طلال سلمان

على الطريق جيش الدولة لا ميليشيا الحكم…

يتصرف الحكم وكأن منافسه الرئيسي على السلطة هو الجيش، جيشه!
في كل ما أقدم عليه الحكم من تصرفات وإجراءات تحت لافتة “عودة الدولة” أو “استعادة الدولة أملاكها”، كان يضع الجيش في الواجهة، ويتنصل أو يكاد من مسؤوليته كسلطة سياسية، هي صاحبة القرار وهي مصدر الأمر.
كان الحكم يعلن التوجه، ثم يبدأ المساومة تاركاً الجيش بين خيار من اثنين: أما أن يتصرف فيبدو وكأنه خارج على “رغبات” الحكم، حتى وهو ينفذ قراره، وإما أن يتلبث منتظراً انتهاء المساومة التي ستظهر الجيش وكأنه عاجز، فيفقد هيبته ومعنوياته التي هو بأشد الحاجة إليها، ويئد نفسه حتى لا يعكر على الحكم مساوماته مع خصوم الدولة والمتضررين من عودتها ومن إعادة بناء الجيش فيها على قواعد غير التي كانت موضع اعتراض إلى حد الثورة المسلحة.
فالحكم يريد استخدام الجيش كفزاعة لاستدراج الميليشيات إلى التحالف معه، ليس إلا، في حين لا يمكن أن يستقيم للجيش – ومن ثم للدولة – وجود ودور إلا إذا ألغى – بوجوده الفعلي وبانضباطه وبحزمه في تنفيذ القرار السياسي – الميليشيات، بغض النظر عن غطائها السياسي المستمد من تحالفاتها مع بعض الحكم.
وفي كل مرة يفاجأ الحكم بأن الجيش يتصرف على أنه إحدى مؤسسات الدولة ومرتكزاتها وليس “عسكر الحكم” أو “ميليشياه”.
ولعل الحكم اليوم أكثر ضيقاً بالجيش من المعارضات المختلفة،
فالجيش لم يعد أداة طيعة في يد الحاكم، يستخدمه في “الأدوار القذرة”، تارة باسم مصلحة الدولة العليا، وطوراً باسم حقوق الطائفة العظمى، وإجمالاً لأغراض غير التي تبنى من أجلها الجيوش والتي تتصل عادة بسلامة الوطن وباستتباب النظام العام فيه وليس بتكتكات الحكام وتحالفاتهم الانتخابية.
ولأن وليد جنبلاط ذكي بما فيه الكفاية فهو قد اكتفى بتسجيل الاعتراض على القرار السياسي متحاشياً الصدام بالجيش، ووجه نقده إلى السلطة (إن وجدت) متفادياً استعداء الجيش وقيادته.
لقد استوعب وليد جنبلاط إن زمن الميليشيات قد انتهى، ومن قبل كان قد انتهى زمن الكانتونات، لكنه أراد تسجيل “نقطة نظام” تتصل بموقع “الطائفة الدرزية” و”حقوقها في الحكم” (من دون أن ينسى الانتخابات)، فاختار الأسلوب السلمي وبالطابع الشعبي، من دون أن يسمح بتحويل الاحتجاج إلى “رفض” فإلى “تمرد” ومحاولات لاختراق “الخطوط الحمر”.
ولم تكن الحال هي الحال مع سمير جعجع، ومن هنا فقد لقي “إجلاؤه” عن بيروت الترحيب الشعبي، حتى لدى المتحفظين على بعض شكليات التنفيذ.
إن الطوائف في الحكم، وبالتالي فلا مجال لميليشياتها في الشارع وفي مرافق الدولة.
لقد حاول بعض الميليشيات أن يحتفظ بمغانم التسلط إضافة إلى منافع السلطة، وأن يزور المعارضة أو يصادرها في الشارع من دون أن يخسر موقعه في مجلس الوزراء،
وكان الحكم، بعضه أو كله، يحابي الميليشيات في مسلكها هذا، فيحالفها وهي معارضة أو معترضة، ويغطي خروجها على “سلطته” كما يغطي استمرار “سلطتها” ويسبغ عليها شيئاً من “الشرعية”، ودائماً تحت لافتة الوفاق الوطني أو “المصالحة الوطنية” العتيدة.
اليوم، في عيد الجيش، يستحق العماد إميل لحود كلمة طيبة، فهو قد قاتل بنجاح لحماية الجيش من “أهله” قبل “خصومه”، واستطاع أن يوحد أشتات العسكر المهزوم في معارك شتى معظمها لم تكن مبررة ولم تكن من أجل الدولة أو جيشها بل على حسابهما، وأن يعطي لدور الجيش بعده الوطني في “الداخل” وفي مناطق المواجهة مع العدو الإسرائيلي.
طبعاً، ثمة من يتخوف من دور سياسي لهذا الجيش يتجاوز مهمته في حفظ النظام.
وبعض الحكم يقول أكثر مما تقول المعارضة في “مطامح” الجيش للعب دورسياسي، ويكاد يتهم قيادة الجيش بأنها ذات مشاريع أو نوايا انقلابية.
وثمة من يجهر بتخوفه على الحريات والديموقراطية من جيش ما زال غير مكتمل التكوين، وناقص التجهيز إلى حد فاضح، وغير محدد المهمة والدور – سياسياً – بشكل يؤذيه ويؤذي “السلطة السياسية” المسؤولة عنه.
الحقيقة في مكان آخر.
فالعاجز عن الحكم ينسب قصوره إلى خروج الجيش على إرادته،
والعاجز عن استيلاد معارضة شعبية معافاة يبرر انفضاض الجماهير عن شعاراته الملفقة “بالجو البوليسي” الذي يراد نشره في البلاد عبر تضخيم دور الجيش.
والحقيقة إن الحكم والمعارضة عاجزان عن التصدي للأزمة الحقيقية في البلاد، أزمة بناء دولة ومؤسسات شرعية سوية.
إن “المعارضات” تلعب بقوت الناس اليومي، فتلجأ إلى السلاح القذر، المضاربة بالدولار، ويتستر عليها الحكم فلا يكشفها ولا يفضح كذبها، ربما لأن بعض أطرافه متورطة معها، أو ربما لأن أطرافاً أخرى فيه تستخدم هذا السلاح نفسه لمحاولة اكتساب “شعبية حرام” على وزن “المال الحرام”،
إن الطرفين معاً في قفص الاتهام،
فلا الحكم عالج بالحزم المطلوب وبالكفاءة الضرورية،
ولا المعارضة تهتم بما هو أبعد من إحراج الحكم وإرباكه ليخضع أكثر لابتزازها.
إن الانهيار اليومي لقيمة النقد الوطني، ولمستوى معيشة المواطن الذي يئن تحت الضربات المتوالية، ويتزايد عجزه عن تأمين ضروريات حياته اليومية،
إن ذلك كله بعض مسؤوليات الحكم الذي لم يستطع أبداً أن يكون حكماً،
ولكن هذا النمط من “المعارضات” يتحمل قسطاً كبيراً من المسؤولية، لأنه ومن موقعه داخل الحكم أو في موقع الحليف تآمر على الناس وعلى النقد الوطني، في محاولة لتوكيد استمرار تسلطه على الحكم إن لم يكن على الدولة ومرافقها وعلى الشعب وموارد رزقه بالخوات والمصادرة والنهب المنظم.
ومن أسف إن ليس للدولة من ملامح، حتى الساعة، إلا الجيش،
فهل كثير أن يعتبر التشهير بالجيش عنواناً لمؤامرة هدفها منع قيام الدولة؟!
هذا مع التكرار: إن الحكم – بمسلكه المعروف – هو أهم الموانع لعودة الدولة ومؤسساتها وشرعيتها وسمعتها الدولية ودورها العربي المنشود!

Exit mobile version