طلال سلمان

على الطريق جولة شولتس وخطته في زحمة الذكريات الحزيرانية!

لنتجاوز المفارقة الموجعة المتمثلة في أن “ضيف الشرف” المنتظر الآن في كل العواصم العربية، هو وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية التي كانت شريكة للعدو الإسرائيلي حين قام بعدوانه على الأمة العربية في مثل هذه الأيام من العام 1967، وموجهة لاجتياحه لبنان واحتلال أجزاء أساسية من أرضه في مثل هذه الأيام من العام 1982.
بعد عشرين عاماً لا يجد المهزومون ضيفاً أولى بالتكريم من صاحب الدور الأساسي (بعدهم) في صنع هزيمتهم،
وبعد ست سنوات من الغزو الإسرائيلي الذي اجتاح معظم لبنان وصولاً إلى عاصمته (وإلى القصر الجمهوري)، والذي نصب – بدباباته – على اللبنانيين رئيسين للجمهورية على التوالي، يقبع اللبنانيون في جحور الخوف والضياع وافتقاد اليقين منتظرين أن يتكرم عليهم شريك الغازي ومسلحه وحاميه بتسمية الرئيس الثالث في العصر الحزيراني الذي لا ينتهي!
لعل بين أسباب العزاء إن سلف الوزير الحالي، الجنرال ألكسندر هيغ، الذي تصرف وكأنه القائد الفعلي للغزو، قد عجز عن توظيف النتائج العسكرية للغزو في المجال السياسي،
… وإن الوزير الحالي، جورج شولتس، قد مُني بأول هزيمة وهو بعد على باب الوزارة، بسبب سوء تقديره السياسي وانتقاصه من شأن العرب عموماً والدور السوري في لبنان بشكل خاص، فكانت فاجعته بسقوط اتفاق 17 ايار قاسية وما زالت مرارتها واضحة حتى اليوم!
لنتجاوز ذلك كله، ولنحاول أن نستقرئ ما جاء يفعله جورج شولتس في زيارته الرابعة للمنطقة التي لا يحترم فيها إلا إسرائيل، ولا يشغله من همومها شاغل إلا: أمن إسرائيل ومستقبل وجودها فوق هذه الأرض العربية.
من حيث المبدأ فإن مهمة جورج شولتس محكومة ومحددة – رسمياً – بخطته العتيدة لما يسمى “التسوية السلمية لأزمة الشرق الأوسط”.
ومن حيث الواقع فإن “خطة شولتس” ما وضعت أصلاً، إلا لمواجهة انتفاضة شعب فلسطين داخل أرضه المحتلة،
فالانتفاضة هي التي استقدمت جورج شولتس إلى المنطقة، على جناح السرعة، لكي يحاول إنقاذ إسرائيل من نفسها بإقناع قيادتها المتطرفة بشيء من التساهل والتحايل لكسر موجة الانتفاضة العالية.
وخطة شولتس تستهدف ببساطة نقل المشكلة من داخل إسرائيل إلى داخل الفلسطينيين خاصة والعرب عموماً، وتحويلها إلى فتنة إما بين فلسطينيين الداخل وبين فلسطينيي الخارج، وإما بين عموم الفلسطينيين والأردنيين بقيادة ملكهم الهاشمي، وإمابين الفلسطينيين وبين العرب الخ…
وهكذا فإن خطة شولتس التي رفضها العرب ولم تقبلها إسرائيل ولم ترحب بها السوفيات ولم يرضوا باعتبارها منطلقاً للتسوية المطلوبة، جاءت أقل مما تستوجبه وتفرضه المستجدات السياسية في المنطقة وأبرزها ما حققته الانتفاضة داخل فلطسين وعلى الصعيد العربي عموماً بكل التداعيات المنطقية المترتبة عليه.
وكان لزاماً على شولتس أن يجيء مرة ثانية للشرح والتوضيح، ومرة ثالثة لتبيان ما خفي من محاسن الخطة، ومرة رابعة للتلويح بالمخاطر التي قد تترتب على رفض الخطة التي ربط بها شولتس مستقبله الشخصي.
ومن خلال تجربة سابقة، هي تجربة اتفاق 17 أيار، يبدو واضحاً أن شولتس لا يربط مستقبله الشخصي إلا بما يضمن ويؤمن سلامة الاحتلال الإسرائيلي.
وطالما إن جورج شولتس طامح إلى منصب نائب الرئيس في الانتخابات الأميركية القريبة، فإذا ما تعذر فلا أقل من البقاء وزيراً للخارجية في عهد بوش (إذا ما وصل)، فإن نجاح خطته قد بات ضرورة حيوية لتحقيق الطموح، وعلى “أصدقائه” العرب ألا يخذلوه.
… وجورج شولتس يأتي إلى العرب هذه المرة وهو في أحسن حالاته،
فهو قادم من موسكو التي يرتبط بعضهم بعلاقة وثيقة معها، والتي يخاف بعضهم الآخر من أن يفضحهم تبنيها المعلن لحقوق الشعب الفلسطيني ولسائر الحقوق العربية.
أي إن وزير خارجية الولايات الأميركية القادم لتوه من قمة موسكو يريد أن يبين للعرب، مرة أخرى، إن لا حل خارج خطته وإن “الحصافة” تقضي بأن لا يذهبوا إلى قمتهم في الجزائر بأوهام قد تضيع عليهم الخير العميم الذي تختزنه الخطة، وتتركهم حيارى بلا هدف محدد وبلا آلية لتحقيق هذا الهدف!!
وهو قد أعد لكل شيء عدته:
فهو قادم من موسكو، صديقة العرب أو بعضهم، والعاجزة في الوقت ذاته عن تمكينهم من فرض الحل الذي يتمنون، أو حتى عن إيصالهم إلى ما يمكن أن توصلهم إليه خطته السحرية!
ثم إنه قد جعل محطته القاهرة بدلاً من تل أبيب أو القدس المحتلة، مجاملة للعرب وتوكيداً لعميق صداقته!
وهو سيبلغهم إنه حاول فنجح مع السوفيات فتفهموا نواياه الصادقة وصاروا أكثر استعداداً لاعتماد خطته كمنطلق للنقاش1
هذا إلى جانب إنه يحمل لكل منهم “رشوة” خاصة:
فهو بإمكانه أن يلوح للملك حسين بأن بديل خطته، بالنسبة للأردن، الحرب الأهلية بين الفلسطينيين وبين شرق الأردنيين، بما قد يترتب على هذه الحرب من أضرار قد يدفع العرش ثمنها،
وهو قد يحاول، كرة أخرى، أن يغري السوريين بأن واشنطن مستعدة لأن “تفوضهم” في لبنان إذا هم أوقفوا حملتهم على خطته، وإلا فإن بإمكان الأميركيين أن يتسببوا في إزعاج سوريا في لبنان أو ما هو أكثرمن الازعاج،
ومفهوم إن جعبة شولتس تحتوي، كأوراق للمناورة، موقف أمين الجميل، وموقف “القوات اللبنانية”، وبالمقابل إمكان استخدام الجيش في دور حاسم، بتوجيه من واشنطن وبالتنسيق مع دمشق إن هي تصرفت بما لا يشاغب على الخطة!
أما النظام المصري فلا يحتاج إلى رشوة تفوق تطمينه إلى إن مظلة الحماية الأميركية ستظل تغطيه وتؤمن له الصمود في وجه التيارات المعارضة المتعددة الانتماءات والاتجاهات والتي لا يوحدها شيء قدر الاعتراض على نظام حسني مباركوسياساته عموماً، وبالدرجة الأولى سياسته إزاء الاحتلال الإسرائيلي والتعنت الإسرائيلي في مواجهة مطالب الحد الأدنى للشعب الفلسطيني!
ثمة رشاوى من هذا القبيل لأنظمة أخرى عددية في المنطقة، فواشنطن تحيي وتميت، تضعف القوي حتى يصير مصيره على كف عفريت، وتقوي الضعيف فتكتب له حياة جديدة وقد كان بين… الموتى!!
على إن المعلومات التي سبقت شولتس إلى المنطقة تفيد بما يأتي:
1 – لم يتم أي تقارب بين الموقفين الأميركي والسوفياتي في ما يخص الصراع العربي – الإسرائيلي، أو ما يسمى “أزمة الشرق الأوسط”.
2 – مع تأكيد السوفيات إن خطة شولتس تتضمن بعض النقاط الإيجابية إذا ما قيست بالموقف الأميركي قبلها، فإن هذه الخطة لا تصلح حلاً ولا كمدخل إلى الحل، في المنطقة.
3 – مفتاح الحل أن تقر واشنطن بضرورة انعقاد مؤتمر دولي ذي صلاحيات، وأن يكون في هذا المؤتمر مكان للفلسطينيين يقررونه بأنفسهم وبالتفاهم مع أخوانهم العرب.
4 – إن السوفيات غير مستعدين لأن تستخدمهم واشنطن عنصر ترويج لسياستها في المنطقة، ولا يقبلون موقع الشريك الضعيف أو الشريك الأسمي، فإذا كانت واشنطن قادرة على الحل وحدها فلماذا تطلبهم شركاء، وإن كانت عاجزة عنه بمفردها فلماذا لا تقر بدورهم الأساسي والذي لا غنى عنه،
… ودورهم يستدعي بالضرورة أن يكون المؤتمر الدولي ذا صلاحيات فعلاً، وأن يكون ثمة مكان “للفلالسطيني” فيه، ولو باعتباره واحداً من العربز
5 – إن موضوع لبنان لم يستدع وقفة خاصة به، وقد جاء ذكره عرضاً، وعبر الحديث عن بعض جوانب الموضوع الأصلي!
على إن الكلمة الفصل قد قالتها إسرائيل، مساء أمس، حين أعلنت على لسان بعض المسؤولين فيها، إن ثمة خلافات في الإدارة الأميركية حول خطة شولتس، التي رفضتها دول المنطقة أصلاً!
وزادت إسرائيل فقالت: إن شولتس لم يأتي، هذه المرة، لإنجاح خطته، وإنما لإفشال القمة العربية في الجزائر… فهو قد جاء “ينصح” العرب بالاعتدال، وإلا…
أي إن خطة شولتس تقضي بأن “يعتدل” العرب في مواجهة التطرف الإسرائيلي، وأن يحضر السوفيات شهود زور في مؤتمر تفرض فيه إسرائيل بالقوة الأميركية الحل الذي تراه على العرب المهزومين، وإلا فلا حل ولا من يحلون في غياب قدرة العرب على الحرب!
… وما يتمناه العرب ألا تكون القمة في الجزائر مناسبة لتشييع انتفاضة شعب فلسطين في الداخل، كما كانت قمة فاس مناسبة لتشييع الكفاح الفلسطيني المسلح، انطلاقاً من الخارج.
وحسناً فعل مهندسو القمة، في أنهم باعدوا، ولو قليلاً، بين موعد انعقادها والمواعيد الحزيرانية الأخرى: 5 حزيران، 4 حزيران، 6 حزيران.
والمهم ألا يكون السابع من حزيران تتمة عربية للمواعيد الحزيرانية الأخرى، وكلها إسرائيلية من منشأ أميركي.
وداعاً خطة شولتس؟!
ربما.
ولكن أين الخطة العربية؟!!

Exit mobile version