طلال سلمان

على الطريق حتى لا يضيع الجنوب!

من الجنوب إلى الجنوب: من غياب الدولة إلى غياب أو تغييب “الوطن”، من المقاومة الباسلة للاحتلال الإسرائيلي، باللحم الحي، إلى الاقتتال الشرس الذي يطعم لحم الجنوب للعدو الإسرائيلي من دون غيره كائنة ما كانت أوهام أطراف الصراع والمتدخلين فيه وذرائعهم القومية أو الدينية.
من الجنوب إلى الجنوب: من حلم التحرير بالكفاح المسلح إلى سراب التسوية بالمفاوضات، لا يهم أن تكون مباشرة أو غير مباشرة، أو بالواسطة، في حين يرتد السلاح إلى صدور حامليه ممن أفقدهم اليأس أو التخلي أو قصر النظر والنفس والقدرة على تبين الطريق الصحيح.
من الجنوب إلى الجنوب: من الصمود إلى بدايات الإخضاع لمنطق التطبيع بفعل تخلي الأهل الأقربين والذين في البعيد.. ومن مطاردة المحتل إلى تمدده بحيث يكاد “الشريط الحدودي” يلتهم نصف مساحة الجنوب. وبحيث تتحكم “مقتضيات الأمن” الإسرائيلي بالناس جميعاً وأرض الجنوب كلها ومواردها المائية وإنتاجها زراعة وصناعة، في حين يصبح “النفوذ الإسرائيلي” شريكاً في القرار السياسي للبنان كله بقدر ما تسود الإرادة الإسرائيلية المعززة أميركياً في دنيا العرب على اتساعها،
من الجنوب إلى الجنوب: من الاجتياح الشامل إلى اتفاق 17 أيار (1983) إلى سياسة الأرض المحروقة، إلى التفريغ المنهجي لمنطقة “الحزام الأمني” ثم “الشريط” وحزامه الأمني هو الآخر، إلى الفتن التي سممت جو العلاقات بين أبناء الأرض الواحدة، إلى الاقتتال والحروب الدورية في إقليم التفاح والتي فتحت الباب على مصراعيه أمام الخطر على المصير،
من الجنوب إلى الجنوب: رحلة في تاريخ الحرب الأهلية بلبنان منذ بداياتها التي تم تفجيرها على أرضه، إلى طورها الراهن الذي شلع الجنوب مساحات وساحات ومناطق نفوذ وصراع بالسلاح بين أهل الداخل وأطراف الخارج،
… ولأن الحاضر يحمل بصمات الماضي، فقد كان لا بد أن تشمل الرحلة تعريفاً بكل من وما في الجنوب:
*بالناس ونمط العلاقات في ما بينهم ومصادر الإنتاج، ثم بعلاقتهم بالكيان اللبناني ونظامه ودولته ومن كان “يضبط” انتظامها من زعامات وقيادات و”مؤسسات”،
*بالجغرافيا باعتبارها مساحة الصراع و”الحدود” فيها مجرد شواهد أو تخوم أو علامات على ميزان القوى، تبقى أو تزول أو يتم نقلها وفق نتائج المعارك، حتى تلك التي لا تخاض، أو لاسيما تلك التي لا تخاض،
*بالاحتلال ونتائجه على الأرض والناس، وتأثير هذه النتائج وتداعياتها المنطقية على صورة الخريطة السياسية ومواقع النفوذ داخل السلطة في “المركز”،
من الجنوب حيث التمع في لحظة مجيدة حلم التحرير، إلى الجنوب حيث يجثم كابوس القلق على المصير الوطني والقومي، في ظل العجز المستشري وطنياً وقومياً.
عن هذا الجنوب الذي افتدى أمته وما زال يفتديها والذي قدم القدوة والريادة للانتفاضة المجيدة في فلسطين،
ومن أجل أن يبقى الجنوب فلا يضيع كما ضاعت من قبل فلسطين،
وحتى نعرف، هنا في لبنان وفي كل أرض عربية، هذا الجنوب الصامد والمناضل فنحاول حمايته بكل سلاح وكل وسيلة وكل سبيل،
وحتى لا يتهم اغتيال إرادة المقاومة والصمود، بعدما تم إجهاض إرادة التحرير،
وحتى لا يمكن لأي مسؤول في الداخل أو في الوطن العربي الكبير أن يدعي إنه لم يكن يعرف، وإنه “فوجئ” بالأمر، أو إن المعلومات كانت مشوشة وناقصة،
لهذا كله أعدت “السفير” ملفاً عن كل الجنوب وكل الجنوبيين: عن ناسه وأرضه، عن الاحتلال والمقاومة، عن الجغرافيا والتاريخ عبر مسح شامل للمدن والبلدات والقرى والدساكر والمزارع، حتى أصغرها، عن الهجرة والتهجير، ثم عن مصادر الإنتاج من الزراعة إلى التجارة والصناعة والخدمات العامة،
إنه أشبه بسيرة ذاتية للجنوب وأهله،
ومن أسف إنه يقدم – بالنتيجة – صورة مجسمة للتراجع العربي في مواجهة الذات كما في مواجهة العدو،
وهو لفتة تقدير في اتجاه الصامدين فيه والعائدين إليه، برغم المخاطر، لعلها تنفع في الاندفاع نحوه لحماية واستكمال تحريره بدلاً من الانهماك في كتابة المرائي وإعلان الوفاة.
فبين الجنوب و”السفير” صلة رحم بقدر ما هو أحد أعلام نضالنا الوطني والقومي والإسلامي، لمن يحب التخيصيص،
والملف يتجاوز العمل الصحافي ليقترب من أن يكون توثيقاً لجبهة الشرف الأخيرة المهددة في مصيرها بينما الكل منهمك في إعادة توزيع الحصص بين أبطال الحرب الأهلية الذين أضاعوا الدولة والوطن انطلاقاً من جنوبه.
لا وطن من دون الجنوب،
لا دولة من دون الجنوب،
لا حل وطنياً من دون الجنوب وفي ظل التسليم بحتمية ضياعه أمام الإرادة الإسرائيلية التي لا تقهر،
وحبذا لو كان بين أهداف الصندوق العتيد لمساعدة لبنان ما يتصل بحماية الجنوب و”لبنانيته” و”عروبته” فمثل هذه المهام القومية الجيلة تتقدم حتماً على إعادة بناء الأسواق التجارية وتوفير الخدمات الحياتية لسائر اللبنانيين الذين لن يهنأ لهم عيش ولن تنتهي في ديارهم حروب طالما ظل الجنوب مجهول المصير وظلت “هويته” قيد الدرس.

Exit mobile version