طلال سلمان

على الطريق جولة بين “الحروب” العربية… “العائد” : الحقيبة أقوى من الرمز!َ

عندما عبر “الحدود” وصار في “الداخل” سقط “الرمز” وبدا ياسر عرفات مجرد مرشح من الخارج لرئاسة البلدية العتيدة في أريحا الملعونة يهودياً وغير المباركة عربياً.
فلحظة الدخول هي لحظة الحقيقة: ما قبلها هو الماضي الأسطوري الذي لم يحفظه صاحبه، وما بعدها نتائج الاحتلال والاستعمار الاستيطاني والتخلي، وقد تنازلت إسرائيل عن المسؤولية عنها لصاحب التوقيع الثاني في اتفاق الصلح المنفرد.
ليس “العائد”، إذاً، بطل التحرير، ولا قائد الثورة، ولا حتى رئيس منظمة التحرير الفلسطينية التي ولدت في القاهرة وترعرت في بيروت وقد وصلتها مطرودة من عمان عبر الجسر السوري، وماتت ودفنت في تونس قبل أن تتم عامها الثلاثين.
“العائد” كبير في الخارج، لكن وهجه وألقابه وتاريخه وأحلامه ذاتها ممنوعة من الدخول. ولقد ظل في نظر “الداخل” كبيراً حتى وصل، تسبقه شرطته وطواقم حرسه ومكاتبه، فتصاغر أمام المشكلات المتراكمة والمزمنة حتى بات مجرد منافس لقيادات الداخل لا يتميز عنهم إلا بما يحمله من دولارات وتسهيلات ائتمانية ومساعدات نقدية وعينية لإعادة البناء والإعمار.
أي أنه يدخل بقوة الدعم الخارجي، وأخطرها الدعم المالي الذي كان يفترض أن توفره له “الدول المانحة” مكافأة على فعلته التي تجاوزت حدود الشجاعة إلى المغامرة بل ربما المقامرة، والبعض يقول: الانتحار.
لكن ع رفات نفسه يصارح المحتشدين حوله، بعد انتهاء مراسم الحفاوة وتكريم الرمز، بأن تعهدات الخارج ما تزال وعوداً، مجرد وعود ، ويبلغهم صراحة وبلهجة تحريضية بأن البنك الدولي لم يف بالتزاماته، وهي لا تكفي ولكنها ضرورية جداً.
ففي الداخل ومع الداخل لا مجال للأوهام، فالأوجاع مضنية ومزمنة، والجراح نازفة لا يمكن تهدئتها بالوعود، والخطابات كفت عن أن تكون العلاج أو أن تفيد كمسكنات: وهو قد استنفد ذلك كله من أجل “الدخول” مجرد الدخول. لذلك فمن الطبيعي أن تبدأ مساءلة “العائد” عما يحمل في حقيبته إلى الذين تجاوزوه في التصدي والتحدي والرفض والمواجهة إلى حد أنه يسهل تصنيفهم في ثلاث فئات: منهم من استشهد، ومنهم من اعتقل أو أبعد، ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً.
ثم أنه “يدخل” نتيجة صفقة، وصفقة باسم الداخل، ومن حق الداخل أن يسأل عن نصيبه في هذه الصفقة طالما أنه “موضوعها”، مع أن الرجال المؤهلين للتوقيع على مثلها موجودون، بل أن في الداخل من رفض التوقيع على صفقة أفضل شروطاً بكثير، حرصاً منه على سائر الفلسطينيين وعلى القضية والثورة والقيادة التاريخية.
وعلى سبيل المثال وليس الحصر، فمن غير أن يعلن حيدر عبد الشافي ذلك فإن الجميع يعرفون أنه كان قادراً على أن يحقق شروطاً أفضل، وأنه رفض وما زال يرفض مثل هذه الصفقة التي يعطي فيها الفلسطيني الإسرائيلي الكثير مما تبقى لديه، فيأخذ عن الإسرائيلي بعض أعبائه الأمنية ثم لا يأخذ منه الحد الأدنى من حقوقه السياسية أو الاقتصادية.
لم يصل من ياسر عرفات إلى عاصمة الحكم الذاتي، أريحا، إلا بعض ملامح الحاكم، وهي حتى الآن “عسكرية”: أمن وقائي، مخابرات، شرطة، وكلها تدور من الفلك الإسرائيلي.
لكنه يأتي بديلاً من الحاكم العسكري الإسرائيلي، وليس رمزاً للاستقلال الوطني.
والمرجح أن تكون الأموال أداة للابتزاز اليومي، في يد الإسرائيلي والخارج عموماً، فلا يدفع دولار إلا مقابل تنازل جديد… وهذه المرة ستكون التنازلات على حساب الداخل ذاته، وعلى حساب الهموم الحياتية المباشرة (كلفة الحياة اليومية، البنية التحتية من مياه وكهرباء وهاتف وشبكات طرق ومرافئ ومرافق عامة، قبل أن نصل إلى الزراعة والصناعة والتجارة) وليس على حساب الشعار المقدس في التحرير من النهر إلى البحر.
فإذا تم ذلك ستكون إسرائيل قد أعادت احتلال فلسطين بطلب مباشر من “حكم الاستقلال” فيها، وستكون قد وظفت وهج الرمز (السابق) للتمكين لهيمنتها على “الداخل”، وهو ما عجزت عنه قبل دخول “العائد”، وستكون قد أحاطت “قلعتها” الصهيونية بمجموعة من الكانتونات الفلسطينية (في فلسطين 1948، ثم في غزة، وفي أريحا ومنطقتها، وغداً في بعض الضفة الغربية)، تحميها من فلسطينيي الخارج “المستعربين”.
والأخطر أن يوظف “العائد” ضمن الهجوم الإسرائيلي المضاد والشامل لاختراق من وما لم يخترق بعد من العرب ومواردهم الهائلة وفي طليعتها الذهب الأبيض (المياه) ثم الذهب الأسود وأهله المتعجلين الاحتراق.
جمهورية التطرف الديني في اليمن
ومملكة الاعتدال الوهابي!!
برغم الهزائم السياسية القاسية التي مُنيت بها السعودية حتى الآن على جبهة اليمن، والتي فاقم من مخاطرها الهزائم العسكرية التي مُني بها حلفاؤها من شيوعيي الأمس في عدن،
وبرغم أن العالم كله يقف، رسمياً ، ضد تقسيم اليمن إلى “جمهوريتين”، يستعيد صغراها بعض عملاء الاحتلال البريطاني الذين نبنتهم وحمتهم المملكة و”ادَّخرتهم” ربع قرن أو يزيد، حتى واتتها الفرصة فأوفدتهم “حكاماً” سعوديين للأرض اليمنية تحت لافتة “الجمهورية الديموقراطية”!
برغم هذا وذاك فإن المملكة ما تزال تعطل أي مسعى جدي للوساطة، لاسيما على المستوى العربي، بينما لا يتعب المسؤولون فيها من الإعلان عن ضرورة “وقف النزف والدمار في اليمن وحجب دماء الأشقاء الأقربين”.
أكثر من ذلك: لقد عطلت المملكة وساطة طلبتها بذاتها، بعدما كان المسؤول الخليجي الذي كلفته المملكة رسمياً، وعبر اتصالات مباشرة تولاها أحد مستشاري الملك (العنقري)، قد قطع شوطاً بعيداً على طريق النجاح، خصوصاً وقد استجابت صنعاء إلى صوت العقل، وبأكثر مما توقع الوسيط.
كذلك فقد جمدت المملكة محاولات التوسط والاستعداد لبذل المساعي الحميدة التي صدرت عن أطراف خليجية أخرى، بينها دولة الإمارات العربية المتحدة، وأوحت إلى “أصدقائها” الجنوبيين بأن يطوّقوا الشيخ زايد بن سلطان. وأن يحاصروه بالمعلومات والوقائع المجتزأة وغير الدقيقة أو غير الصحيحة، وأن يطاردوه بالاتصالات اليومية، وعلى مدار الساعة، لكي يعطلوا دوره التوفيقي المحتمل، ولكي يستعدون على “أشقائهم” في الشمال.
اليوم، تصدر عن سلطان عُمان إشارات تفيد إلى نيته التوسط، خصوصاً بعد الفشل السعودي المتكرر في استصدار قرار من مجلس الأمن يبرّر “الانصال” ويمهد للاعتراف به عربياً ودولياً،
فإذا صح ذلك، فلسوف تنتظم أكثرية دول مجلس التعاون الخليجي في مسعى لإيقاف الحرب والانصال، إذ سيكون إلى جانب سلطان عُمان رئيس دولة الإمارات الشيخ زايد، وسيعززهما موقف قطر الرافض للحرب والانفصال معاً، ولا يبقى مع السعودية إلا الحليفان الاضطراريان: الكويت (لأسباب مفهومة) والحبرين (بحسب جسر “جوني ووكر” الشهير الذي يربطها بالمملكة ويزدهر أيام الخميس من كل أسبوع نتيجة لازدحامه بقوافل الآتين للسكر والمتعة، وأواخر ليالي الجمعة لازدحامه بقوافل العائدين سكارى)…
ما يستوقف، على هامش هذه الصورة، تحول “الشيوعيين” في نظر السعودية، فجأة، إلى حماة للدين الحنيف عموماًُ، وحرس حدود للسعودية من مخاطر الزحف الأصولي عليها!
فشيوعيو الأمس في عدن يستنصرون خادم الحرمين الشريفين فينصرهم لصد الخطر الداهم الذي يتهدّد شبه الجزيرة العربية، متمثلاً في “الأصولية” الوافدة من إيران كما من السودان وبعض الصومال، وهي تتجاوز التطرف إلى الإرهاب الديني!!
أي أن علي عبد الله صالح صار مخيفاً للمملكة التي قامت على السلفية المطلقة، لغلوه في التشدد في تفسير الإسلام، بينما صار “الوهابيون” دعاة اعتدال وتعقل وتسامح في تفسير النص الديني إلى حد التلاقي والتحالف على أرض واحدة مع الملاحدة وأصحاب الأفكار الهدامة من الشيوعيين في جنوب اليمن،
ومن يعش رجباً ير عجباً!!
فرصة جديدة أمام قطر والبحرين..
ولأن الشيء بالشيء يذكر، من المفيد الإشارة إلى أنه لولا التدخل السعودي في الخلاف الحدودي بين كل من قطر والبحرين، لما كان هذا الخلاف أصلاً، ولأمكن حله ودياً في إطار الأخوة والمصالح المشتركة بدلاً من الاقتتال، ثم حمله إلى محكمة العدل الدولية، بما يؤذي سمعة البلدين الشقيقين والعرب جميعاً.
لقد لعبت المملكة، من قبل، وبين البحرين وقطر، الدور التحريضي نفسه الذي تلعبه الآن بين اليمن، شماله والجنوب.
لكأنها مولعة بإشعال الحرائق الصغيرة من حولهال، لينشغل بها “الأخوة الصغار”، بينما تنهمك هي في توسيع حدودها وتوسيع دائرة النفوذ من خلال المبادرة إلى ارتداء ملابس الاطفائي وإظهار الغيرة على ضحاياها.
ولعل القرار الأولي لمحكمة العدل الدولية يكون فرصة لمراجعة نفس في كل من قطر والبحرين من أجل حل عادل ومقبول يحقق مصالح الإمارتين المتماثلتين إلى حد التكامل.
والتوافق المباشر أقل كلفة بما لا يقاس من الاختلاف، خصوصاً وثمة من هو مستفيد من الاختلاف ومن تفاقمه إلى حد الحرب.
وحرب الأشقاء هي الجريمة الكاملة، في كل زمان ومكان.

Exit mobile version