمواطنين، فرادى أو جماعات (أديان، طوائف، مذاهب، عناصر، أحزاب الخ) في أي قطر عربي، وكان من الغفلة أن يتوجه إليه عليل طالباً منه العلاج والدواء الشافي، فهو يقدم أسباب المرض ويرعاه ويكافح العافية لأنها تهدده.
نقول هذا الكلام لنعيد التوكيد على جملة من الشروط التي نفترضها ضرورية لنجاح مهمة اللجنة العربيةز
*الشرط الأول – إن الحل للبنان “عربي” بالضرورة، بمعنى إنه مسؤولية عربية جماعية (أي قومية، بلغة الماضي)! فأخطر ما أصاب لبنان، وما فاقم فيه الحرب الأهلية، إنما نجم عن الفشل العربي في الالتزام بموجبات الصراع مع العدو الإسرائيلي.
حتى الدور الفلسطيني يحاسب، إذا ما حوسب، بهذا المنظور وليس بواقع التجاوزات أو مظاهر التسلط، فهي نتيجة.
والوجود السوري يرتكز، أساساً، إلى هذه الحقيقة، وهو قد تطور وتعزز واتسع مداه وتزايدت مبرراته العملية والواقعية بصورة طردية مع تفاقم الاختراق الإسرائيلي للنسيج الاجتماعي في لبنان، وهو الاختراق الذي أدى – في جملة ما أدى إليه – إلى انهيار الدولة الضعيفة أصلاً والمتهالكة بسبب قصورها الذاتي.
*الشرط الثاني – إن التعاطي مع الطوائف كأطراف سياسية أمر شديد الخطورة. صحيح إن التنوع الطائفي واقع لبناني، لكن أي افتراض أن لبنان هو مجرد طوائف لن يقربنا من الحل بل سيبعدنا عنه.
إن في لبنان شعباً، كما في أي بلد، يتوزع أبناؤه على عدد من الأديان والطوائف والمذاهب، ولكن الرابط بينهم وطني بالضرورة، وانتماءهم بمجموعهم عربي بالضرورة… وإلا فما الداعي إلى لجنة تشكلها جامعة الدول العربية؟! وهل صار الشيخ صباح ومن معه خبراء في مسائر اللاهوت والفقه وأعضاء في مؤتمرات الحوار الإسلامي – المسيحي والتقريب بين المذاهب؟!
ثم إن ممثلي عسكرة الطوائف وتسييسها مجموعة من المفلسين سياسياً لم يستطع واحد منهم أن يقدم “لأبناء مجمعه” غير الدمار والقتل والبؤس والتهجير والانعزال و”إغراءات” الانتحار الجماعي.
فهل ستكون مهمة اللجنة حجز أدوار لهؤلاء “الأبطال” في المستقبل بعدما دمروا حاضر لبنان وشعبه؟!
إن الانطلاق من أن المسألة طائفية وليست سياسية سينتهي باللجنة إلى طريق مسدود أو إلى اقتراح تسويات تافهة لا تحل شيئاً، بل هي قد تبرر إطالة أمد الحرب إلى ما شاء الله.
وبهذا المعنى فإن الديموقراطية علاج بقدر ما الطائفية مرض، والتعدد السياسي مطلوب وضرورة بقدر ما هي مرفوضة بدعة التعددية الحضارية والاثنية و”القومية” الخ…
وبهذا المعنى أيضاً فإن الحريات السياسية هي موضوع النقاش وليست حرية المعتقد الديني التي لم يحجر عليها أحد لا في لبنان ولا في دنيا العرب..
وبهذا المعنى أيضاً وأيضاً فإن حقوق الإنسان هي المطروحة كمدخل إلى الاصلاح السياسي الضروري وليست حقوق الطوائف، التي ستصنف – تاريخياً – بين أسباب الحرب القذرة التي شوهت صورة العرب جميعاً وليس اللبنانيين منهم فقط.
فبين الموارنة محرومون لم يتسبب في حرمانهم إلا الموارنة الممتازون،
وبين المسلمين مغبونون سلمهم إلى الغبن أشقاؤهم المنعمون في رحاب الإسلام!
*الشرط الثالث – إن لبنان بكل بنيه بحاجة إلى ضمانات عربية،
ضمانات لوجوده المهدد والتهديد إسرائيلي أولاً وأخيراً…
وضمانات لوحدته المطروحة للنقاش!! والمفاضلة مع مشاريع تقسيمية معلنة.
وضمانات لدولته التي منعها الخلل القديم في النظام (المموه بحقوق الطوائف وامتيازاتها) من أن تكون دولة حقيقية.
وبصراحة جارحة : فإن المسلم بحاجة إلى ضمانة مثله مثل المسيحي.
وإذا كانت امتيازات الطوائف لم تضمن لأحد موقعه أو حياته أو رزقه ناهيك بمستقبله، فإن الضمانات العتيدة للدولة، كدولة، ولأبنائها، كمواطنين، هي المطلوبة والضرورية.
إنها فرصة لأن يرتقي المسؤولون العرب بتفكيرهم وبرؤيتهم المعاصرة، عبر لبنان ومأساته إلى ابتداع وتوفير حل سياسي ناجح لمشكلة معقدة قديمة حولها الاهمال والارتجال والتبسيط ونفاق الغرب إلى حرب مدمرة.
*الشرط الرابع – لقد تعود العديد من الحكام العرب أن يذهب إليهم بعض اللبنانيين ليتواطأوا معهم على سائر اللبنانيين، واعتمدت فئات لبنانية على هذا “التواطؤ” لتفرض نفسها موقعاً ممتازاً، أو لتمد في أجل الحرب بذريعة إنها الطريق إلى رفع الغبن،
وطالما إن العرب مجتمعين سيستمعون إلى ممثلي اللبنانيين مجتمعين، فلا ضرورة “للتواطؤ”، بل لا بد من مواجهة الجميع بمنطق “قومي” موحد يعكس الحرص على لبنان وطناً لجميع أبنائه، ودولة عصرية تعود قدوة لسائر العرب في مختلف أقطارهم.
لا الكويت هي اليوم ما كانته قبل سنين، فلقد اكتوت بنيران الحروب ما يكفي لأن تعرف ما لم تكن تعرفه من قبل… ثم إن معها دولاً عظيمة الخبرات، كالجزائر، أو واضحة الواقعية والعقلانية، كتونس، ومعها المتأدب الذي صار سياسياً يحاول أن يحافظ في نفسه على شيء من السذاجة باعتبارها ضرورة للإبداع، كأمين عام الجامعة الشاذلي القليبي،
ولا لبنان اليوم هو لبنان الماضي، ولا هو – برموزه الراهنة وبسياستهم المعلنة – قابل لأن يكون وطناً في المستقبل.
واللجنة العربية مطالبة بمزيد من التفكير والدرس والتعمق في فهم العوامل والأسباب والخلفيات التي حولت مسألة لبنان إلى أزمة عربية وكادت تجعله مأزقاً خطيراً لأمته.
ولكنا مطالبة، قبل ذلك، بحماية أو استنقاذ ما كان موضع إعجاب في لبنان القديم، بحيث يكون في المستقبل أيضاً رئة تمد أشقاءه العرب بمزيد من الأوكسجين الضروري للحياة.
… بشرط ألا يكون الرئة الوحيدة، وإلا تلفت وقضى المريض العربي اختناقاً لنقص الهواء… نقص الحرية.