طلال سلمان

على الطريق حتى يتحول صوت العقل إلى مؤسسة سياسية تمهد للحل

يصلح بيان اللقاء النيابي (المسيحي) في المقر البطريركي ببكركي، يوم أمس، لأن يكون نقطة البداية في رحلة تصحيح المسار ووقف الهوس الانتحاري المحموم بالتعاطي العاقل والمسؤول في الشؤون المصيرية كوجود الوطن والدولة وحياة الشعب.
لعلها صحوة العقل،
لعلها عودة الوعي في مواجهة الجنون والتهييج والتصعيد المنهجي ضماناً لاستمرار الحرب وإدامتها إلى ما شاء الله، لأن استمرارها يفرض بقاء الحال على ما هي عليه، وبالتالي بقاء الشغور في قمة السلطة الشرعية، وبقاء شاغل الفراغ في الملجأ الحصين للقصر الجمهوري ببعبدا.
ولقد يذكر التاريخ للعماد ميشال عون إنه سرّع في الصحوة وعجّل في عودة الوعي بالمخاطر غير المحدودة التي يمكن أن يتسبب فيها أي أرعن مثله لطائفته خاصة ولشعبه ولبلاده عموماً ، طالما استمر الخلل الفاضح في النظام السياسي يوفر الفرصة الذهبية لممارسة فنون الجنون الانتحاري تحت غطاء الاستنفار الطائفي الأعمى.
بعد أمين الجميل، مكتسب “الشرعية” بالدبابة الإسرائيلية، وميشال عون مغتصب الشرعية بقوة الانتماء إلى الطائفة ذات الحق الالهي في الرئاسات، لا ضرورة للمطالعات المطولة في القانون الدستوري أو في العلوم السياسية، أو في حقوق الإنسصان، لإثبات الحاجة الماسة إلى إصلاح سياسي جدي لهذا النظام الفريد.
فمن “مغامرة الإنقاذ” إلى “مقامرة التحرير” خسر لبنان ما كان تبقى من دولته والكثير من ضمانات استمراره ومقومات وجوده، وخسر نصف شعبه بين مهاجر وقتيل، وخسر أيضاً ست سنوات ثمينة جداً من حساب حاضره ومستقبله المرتجى،
لقد ضاع جيل كامل، من قبل، ويتهدد الضياع الآن الجيل الثاني من لبنانيين الحرب الأهلية،
ومن عجب إن ميشال عون يقتفي خطى الرجل الذي يبادله الكراهية والاحتقار، أمين الجميل، ويكرر تجربته البائسة حرفياً، وإنما بأسلوب فظ يتناسب مع عسكريته (!!) إذ يحاول القفز من فوق المشكلة الحادة في الداخل ليشن الحرب على دمشق والرئيس حافظ الأسد.
وبصمت المعترضين ونقص المبادرة عند المتذمرين ونفاق المتزلفين طلباً لفتات السلطة ورط الجميل الدولة وجيشها في سلسلة من الحروب ضد شعبها،
وها هو “الضابط الصغير” يقود الحرب الأخيرة ضد ما تبقى من لبنان ودولته ومن تبقى من اللبنانيين، مستقوياً أساساً بغياب الرادع واستشراء داء الصمت وحجب الاعتراض جبناً أو زلفى أو بقصد توريطه للخلاص منه كمنافس محتمل على الرئاسة الشاغر كرسيها الفخمز
ولأن الرئيس (ولو بالوكالة أو بقوة الفراغ) هو رمز الطائفة – النظام – الكيان، فإن الاعتراض عليه من الداخل يصبح خروجاً على الطائفة وتخلياً عن ضماناتها، أما معارضته من الخارج فتصبح خيانة وطنية وفتنة طائفية وتمديداً للحرب الأهلية حتى يشيب الغراب.
في ضوء التجارب المرة على امتداد عهد الجميل، ثم في فترة استيلاء عون على مقر “الشرعية” وانتحاله صفتها، تمكن قراءة بيان النواب الثلاثة والعشرين الذين تلاقوا أمس في بكركي بدعوة من البطريرك صفير وبرعايته.
ولعل أهم ما في البيان ذلك الذي غاب عن نصه من شعارات استهلاكية وتحريضية بنفس طائفي مسعور، كالتحرير والحرب المفتوحة ضد سوريا وإلغاء اللبنانيين الآخرين، أي الأكثرية الساحقة من هذا الشعب لأية طائفة أو منطقة انتمت،
فالبيان قد أدان ما هو مدان أصلاً، القصف العشوائي (المركز!!) الذي طال الأهداف المدنية وحصد الأبرياء العزل ولم ينج منه إنسان في أي منطقة، ولم يوفر نائباً عن الأمة ولا سفيراً رئيس بعثة دبلوماسية ولا رجل فكر وأدب…
والبيان دعا إلى ما هو مطلب الجميع: الوقف الفوري العام والشامل لإطلاق النار والعودة إلى لغة العقل والحوار،
والبيان تعاطى مع الواقع بواقعية، فحدد أن يكون الجيش اللبناني مسؤولاً عن تنفيذ وقف النار في أماكن وجوده وضمن نطاق سيطرته، وأن يكون الجيش السوري مسؤولاً عن تنفيذه في أماكن وجود قواته وضمن نطاق سيطرتها.
والبيان ركز على التشبث بوحدة المؤسسات الاشتراعية ومتابعة النضال لتمكينها من أداء دورها الأساسي في إعادة بناء هيكلية الدولة الموحدة السيدة الحرة المستقلة.
كما ركز على الإيمان الثابت بأن العيش المشترك هو قدر اللبنانيين ورسالتهم الحضارية وإن لغة الحوار والتفاهم هي خيارهم الأوحد.
ولقد كان البيان بحاجة إلى محام بشجاعة ادمون رزق لكي يحوله إلى صرخة وطنية حرى يمكن أن تشكل إعلاناً بارتفاع صوت العقل، أخيراً، وطغيانه على صوت المدافع والإرهاب وجنون العظمة والنزعة التدميرية التي “حرقت” بيروت وسائر أنحاء لبنان بحرارتها القاتلة.
لكن هذا البيان المجسد لموقف عاقل ومسؤول قد ووجه بحملة ضارية اتخذت أشكالاً عدة منها: تهديد النواب وتخوينهم وإنكار صفتهم التمثيلية للشعب، والتعرض لمقام البطريرك الماروني، ثم التعمية الاعلامية وطمس البيان ودلالاته ، والتعامل معه كخبر ثانوي طابعه اجتماعي وليس سياسياً.
إن القصف المجنون مستمر، وهو الآن يطال تيار الاعتدال والعقل وأعداء الحرب عموماً، في الشرقية كما في الغربية.
وهذا الذي قاله نواب “الشرقية” بلغة وطنية، أمس، يصلح لأن يكون منطلقاً لمبادرة سياسية شجاعة يتلاقى عليها الجميع متجاوزين المهووسين بالسلطة والمنتفعين بالحرب، لكي يخطوا بلبنان الخطوة الأولى نحو فترة تنفس تسمح بالتمهيد لحل سياسي شامل لأزمته المعقدة.
إن صوت العقل قد اخترق جدار الهوء الانتحاري، وهو قد وجد صداه، على الفور، في مختلف أنحاء لبنان،
وبالتأكيد فإنه قد بلغ دمشق الحريصة على إنهاء هذا الوضع الشاذ الذي فرض عليها وعلينا فأساء إلينا جميعاً وأدخلنا، مرة أخرى، في النفق المظلم والبلاد نهاية.
والمطلوب الآن توفير المناخ الصحي الضروري لتحويل الصرخة إلى مؤسسة سياسية تنطلق في ظل وقف جدي وشامل لاطلاق النار، إلى العمل على إنهاء المرحلة الانتقالية الحافلة بالشذوذ بانتخابات رئاسية تبعث الدولة بعد ترميم نظامها بالاصلاح السياسي الضروريز
إن صوت العقل يبقى أقوى تأثيراً من صوت المدفع والهوس الانتحاري،
ومثل هذه المبادرة الطيبة لا يجوز أن تضيع،
وحده ميشال عون له مصلحة في أن يضيعها أو يميعها أو يقضي عليها قصفاً أو قنصاً أو اغتيالاً.
بمزيد من الدقة: ميشال عون وسائر المنتفعين بإدامة الحرب الأهلية.
أتراها تكون أرض اللقاء بين كل أعداء الحرب؟!
أتراها تمهد لتكون مهبط طائرة الحل العربي الذي يفترض أن تظهر ملامحه الأولى عبر الاجتماع الاستثنائي لمجلس الجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية العرب يوم الجمعة المقبل في تونس؟!
المهم أن نحميها، جميعاً، من رعونة ميشال عون، ومن مزايدات المتسلطين والمتحكمين والمنتفعين من غياب الشرعية والدولة ووحدة الشعب.
ومثل هذه المهمة الجليلة لا تعترف بالحدود القاتلة بين الشرقية والغربية، ولا بتلك الحدود التي يحاول “الضابط الصغير” أن يرسمها بالنار الآن، بين بيروت الجريح وبين دمشق التي ستبقى الأخ والجار الأقرب ومصدر العون الضروري متى عز المعين.
ولا حيدة في حرب الجنرال الجديدة ضد صوت العقل الماروني الذي يستخدم اليوم، وأكثر من أي يوم مضى، لغة وطنية يفهمها ويستجيب لها اللبنانيون، كل اللبنانيين.

Exit mobile version