طلال سلمان

على الطريق حجر يثقب ليل الهزيمة: من أجل 6 حزيران؟

العصر الحزيراني يجر أذياله فوقنا بعد، ويمد ظله العالي علينا فيكاد يطمس ملامحنا وأسماءنا وتضاريس أرضنا ومعالم تاريخنا.
لكأننا مخلوقات “حزيرانية”، نهرب من العدو الصغير إلى العدو الكبير، و”نرتاح” في المسافة الخانقة بين “الأصل” و”الفرع” في سديم حكم عاجز إلا عن إلغائنا – كبشر – بحجة التفرغ لمواجهة أبعاء نزال العدوين والانتصار عليهما بدعاوى السلام الكسيح!َ
بعد 5 حزيران 1967 جاءنا 4 حزيران 1982.
بعد 5 حزيران صار تاريخنا يتقدم إلى الخلف.
وها نحن، على المستوى المحلي، نطلب فلا نعطى توحيد الضاحية وبيروت، ضبيه وجونيه، الدورة وسن الفيل، صيدا وشرقي صيدا، النبطية وبنت جبيل، جباع وجرجوع، جزين وباتر، البترون وجبيل، صور والناقورة، بربور وبرج أبي حيدر، ناهيك بتوحيد الحكومة (الناقصة) والحكم المشلع الولاءات والتوجهات، وأهل الطائف في الداخل والخارج،
أما على المستوى القومي فنكاد نحتاج إلى توافق على المعنى الفعلي لكلمة “قومي”، ثم لموجباتها،
يكفي أن نستشهد بقمة بغداد الاستثنائية… والاستثناء فيها إنها لم تنفجر من الداخل، ولم تؤد – حتى الساعة – إلى مزيد من التفجرات والانفجارات في الوضع العربي المتردي إلى حافة الحرب الأهلية في أربع رياح الأرض العربية.
دوي القصف العاصف ما يزال يملأ الوجدان والذاكرة ويحكم حركة اليد ونبض القلب الواهن.
والقنابل العنقودية ما تزال توالي تفجرها، وكل الكائنات والأمكنة والوقائع تتشظى فاقدة العلاقة بأصلها، منتثرة نتفاً نتفاً لا يربطها رابط ولا يحكمها قانون حركة.
“مرفوضة العودة إلى ما قبل 4 حزيران 1982”.
ومرفوض التقدم إلى ما بعد 5 حزيران،
مسموح فقط البقاء في منطقة انعدام الوزن والتأثير، معلقين بعقارب ساعة تدور عكس الساعة، عكس التاريخ، عكس خط سير العالم.
ومسموح أن نبقى في حمى حكامنا والمتحكمين بنا وجلهم من أبناء 4 حزيران، إلا قلة من مواليد 5 حزيران ومن حملة إرثه المجيد.
لو سقط 4 حزيران لسقطوا.
لهذا ممنوع العودة إلى ما قبله، وممنوع أيضاً التقدم إلى ما بعده… وبعده في أي حال، الثالث من حزيران!
بعد 5 حزيران حاولنا، على الأقل، قاتلنا،
بعد 4 حزيران، وبأفضال الحاكمين والمتحكمين، لم نقاتل، فاقتتلنا ولما نزل!
بعد 5 حزيران حاولنا، على الأقل، الحفاظ على أصدقائنا وتحديد موقف من أعدائنا،
أما اليوم فنكاد نكون بلا صديق في الدنيا كلها، ونكاد نكون – ويا للمفارقة – بلا أعداء، إلا بعض أشقائنا وبني عمومتنا الأقربين!
وها هي قمة بوش – غورباتشوف تمضي في سياقها وكأن قمة بغداد لم تكن، وكأن قمة القاهرة العتيدة بعد خمسة شهور، أتفه من أن يحسب لها حساب.
فلقد اختلف الأميركي الأعظم مع السوفياتي المستضعف على كل المواضيع الحساسة، إلا ما يعنينا وما يمس مصيرنا ومستقبل وجودنا فوق أرضنا.
لإسرائيل، ما تطلبه من يهود العالم وأمواله، من أسلحة الدمار وحق التصرف داخل فلسطين وبامتداد الأرض العربية،
لإسرائيل المفاعلات النووية والقنابل الذرية، أحدث ما تنتجه المصانع الأميركية والبريطانية والفرنسية والألمانية الخ من طائرات وقذائف واسلحة كيماوية واقمار صناعية وصواريخ وصواريخ مضادة للصواريخ وسائر المبتكرات العلمية، بل ولها أن تدعي إنها هي المبتكرة والمبتدعة ومكتشفة ما لم يسبقها علماء الدنيا إلى اكتشافه.
لإسرائيل الاعتذار عن الماضي والتعويض عما لم تفقده أصلاً لأنها لم تكن موجودة.
لإسرائيل حق الادعاء بأن كل يهودي هو مواطن فيها، بمن في ذلك من مات مواطناً ألمانياً أو فرنسياً أو بريطانياً أو بلجيكياً،
ولها الحق في أن تمنع شق طريق في القاهرة، بحجة إنه يقض مضاجع بعض الموتى اليهود ممن عاشوا وماتوا مواطنين مصريين،
لها الحق في مصادرة الماضي والحاضر والمستقبل،
أما العربي فليس له حق العيش، مجرد العيش، في أرضه.
وها كل فلسطيني جريح أو شهيد يروي بدمه تراب فلسطينه، ولكن الإسرائيلي القاتل ليس في نظر العالم قاتلاً، وليس حتى متهماً بالقتل، بل هو “ضحية” أو مهووس بتأثير الخوف وعقدة الاضطهاد التاريخي!!
وها كل لبناني مضيع اليوم والغد، مهجر من أرضه أو مهجر فيها،
وها الأردني على كف العفريت الإسرائيلي،
وها المصري المستنزف بإذلال العجز عن المواجهة يخضع لابتزاز مهين إذ يخير بين كرامته وبين خبزه اليومي، بين الاستسلام المطلق أو الحرب الأهلية بذرائع طائفية تكاد تنهي ضمان استقراره وسلامته: الدولة المركزية القومية.
وها هو السوري محاصر بالشلل العربي العام، يحاول تعويض غياب الغائبين وانشغال الذين شغلوا أنفسهم بحروب ضد الذات أو ضد الأصدقاء، فينجح حيناً ويجانبه النجاح لثقل المهمة في أحيان كثيرة،
لا أحد كما كان، لا شيء كما كان، وليس للكلمات الدلالات نفسها، بل إن كثيراً منها فقد أي معنى… صارت مجرد أصوات جوفاء. تطن ثم يضيع صداها هباء منثوراً.
لكأنما التراث الحزيراني قد التهم المعاني جميعاً، ووقف يتحدى كل مواطن عربي أن يتخطاه، أن يلغايه ليؤكد حضوره وقدرته على الفعل.
5 حزيران، 4 حزيران، أول حزيران (حتى لا ننسى رشيد كرامي)،
متى ينتهي هذا العصر، والأهم: من ينهيه؟!
ومن ينهي إفرازاته ومخلفاته الرثة من ملوك الهزيمة إلى ميليشيات الطوائف؟!
لعله الحجر، إذا سلم الحجر،
في جبل عامل اخترق الحجر حجب الهزيمة وأحدث في صلب الليل ثغرة،
وها هو في فلسطين يئز ويهدر بلا انقطاع فيكاد يثقب سقف الهزيمة، وجبين صناعها وحماتها والمنتفعين من استمرار ديجورها،
لكن الحجر في خطر، فالمعتذر اليوم عن آخر عمليات الكفاح المسلح لن يتورع بعد ساعة عن اغتيال الحجر،
فلنحم الحجر.
فلنحم الحجر.
فلنحم حقنا في بلوغ السادس من حزيران.

Exit mobile version