طلال سلمان

على الطريق حتى لا يجرف الانقلاب الجديد برزخ قيادات المعارضات المتحالفة

أما آن الأوان لوقفة مراجعة نقدية جادة لمجموع الوقائع والتطورات الخطيرة التي عاشها، وما يزال يعيشها اللبنانيون، في الفترة الفاصلة بين توقيع الاتفاق الثلاثي في دمشق يوم 28 كانون الأول 1985، ثم سقوطه المدوي في بيروت الشرقية، عبر الانقلاب الدموي داخل “القوات اللبنانية” يوم 15 كانون الثاني 1986، بتدبير من الحكم وعلى يديه أساساً؟!
فما حصل قد حصل، ولا ينفع لوم النفس أو لوم الآخرين، أو تبرئة الذمة بإلقاء المسؤولية كاملة على هذا الحكم الذي ما عرف اللبنانيون يوم خير منذ أن جاءه محمولاً على دبابة إسرائيلية.
المهم هو إنقاذ الغد، خصوصاً وإن ما يجري اليوم لا يطمئن أبداً، بل هو مقلق ومخيف وملتهم لأي أمل باق في غد للبلاد والعباد، وهذا بالذات أحد مصادر “القوة” الطارئة على موقف الحكم الذي كان قبل فترة “أضعف الأقوياء” ويكاد يصبح الآن “أقوى الضعفاء” في دوامة النار والدم والتي تعصف بلبنان.
وتقضي الأمانة أن يعلن وبصراحة أن مكامن الضعف والتفكك في صفوف معارضي الحكم من القائلين بمقاطعته أو بتنحيته بالاستقالة أو بالإسقاط أو بأية وسيلة أخرى، هي ذاتها مصادر استقواء “الرئيس”، حتى مع التسليم بدور الأجنبي في تحريضه وتصليب عوده وإقناعه بضرورة كسب الوقت ريثما تبدأ الهجمة الأميركية – الإسرائيلية الشاملة، وهي الهجمة التي نشهد بعض فصولها الآن، على اتساع الأرض والمياه العربية.
فالمعارضة معارضات.
بعضها يقول بإسقاط النظام كله، ويعتبر التسوية معه خيانة، وبعضها الآخر يطالب باستقالة الرئيس وحده حماية للنظام وتمكيناً لأسباب دوامه، بكل عيوبه وعلله وأخطرها الامتيازات والصلاحيات المطلقة التي يتمتع بها الرأس وسواء أكان مريضاً أم سليماً معافى!
والبعض الثالث يبحث عن صيغة وسط أو عن حل تلفيقي، فهو يعتمد شعار إلغاء الطائفية السياسية مدخلاً لإعادة توزيع الحصص الطائفية، بذريعة تحقيق المساواة بين الطوائف طالما تتعذر المساواة بين المواطنين،
وثمة بعض رابع يقول كلاماً ملتبساً ظاهره يرضي دمشق وباطنه يرضي المارونية السياسية، ومجمله يتجاوز الاتفاق الثلاثي ليعيدنا إلى “الميثاق” الثنائي المقنن للصيغة اللبنانية الفريدة!
بعض القوى المنتمية إلى تيار المعارضة تقاتل في الجنوب، لكنها تضيق على “الحلفاء” وتكاد تمنعهم من مقاتلة العدو الإسرائيلي، فإذا سمحت فبشروطها وتحت قيادتها وبمنطقها وتحت رايتها.
وبعض آخر من هذه القوى يقاتل في هذه أو تلك من الجبهات التي فتحت على عجل في بعض أنحاء الجبل، ولكنه يفتقد وضوح الشعار السياسي وجدية الدعم من قبل الحلفاء، وبكلمة: يفتقد القدرة على حسم الوضع عسكرياً.
وبعض ثالث يحضر لقتال منفرد على جبهة شمالية، وله شروطه على “الحلفاء” الراغبين في مناصرته، أو مشاركته، ولا سبيل إلى وحدة فعلية بسبب الاختلاف الجدي حول استهدافات القتال وآفاق التغيير المطلوب،
ومن خرج مع إيلي حبيقة من “القوات اللبنانية” وعلى قيادتها الانقلابية، يبحث وسط “الحلفاء الجدد” عن موقع وعن منطلق ليبدأ معركة الثأر ضد خصومه مجتمعين، وفيهم الرئيس وكتائبه والقيادة الحالية “للقوات”،
الام يؤدي هذا الوضع الشاذ؟!
إنه يؤدي ، وببساطة، إلى النتائج الخطيرة التي نشهدها وأبرزها ما يأتي:
1 – هذا التسيب القاتل في بيروت الغربية، الذي تتزايد ضحاياه يوماً بعد يوم، ويمكن أن نحتسب في عدادهم القضية ذاتها.
فحوادث الخطف والاغتيال وتهجير المسيحيين وقتل المناضلين والتعديات والتجاوزات على أنواعها، من احتلال الشقق إلى سرقة السيارات والمصارف والممتلكات، كل ذلك يضرب قدرة الناس على الصمود ويدفعهم إلى اليأس والقنوط والبحث عن الأمان في ظل أية قيادة قادرة على توفير الأمن والأمان، حتى وإن كانت ذات صلة بالكتائب أو “القوات” أو الشيطان الرجيم شخصياً.
2 – افتقاد القيادة المؤهلة والقادرة على صياغة الشعار الصح وأسلوب النضال الصح والمنهج الصح لمواجهة أعباء المرحلة وتعقيدات الوضع اللبناني، بجوانبه المحلية والإقليمية والدولية.
فإذا ظلت القوى المتحالفة على تفككها الحالي، وعلى تمايزها في طروحاتها السياسية، وعلى تفرد كل منها بحق القيادة في ساحته التي غالباً ما تكون السيادة فيها للون طائفي واحد، فكيف إذن ستنشأ قيادة سياسية وطنية موحدة تنتظم فيها القوى جميعاً وتقاتل كتفاً إلى كتف؟!
إن معركة أهلنا في الجنوب لا تعني أحداً خارج الجنوب والقوة السياسية المهيمنة في الجنوب… وهي لا تعني أحداً بقرار وليس بحكم المصادفة أو نتيجة لانعدام القوى الأخرى التي يظل من حقها المشاركة في المقاومة الوطنية، مهما كانت قدراتها ضعيفة أو حتى رمزية.
ومعركة الشمال، وطرابلس على وجه الخصوص، لم تكن تعني أية قوة “جهوية” أخرى.. ولولا استعداء “حركة التوحيد” للأحزاب العقائدية. لظلت للمعركة شبهة الصراع الطائفي البحت، في مدينة كانت وطنية وتقدمية وقومية على امتداد تاريخها.
أما الجبل فأمره أوضح من أن يتطلب شرحاً وتفصيلاً، ومن فيه مأخوذون بهمهم المباشر، مشغولون بمخاطر يرونها جدية ويفترضون إنها تعنيهم هم وحدهم ولا تعني حتى أقرب الحلفاء إلا بمقدار.
3 – إن البلاد برزخ تتوزع فيه مناطق النفوذ كالجزر، كل منها يفصلها بحر من الشعارات الخاصة والهموم الخاصة والتطلعات الخاصة.. والقيادات المعنية مستعدة لإعلان التحالف في دمشق، ولكنها لا تطبقه على أرض الواقع في أي مكان تمارس هي النفوذ فيه وعليه.
لهذا فالصورة تتغير جذرياً بين دمشق وبيروت، وصولاً إلى المختارة وزغرتا والجنوب المتروك وحده في مواجهة العدو الإسرائيلية يمارس فيه أقسى ما عرفه تاريخ الاحتلال من ضروب الأرض المحروقة والوهشية في اضطهاد المقهورين بقوة نيران احتلاله.
هناك تراهم حلفاء تربط بينهم روابط سياسية مقبولة.
لكنهم حين يعودون كل إلى واقعه يتباعدون، وقد يصل التباعد إلى حد التصادم والانشغال الكلي عن أمين الجميل وسمير جعجع وخطط استعادة الهيمنة، باسم الطائفية وظفي ظلها، على البلاد.
4 – إن هذا الواقع يعيد تأجيج الغرائز الطائفية ويعيد إنتاج الشعارات الطائفية، ويمكن بالتالي للأعرق في طائفيته وللأبناء الشرعيين وللمنتفعين بالنظام الطائفي كما لمؤسسي هذا النظام الفاسد المفسد.
وطبيعي والحالة هذه أن ينتعش من جديد أمين الجميل وكتائبه وأن يستعيد سمير جعجع قيادة “القوات” التي نشأت وتربت على شعارات معادية بطبيعتها “للفريق الآخر” كما للعرب والعروبة والخيار العربي والحل العربي في لبنان.
5 – إن فشل المعارضة نجاح للحكم، حتى لو كان ضعيفاً.
وإعادة الطابع الطائفي إلى الصراع يفتح أمام الحكم باب النجاة.. وهو قد ضرب الاتفاق الثلاثي بوعي كامل إلى أن سقوط ذلك “الحل الوطني للأزمة في لبنان” سيعيدنا جميعاً إلى دوامة الصراع الطائفي.
ومع سقوط المعارضات في الحماة الطائفية كان طبيعياً أن يرفع الحكم صوته مستنجداً بمواقع التأثير الطائفي في الداخل والخارج، من الشارع إلى بكركي والرهبانيات، فإلى فرنسا ذات المسؤولية الخاصة عن ابتداع هذا الكيان ونظامه الفريد، وصولاً إلى الفاتيكان بكل الرياح الأميركية الشديدة التأثير على مركز القرار فيه.
وهكذا تصير المعركة غير ما كانت عليه: لا تعود معركة سياسية بين أطراف لبنانية، أحدها الحكم، بل تصير حرباً إسلامية تشنها سوريا على الحكم المسيحي في لبنان.
وهذا، لو تم، يكون أعظم نجاح للحكم الكتائبي الذي تصادف أن نشطت حركته وتعاظمت واتخذت بعداً دولياً واسعاً مع عودة الدبابات الإسرائيلية إلى اجتياح الجنوب وعودة طائرات العدو الإسرائيلي إلى سمائنا لتذكر بأنها شريكة في القرار السياسي اللبناني منذ أن أسهم جيش احتلالها في إيصال آل الجميل إلى سدة الرئاسة.
لهذا كله، ولغيره مما لا يقع تحت حصر من الأسباب الموجبة، تشتد الحاجة إلى وقفة مراجعة جادة لمجمل ما جرى ويجري في لبنان هذه الأيام، خصوصاً وإن التطورات الخطيرة في المنطقة كلها توحي بتبدلات وتغييرات لا يعلم إلا الله مداها وتداعياتها المنطقية.
وهذه المراجعة تستوجب أن يلتقي قادة المعارضة وأن يستكشفوا حدود التلاقي والاختلاف، التفاهم والتعارض في ما بينهم، وأن يحددوا برنامجهم المشترك والشعار السياسي المناسب لهذه المرحلة حتى يعيدوا إلى الناس الحد الأدنى من الأمل في جدارتهم بالقيادة وفي صدق دعوتهم إلى التغيير وقدرتهم على احداثه.
إننا مهددون، مرة أخرى، بأن يخرج البحث في مصير لبنان من أيدي اللبنانيين، وحتى من إطار الحل العربي ممثلاً بدور دمشق الحاسم فيه. فالبديل المطروح للاتفاق الثلاثي، الذي عقدته الأطراف المسلحة الأساسية برعاية دمشق وفيها، هو مشروع قرار دولي جديد، لا يستطيع العرب رفضه، بتثبيت النظام الطائفي في لبنان، وتأمين أسباب دوامه.. ومن أجدر من رئيس كتائب بأن يعهد إليه بمثل هذه المهمة.
إن الوضع مهدد بانقلاب جديد يمزق آخر ما تبقى من روابط بين أطراف البلاد وفئات شعبها.
والمراجعة النقدية الجادة مطلوبة ليس فقط بدافع الحرص على البلاد وشعبها، بل وكذلك على القيادات المهددة الآن بأن تخسر جمهورها الذي أنهكته صدامات الحلفاء وتجاوزات محازبيهم وتعدياتهم، والأهم افتقاد الشعار السياسي الموحد والواعد بغد أفضل.
فإلى أين يقود الناس السادة القادة الذين يكادون يصبحون “مقاطعجيين” جدداً؟!
وإلى متى يستطيع الناس أن يعيشوا في حالة الضياع الفظيع الراهن الذي يحمل إليهم الموت واليأس والخراب كل ساعة؟!
ذلك هو السؤال، فمن ينهض بجوابه، ومتى؟!

Exit mobile version