طلال سلمان

على الطريق حتى لا يظلمك التاريخ … يا فخامة الرئيس!

… والقضية ببساطة واختصار هي: هل لنا في لبنان دولة أم لا؟!
إن كان ثمة دولة فلا يجوز أن يوجه الكلام إلا غليها، وإن لم تكن توجب أن نخلقها، أو .. يفتش الناس في هذه الدنيا الواسعة عن دولة تقبل بهم رعايا لها طالما أن “دولتهم” لا تريدهم فيها مواطنين، ولا تريد لنفسها أن تتشرف بحكمهم.
ولنتصور، للحظة، وعلى سبيل الفرض، إن في لبنان دولة، ولنحاول – في ضوء هذا الافتراض – استعادة شريط الأحداث المؤلمة التي شهدناها في الأيام القليلة الماضية.
أو نتيجة لهذا الافتراض إن ما وقع في زحلة ما كان ليقع، لو أن في لبنان دولة.
كيف؟!
ما كانت الدولة لتسمح بأن تحاول ميليشيات الكتائب أو أية قوة أخرى أن تسلخ زحلة عنها لتضمها إلى “الغيتو” إياه.
والحقيقة إن ما وقع في زحلة يهدد أمن لبنان، أولاً، ومن هنا فهو يشكل تهديداً لأمن سوريا، وشعب لبنان هو المعني – أساساً – بدفع هذا الخطر عنه حرصاً على سلامة وطنه بالذات، وقبل أي حديث عن أمن سوريا.
إن أقدام ميليشيا الكتائب على انتزاع زحلة من يد الدولة لتضمنها إلى دويلة بشير الجميل هو “قتل” للبنان لوحدة الوطن الشعب، في حين أنه تهديد “لأمن سوريا القومي”. وبهذا المعنى فأنا “اللبناني” منذ أكثر من عشر سنوات، معني بهذا الخطر الداهم أكثر من سوريا.
ثم.. لماذا ظهرت سوريا في الصورة؟!
لو أن في لبنان دولة لما كان لسوريا دور في هذا الأمر، فدولة لبنان هي المسؤولة – وحدها – عن بقاء هذا الوطن الصغير واحداً موحداً.
إن ميليشيا الكتائب هي التي نهشت لحم الدولة، وهي التي سلخت مناطق من لبنان واقتطعتها لنفسها ملغية وجود الدولة فيها، وهي التي تقيم “دويلة” مكتملة المؤسسات تقريباً بفضل “الدولة” وخيرات مواردها. وهي التي تعطي نفسها حق الكلام باسم لبنان!
أفلم تبعث “الجبهة اللبنانية” إلى فالدهايم طالبة عرض قضية “الاعتداء السوري” على مجلس الأمن؟!
ألم تقرر ميليشيا الكتائب اعتبار القوات السورية العاملة في إطار الردع “جيش احتلال” في حين أن الدولة اللبنانية تعتبرها – قانونياً وعملياً، حتى الساعة – جيش الشرعية؟!
ألم تشن على هذه القوات أقسى حملة تشهير في العصر الحديث وسط صمت “رسمي” مريب يتجاوز حدود التواطؤ إلى المشاركة الفعلية في الجريمة؟!
إن أبسط تهمة وجهت لقوات الردع التي وضعت بأمرة الرئيس الماروني إنها تبيد المسيحيين في لبنان!
وليس يعنينا، هنا، أن ندافع عن الجيش السوري فهو قادر على الدفاع عن نفسه، لكننا نحاول أن ندفع عن دولتنا وعن رمزها تهمة خطيرة كان يكفي لدحضها وإسقاطها وكشف مدى الكذب والتدجيل فيها أن تكون الدولة دولة،
فلو كانت الدولة دولة لبدت ميليشيا الكتائب زمرة من العصاة والمتمردين ولحوكم “مقاتلوها الأشاوس” وأدينوا بتهمة التسبب في ترويع زحلة وتهديد سلامة أبنائها وتدمير ما دمر من المباني والمنشآت فيها.
أما في غياب الدولة فيصبح القاتل بصلاً، والمتسبب في مقتل العشرات وجرح المئات “محرراً”.
للمناسبة: يكاد ضحايا “التحرير” على يد بشير الجميل يزيدون عدداً على ضحايا الحرب الأهلية.. فبين إهدن وما تلاها، والصفرا وما جاورها، وعين الرمانة والحدث وما بينهما وزحلة وما سيكون بعدها، سقط ألوف من الرجال والنساء والأطفال شهداء في معركة تحرير لبنان من المسيحيين!
إن البطل الفعلي لإبادة المسيحيين في لبنان هو بشير الجميل، ومن قبله والده الشيخ، وبقدر ما يتزايد عدد ضحاياه تزداد الدولة ضعفاً حياله وتلغي نفسها تماماً تحاشياً لغضبه العاني.
… ويبقى السؤال الملح هو هو : ماذا بعد؟! وما هو الحل؟
إن محاولة إحياء الدولة، في نظر الناس، كالنفخ في الرماد، فهي قد دفعت بهم جميعاً إلى لجة اليأس وأسلمتهم إلى منطق “الأمر الواقع”.
لكننا لا نملك ممارسة ترف الاستغناء عن الدولة أو السماح بسقوطها كرمى لعيون بشير الجميل هنا وسعد حداد في الجنوب.
لهذا سنظل نقاوم، بكل ما أوتينا من قوة، محاولة إسقاط الدولة.
وبين أسباب المقاومة إننا لا نعرف لنا مصيراً خارج نطاق الدولة، أي “الجمهورية اللبنانية”، إلا إذا استمرت دولتنا تضغط علينا وتغرينا وتدفع بنا دفعاً إلى أحضان بشير الجميل ومن خلفه إسرائيل، فنكون مضطرين عندئذ لإعادة فتح التاريخ من صفحته الأولى.
ذلك إننا ببساطة، نرفض أن نصبح رعايا للعدو الإسرائيلي.
ونقولها بالفم الملآن: لن نسقط بصمت، ولن نتلوى ألماً داخل قوقعة الحسرة والخذلان مستسلمين لقدر الاحتلال الجديد.
إن هذا الوطن الصغير، بمسلميه ومسيحييه وطوائفه الأخرى، هو بعض أمته العربية، وعليها واجب حمايته وتأمينه، كائنة ما كانت أوضاعها.
نعرف أن الوضع العربي في غاية التردي ، وإن معظم الحكام العرب مقصرون وبعضهم تجاوز الانحراف إلى الخيانة القومية، لكننا لن نتركهم يدفنوننا أحياء.
إن معركة لبنان هي معركة العرب جميعاً، فإن لم يجيئوا إلى ساحتها سنذهب بها إليهم، سنحمل النار إلى أربع رياح الأرض العربية، مطمئنين إلى أن قضيتنا هنا هي قضية كل عربي في مختلف الأقطار: فالحاكم المقصر تجاه لبنان مقصر بالتأكيد مع مواطنيه، والحاكم الذي يساهم في تمويل الكتائب وتعزيز قدراتها القتالية معاد لشعبه بالتأكيد، والخائن هناك لن يكون أقل خيانة هنا.
إننا لن نذهب إلى الأمم المتحدة لنشكو الشيخ بشير، بل سنذهب إلى القصور والمهاجع وإلى مقار الحكام المتخاذلين لتساعد أخوتنا المغلوبين على مرهم مثلنا، في معركة تحرير الذات، ومن ثم الأمة، من آفات عصر الردة والتردي ، وسنثبت بالملوس، ومن مضطهدينا ومستعبدينا حرصاً على استمرارهم في نهب النفط.. نفطنا!
أما في لبنان فما أعظم ما نستطيع القيام به،
إننا، أولاً، نستطيع أن نمنع تزوير هوية المعركة وطمس ملامحها الأصلية، فهي ما كانت ولن تكون معركة طائفية، بمعنى أن يقتتل المسلمون والمسيحيون، خدمة لإسرائيل وتمكيناً لبشير الجميل من الاستيلاء على السلطة في لبنان.
إننا سنبقيها كما هي: واحدة من الجولات المريرة والعديدة في الحرب الطويلة بين هذه الأمة العربية المجيدة والعدو الإسرائيلي.
وها هي إسرائيل تعفينا من أدلة الإثبات، فمسلكها أوضح وأصرح من أن يحتاج إلى تفسير، وهو مسلك يؤكد – جهاراً نهاراً – إن ما يقوم به بشير الجميل في بيروت وزحلة وأنحاء أخرى هو “جزء” من خطتها هي في لبنان والمشرق العربي.
وإذا كان الاتجاه الوطني ظل غالباً وعصم الأكثرية الساحقة من اللبنانيين من الانجراف في الحمى الطائفية التي أثارتها الكتائب وعملت على تنميتها طوال السنوات الماضية، فإن المنتمين إلى هذا الاتجاه مطالبون الآن بتنظيم أنفسهم وتوحيد قواهم والتهيؤ لدخول المعركة الأقسى والأصعب والأشراس.
وليس صحيحاً أن الناس يفتقدون القضية، فالقضية أجلى وأكبر من أن يستطيع أحد إخفاءها أو تحجيمها،
إن الناس يفتقدون منذ غياب كمال جنبلاط – قيادة في مستوى القضية.
كذلك فإن الناس يفتقدون تلك العلاقة الصحية بين الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية وسوريا، ففي ظل ارتباك بين أطراف هذا الثالوث تتشرذم القوى وتستشري روح اليأس ويكتسب الخصوم أحجام الجبابرة!!
إن هذه العلاقة الصحية شرط للنصر، بقدر ما هي شرط لتوفر القيادة الوطنية العتيدة، ونحن – نحن الناس العاديين – نستطيع أن نسرع بناء هذه العلاقة الصحية بين أطراف الثالوث الوطني والقومي، ونستطيع أن نحمي هذه العلاقة من أي خطر، وبالذات من أخطاء القيمين عليها.
ثم إننا، في البداية والنهاية، البلدز
فنحن نحن لبنان، وليس بشير الجميل.
ونحن نحن العرب، وليس ذلك الحاكم الذي نصبته أميركا حارساً لبراميل النفط، وقبلها : الوجود الإسرائيلي.
نحن لبنان: بيروت والمتن وكسروان وجبيل، البترون وطرابلس، وزغرتا، وبشري ، وعكار، زحلة وبعلبك والهرمل وعرسال وراشيا وحاصبيا، وصيدا وصور والنبطية، وبنت جبيل ورميش وعين ابل ودبل والقليعة ومرجعيون والخيام.
تماماً كما نحن عدن وصنعاء وحضرموت ومسقط وعمان والرياض ومكة المكرمة والطائف والكويت وأبو ظبي ودبي وقطر والبحرين وبغداد وسامراء والنجف والرمادي والسليمانية وكركوك والبصرة، ودمشق وحلب وحماه وحمص والقامشلي ودير الزور ودرعا وعمان وعمان والزرقاء وإربد والقدس وغزة ورام الله ونابلس وحلحول ويافا وحيفا وعكا والعريش والقاهرة والإسكندرية وأسوان والأقصر والخرطوم وأم درمان وبور سودان ودنقلة وبنغازي وطرابلس وسبها وتونس وقفصه والجزائر ووهران وتلمسان وقسنطينه ومراكش وفاس ومكناس والرباط والدار البيضاء ونواكشوط و…
نحن كل هؤلاء، باسمهم نقاتل، وبالنيابة عنهم في ظل الصمت المفروض، ومن أجل ألا تأكلهم النار التي تلتهمنا سنظل نقاوم مشروع صهينة لبنان حتى نسقطه وننتصر بهم ولهم.
أكثير علينا، بعد هذا كله، أن نطالب الياس سركيس بأن يتفضل فيحكمنا؟!
ألا ترانا نعادل في عينيه الشيخ بشير الجميل؟!
أفلا يرى نفسه أولى بنا من “البيش”؟!
ألا يرد للعرب بعض جميلهم عليه، وما أعطوا أحداً قبله ما أعطوه. فيحمي لبنان من التحول إلى إسرائيل ثانية لا مكان له – هو شخصياً – فيها؟!
أم يريد أن ينتهي نهاية شارل حلو: داعية لحرب صليبية جديدة يستنخي لها الغرب فلا يأتيه الصدى إلا من إسرائيل، فلا يستنكر أو يستهجن بل يرفع عقيرته بادلعوة للحرب ضد العرب أجمعين؟
والتاريخ في أي حال، لا يرحم، وهو سيذكر بالتأكيد في بعض صفحاته إن أمثال شارل حلو هم الذين وضعوا حجر الأساس لإسرائيل اللبنانية.
وبرغم كل ما قلناه في الدولة وعجزها وتقصيرها، فنحن على ثقة، من أن الرئيس الياس سركيس ليس من نوع شارل حلو، ولن يسمح لأية قوة بأن تدفعه لإكمال ما بدأ به باني “الحلف الثلاثي”، ومن قبل : شريك بيار الجميل في تأسيس الكتائب ودائماً منظر الأيديولوجية الطائفية في لبنان وراعيها والمروج لها بإسباغ المزينات الحضارية عليها.
وباستطاعة الياس سركيس، بعد، أن يكون هو نفسه وليس ما أريد له أن يكون. والكلمة له اليوم، ولكن لا أحد يضمن أن تكون له غداًز
فهل يقولها؟!
بإخلاص : نتمنى ذلك… ليس فقط من أجلنا ومن أجل لبنان، بل أساساً من أجل الياس سركيس ذاته، وبالتحديد من أجل موقعه في التاريخ، هو الشديد الحرص على ألا يظلمه التاريخ.
… والتاريخ في نهاية المطاف، ما نفعل وليس ما ننوي ولا ما نتمنى!

Exit mobile version