طلال سلمان

على الطريق جيش الجنوب الشهيد…

بقدر ما كان الاحتفال الفولكلوري بذكرى الاستقلال، يوم الجمعة الماضي، شكلياً، أو – في أحسن الافتراضات – رمزياً، فإن دم الشهادة الذي روى بالأمس، ومن جديد، أرض الجنوب، جاء ليعطي “الاستقلال” و”تحرير الإرادة والأرض” والحرص على التراب الوطني المعاني الجليلة التي يجب أن تكون لها.
وبالتأكيد فإن دماء الجنود الشهداء إبراهيم فقيه ومحمد القرصيفي ونعيم زعرور أصدق في التعبير عن الشوق إلى الحرية وممارسة السيادة فوق الأرض المطهرة من رجس الاحتلال، من مجموع الخطب التي ألقيت والتصريحات الاحتفالية التي أطلقت لمناسبة الذكرى الثامنة والأربعين لانتهاء الانتداب الفرنسي على الإرادة والأرض والقرار الوطني في لبنان.
لعلها لحظة ولادة الجيش كمؤسسة في خدمة الوطن، أرضاً وشعباً، وليس مجرد جهاز أمن إضافي واحتياط قوة للنظام أو للحكم، في وجه الشعب وعلى حساب الأرض، كما حاولوا تحديد وظيفته ودوره إبان معظم العهود الاستقلالية.
وبكل الصراحة الفجة يمكن أن يُقال إن أبناء الأطراف لم يعرفوا من الجيش وعنه، في ما مضى، إلا الدور القمعي الممتاز، أو الاستثنائي الذي تعجز عنه قوى الأمن الداخلي من درك وشرطة بمختلف فروعها.
كان الجيش أداة قمع للأطراف باسم المركز ولحساب النظام، وكانت المفارقة إن الكتلة الأساسية في الجيش وهي من أبناء الأطراف كانت تقوم بمهمة تأديب المعترضين أو الناقمين باسم الحرمان على الأوضاع، من “أخوتهم” في الأطراف، تحت ستار حماية “السلام الوطني” من “قوى الهدم والتخريب والخارجين على القانون”!
كان الجيش “قوياًط على أبناء الجنوب، وأبناء البقاع، وأبناء الشمال، وبالاستطراد والتراكم أبناء “الضاحية”، بغير عليهم كلما خرجوا على إرادة الحاكم أو تركوا لعواطفهم ولاحتياجاتهم العنان فشكوا من الجور الواقع عليهم أو أطلقوا صرخات الألم تفجعاً وتظلماً من تجاهل النظام لحقوقهم كبشر، ثم لحقوقهم كمواطنين في أرضهم وفي دولتهم وبين مؤسساتها جيشها ذاته.
وكان الجيش “القوي” عليهم يرفضهم كمتطوعين فيه، حرصاً على توازن الكوتا الطائفية في جسمه وتفرعاته، ثم يتنكر لانتمائه إليهم من خلال الوظيفة السياسية التي يسندها إليه أهل النظام،
وهكذا كان الجيش يقاتل ذاته، بل يقتتل باستمرار، ولقد ظل أسير هذا الاقتتال – على أي حال – بامتداد سنوات الحرب الأهلية، من أحمد الخطيب إلى ميشال عون.
وحدهم أولئك الذين خرجوا من الجيش وعليه وانتسبوا إلى ميليشيات الطوائف اكتسبوا أهمية (سياسية) وحققوا منافع مادية ضخمة وامتيازات فخمة أبسطها التوهج الإعلامي وبعض الزعامة “الشعبية” والمواقع القيادية بمكاسبها “الخضراء” في الداخل والخارج…
لكن هذا ليس موضوع الحديث، اليوم، فلنعد إلى هؤلاء الجنود البسطاء الذين رووا بدمائهم أرض الجنوب عشية الجولة الثانية من جولات المفاوضات الثنائية والمباشرة بين العرب (فرادى) وعدوهم الإسرائيلي، والتي حددت الإدارة الأميركية موعدها يوم الأربعاء في الرابع من كانون الأول 1991 وفي واشنطن.
لقد سقط الشهداء الجدد بصاروخ أميركي استخدمه العسكر الإسرائيلي وبعض أتباعه من عملاء الاحتلال، بينما تصدح الاذاعات والبيانات والبلاغات والتصريحات الرسمية العربية مترنمة بنزاهة الوسيط بل “الحكم” الأميركي وجهده الجبار لإنجاح “مؤتمر السلام” وتسوية الصراح العربي – الإسرائيلي، أو ما يسمى – غربياً – بـ “أزمة الشرق الأوسط”.
سقط هؤلاء بعد ثلاث ساعات تقريباً من إعلان السفير الأميركي في بيروت، رايان كروكر، إن وزير الخارجية فارس بويز قد أبلغه موافقة لبنان (الرسمية) على الموعد الذي اقترحته واشنطن لاستنئاف المفاوضات، وكذا على المكان وجدول الأعمال ببنوده المكتوبة والمعلنة وتلك المضمرة.
لكأنهم شهداء “مؤتمر السلام”،
… خصوصاً بعدما أعلنت إسرائيل “أسفها” لسقوطهم بالقذائف الأميركية لعملائها المحليين الذين يقومون – نيابة عن جيشها – بالمهمات القذرة وضد شعبهم بالذات.
وبالطبع فلسوف تبرر العملية الإسرائيلية الجديدة بتحرشات الأصوليين وباندفاع المنتسبين إلى “حزب الله” ممن يتمركزون في منطقة جبل صافي وجوارها وعلى طول الطريق بين قواعدهم في البقاع الغربي وخط النار مع جيش الاحتلال وأعوانه، وينطلقون من هناك “للتخريب” على الإسرائيليين “المسالمين” بدليل إنهم ذهبوا طائعين إلى مدريد، وجلسوا بمنتهى الأدب إلى مفاوضيهم اللبنانيين والسوريين والأردنيين ومعهم رهائنهم الفلسطينيين.
لكن الحقيقة في مكان آخر،
الحقيقة إن إسرائيل تأخذ حرباً ما يكنها أن تأخذ، ثم تحاول أن تأخذ سلماً، وبالتحايل، أو بالتواطؤ مع الأميركي ما يمكنها التخاذل العربي والتهالك على رضاها من أخذه، بحجة الانسجام مع منطق النظام العالمي الجديد،
وأنى لإبراهيم فقيه ومحمد القرصيفي ونعيم زعرور، وهم بالكاد يفكون الحرف، أن يفهموا منطق هذا النظام العالمي الجديد، هم الذين لم يعرفوا حتى الآن لماذا تختلف “ترويكا الحكم”، ولماذا يصطدم مجلس النواب بالحكومة، ويصطدم أطراف الحكم جميعاً بمصالح الشعب جميعاً؟!
ثم أنى لأرامل هؤلاء وأيتامهم أن يعرفوا ما استغلق فهمه على الكبار الراحلين، خصوصاً عندما يبلغون غداً إن راتب معيليهم قد انخفض – بنتيجة الاستشهاد – إلى النصف، أو دون النصف بقليل؟!
هل سمع أحدهم إن ذرية الشهيد تقبض من مرتبه الأصلي أقل من النصف، في حين إن أمي باش بزق أو سمسار محسوب على بعض أهل الحكم “يلهف” يومياً من أموال الشعب ما يعادل مجموع رواتب الجيش كله في شهر أو يزيد؟!
البسطاء يموتون في الجنون ومن أجله، والذين يحكمون باسمهم وباسمه يكدسون الثروات في المصارف الأجنبية، ودائماً خارج لبنان!!
البسطاء مطلوبون لخدمة العلم، والعلم مطلوب لخدمة الأمراء والنافذين والأقوياء والذين يقبضون العمولة عن كل صاروخ تاو يستورد لحساب الجيش اللبناني الذي أرسل إلى الجنوب بغير سلاح!!
ومع ذلك سيبقى في هذا الجيش دائماً من هو مستعد للموت من أجل تحرير الأرض، تماماً كما يموت أخوته البسطاء من المدنيين للغاية النبيلة نفسها.
المهم أن تصير الدولة دولة في نظر نفسها ومتولي المقادير فيها، بحيث يكون الجيش مؤسسة في خدمة الوطن وطموحات شعبه وليس جهازاً قمعياً إضافياً أو مجرد طابور شرف يستخدم للزينة أو للكرنفالات الاحتفالات والإشكالات الحكومية.
والمهم أن يرد الوطن الجميل للشهيد فلا يعاقب أسرته بحسم نصف راتبه، جزاء له على إنجازه العظيم.

Exit mobile version