طلال سلمان

على الطريق حتى تكون عودتهم بداية للسلام…

لا ينغص فرحة اللبنانيين عموماً، وأهل العاصمة خصوصاً، بعودة الجيش العربي السوري إلى بيروت ومنافذها، إلا المبررات التي تعجلت استصدار هذا القرار وتنفيذه خارج السياق الذي كان مقدراً له، ولو بعد حين.
فاللبنانيون المكتوون بنار الحروب الأهلية الأخرى التي فجرتها التداعيات المنطقية للغزو الإسرائيلي صيف العام 1982، والمصدومون بعجز الحكم والقيادات السياسية بمجملها عن صياغة مشروع حل وطني للأزمة الخانقة، التي يعيشون في أسارها، كانوا يدخرون الجيش العربي السوري لتلك المهمة القومية الجليلة: إنهاء الحرب، بأشكالها كافة، وإحلال السلام على قاعدة ثابتة ودائمة لا تهزها أو تؤثر فيها الرياح المحلية الموسمية أو تقلبات السياسات الدولية.
ومؤكد إن القيادة في سوريا كانت تتمنى، مثل اللبنانيين عموماً، لو إنها تمكنت من اتخاذ قرارها الحاسم في موعده الصحيح، واستناداً إلى المبررات القومية السليمة والمتكاملة والمتعلقة بلبنان كله، بمختلف مناطقه وجهاته، وباللبنانيين جميعاً على اختلاف انتماءاتهم الفكرية والسياسية (بغير أن ننسى الدينية واشتقاقاتها!!).
فليس سهلاً على القيادة في سوريا أن تتعاطى مع لبنان كأجزاء، يعنيها بعضها ولا يعنيها البعض الآخر منها، أو مع اللبنانيين، وكأنهم في نظرها، هي أيضاً، أبناء طوائف ومذاهب تتوزعهم الأهواء والكانتونات والامارات الكرتونية.
فالجيش العربي السوري جيش قومي، وهو معقد الأمل في المهمات القومية السامية وأبرزها: مواجهة العدو الإسرائيلي لتحرير الأرض المحتلة وحماية كرامة الإنسان العربي وحقه في غده الأفضل.
أما وقد اتخذ القرار، تحت ضغط الظروف المأساوية التي فرض على بيروت أن تعيشها خلال الأيام القليلة الماضيةن فمن الضروري – ومع التقدير للقرار وموجباته – أن نسجل الملاحظات الآتية:
1 – ما كنا نتمنى أن تنتهي هذه التجربة التي بدأت بانتفاضة 6 شباط سنة 1984 وسقطت برصاص أبطالها في منتصف شباط سنة 1987، هذه النهاية المفجعة بآثارها المادية الراهنة وبآثارها السياسية الخطيرة على المستقبل.
فلسنا نحن من يشمت بفشل التنظيمات الشعبية، كائنة ما كانت، في امتحان ممارسة المسؤولية عن العباد والبلاد.. خصوصاً وغن التنظيمات المعنية هنا قدمت نفسها، في لحظة، وكأنها طليعة النضال الوطني من أجل الاصلاح السياسي وتحقيق العدالة الاجتماعية للمغبون والمحروم والمظلوم والملغاة حقوقه الإنسانية الطبيعية.
2 – إن فشل هذه التجربة، بكل ما أدت إليه من كوارث ومآس، هو فشل للسلاح والمسلحين، وفشل لنمط في القيادة، وليس فشلاً للنضال الشعبي أو التنظيمات الشعبية،
ونفضل أن نعتبره فشلاً للميليشيات أكثر منه فشلاً للحزب التقدمي الاشتراكي كحزب له تاريخه في النضال الوطني، وله تراثه في رعاية الفكرة القومية في لبنان، وأكثر منه أيضاً فشلاً لحركة “أمل” بما هي تيار شعبي عريض ينتظم جمهور المحرومين في وطنهم،
لقد عطل السلاح “المؤسسة”ـ وقتل السلاح حامله، لكن الفكرة لا تموت – ولا يجوز أن تموت – بخطأ التجربة، لاسيما إذا كان بديلها هو النظام القاصر إياه، وهي الدولة المتخلفة إياها، وهي صيغة الحكم الظالمة إياها.
3 – بهذا المعنى فلا يجوز أن يبدو فشل “أمل” والحزب التقدمي الاشتراكي وكأنه فشل للجماهير عموماً، أو لفئات معينة، أو لمناطق معينة.
ولا يجوز بالتالي أن يشكل هذا الفشل مدخلاً لإعادة الاعتبار إلى الحكم وكأنه فوق الشبهات، أي فوق ارتكابات الميليشيات وجرائمها الموصوفة.
ولا يجوز بشكل خاص الافتراض إن ما فشل في “الغربية” ناجح في الشرقية، لاسيما وإن ذاكرة الناس ما تزال تحفظ تواريخ “الانتفاضات” المتكررة في قلب “القوات اللبنانية”، ومعظمها اتخذ شكل المجازر الجماعية ضد المدينة وناسها وضد التنظيم ذاته إضافة إلى الحزب – الأم الذي تكاد تنكره الآن بناته.
فالسلاح داء وبيل على الحزب، بما هو مؤسسة سياسية،
الميليشيا هي نقيض الحزب. هي الحرب هو السلام. هي المدافع والبنادق والانكشارية وحملة السلاح بالأجر أو بالغريزة المستنفرة، أو بالحقد الأعمى، وهو الفكرة، الرأي، الكلمة، الحجة، الحوار المتجه إلى العقل والمنطق والاستعداد للقبول بالأخر، ولو كان في موقع المعترض أو المخالف أو المعارض أو المقدم نفسه على أنه البديل.
4 – وبالمعنى نفسه فيجب أن يسجل يوم العشرين من شباط 1987 وكأنه تاريخ السقوط النهائي للميليشيات، بما هي أدوات للحرب الأهلية في لبنان كله، وليس في جهة منه، أو في ما يخص طائفة من طوائفه.
ويجب أن يكون هذا اليوم، بالمقابل، تاريخ الاعلان عن عودة الوعي إلى اللبنانيين، واستعادتهم العافية عبر تسليمهم، مرة أخرى، بأن الصراع السياسي هو الطريق لتحقيق الأهداف المنشودة، بغض النظر عن مدى التعارض بين القوى المتصارعة، يساراً ويميناً ووسطاً، ومدى الاختلاف في الأهداف المرجو تحقيقها.
أما في ما يخص الدور السوري في لبنان، بعد 20 شباط 1987، فنفترض أنه سيتخذ سياقاً آخر، غير الذي اتخذه في الماضي، بتأثير الاستفادة غير المحدودة من دروس السنوات الشعر الماضية وعبرها الغنية.
لقد عرف أخوتنا السوريون عن لبنان، ورأوا فيه، وتعلموا منه، ما لم يكن مكتملاً في تصورهم، أو في تقديرهم أو في خزين معلوماتهم المحفوظة والمتناقلة عبر العهود المتعاقبة.
كذلك فقد عرفنا منهم وعنهم الكثير الكثير،
ولم يعد جائزاً أن تتكرر الأخطاء الفادحة التي ارتكبت من الجانبين، أو التي دفع إلى التورط فيها أي من الطرفين.
لقد دفعت سوريا غالياًن ودفعنا معها، ثمن الفصل الكامل بين ما هو “سياسي” وما هو “أمني” في تجربة قوات الردع العربية.
ودفعنا غالياً، ودفعت سوريا معنا، ثمن الخطأ في التعاطي مع اللبنانيين وكأنهم مجموعة طوائف (وحضارات وثقافات وتواريخ) لا تربط بينهم إلا رقعة الأرض الضيقة والمحصورة بين البحر وبين فلسطين المحتلة وبين المحيط العربي، ممثلاً بسوريا وعبرها.
كذلك دفعت سوريا غالياً، ودفعنا معها، ثمن التساهل في الشروط القومية بحجة مراعاة الخصوصية،
فليس إسلام المسلم دليلاً على نقاء عروبته،
ولا مسيحية المسيحي نقضاً للعروبة ومبرراً للخروج عليها،
فلبنان عربي كله، بأبنائه جميعاً، ومتى استلزم الأمر مراعاة ترسبات عصور القهر والظلم الاستعمارية، فإن الضمانة تقدم للخائف باسم العرب جميعاً، وللمغبون باسم العرب جميعاً، لا تأتي من خارجه، ولا تتجه بالخصومة إليهم، ولا تتهم على حسابهم وعلى حساب أمانيهم القومية ومصالحهم العليا.
ثم إن الجيش العربي السوري ليس “شرطة مرور” ولا هو “أمن مستعار”، ولا هو قوة عادية أو مستعدية، في بعض البلاد، أو قوة حليفة أو صديقة أو محابية في بعضها الآخر.
إنه الجيش القومي، وهو في الداخل الجيش الوطني، يحقق رسالة قومية، فيحفظ البلاد ومواردها، وحياة الناس وممتلكاتهم، كلهم في نظره “أخوة” و”مواطنون”، الخارج منهم على القانون متمرد وعاص كائناً من كان، أما المواطن الصالح فله الحقوق كافة، وأساساً حق التعبير عن رأيه السياسي وعن اختلافه الفكري أو العقائدي، لا حصانة للدين إلا حصانة الإيمان وحرية المعتقد، ولا حصانة لتنظيم أو حزب أو فرد إلا تلك الحصانات التي وفرها له الدستور والقانون، الحق العام عام ومصان، والحق الخاص خاص ومضمون، وما هو غير شرعي يقمع بقوة السلاح الشرعي وحده ولحساب الشرعية وحدها.
بقي أن نعمل جميعاً ليكون 20 شباط 1987 يوماً أغر في تاريخ لبنان، وتاريخ الوطن العربي، فنجعله يوم بداية النهاية للمأساة القومية المريعة التي عاشها لبنان واللبنانيون ومعهم أخوتهم الفلسطينيون فيه،
فلا يجوز أن يدخل الجيش العربي السوري إلى بيروت ثم تستمر هذه الحرب المجنونة والمدمرة مع المخيمات وبيئتها التي احتضنتها ورعتها وحمتها وأمنتها على امتداد السنوات الأربعين الماضية،
ومؤكد إن القيادة في سوريا قد لحظت هذا الأمر الخطير وهي تتخذ قرارها بإرسال بعض جيشها إلى بيروت، وبهذا تكون قد أوكلت إليه مهمة قومية وإضافية لا تقل نبلاً وسمواً عن مهمته داخل العاصمة ومن حولها.
كذلك فلا يجوز أن يستقر الجيش العربي السوري في بيروت ثم تبقى خطوط التماس تجرحها وتحز في قلبها فتطشره وتشطرها شطرين، وتشطر – بالتالي – لبنان لبنانات مرشح عددها للتزايد باستمرار.
إنه يوم عيد لبيروت الغربية،
ولكنه لا يمكمل إلا إذا صار عيداً لبيروت كلها، وللبنان كله من الناقورة إلى النهر الكبير،
ونتمنى ألا يتأخر الحوار السياسي الممهد والمؤدي للوفاق السياسي، مرتكز الحل العتيد الذءي طال بحثنا عنه وطال أيضاً ضياعنا عنه وشوقنا إليه.
… وخصوصاً وإن في الشرقية مثل ما في الغربية من أمراض وعلل وقوى معادية للحل والسلام… أي لجمهورها المفترض.
وغياب الميليشيات، بسلاحها الفالت والخارج على أي قضية، هو شرط لحضور العيد، الذي انتظرناه حتى كدنا نيأس من قدومه.
… وهكذا يكون جرح بيروت، الأميرة من قبل ومن بعد، قد أنبت وردة نأمل أن تتحول – مع الربيع القريب – إلى حقل ورود يعيد إلى لبنان بعض ملامحه الأصيلة،
وهي، بالتأكيد، ملامح عربية.

Exit mobile version