طلال سلمان

على الطريق جنوباً در، جنوباً سر، وانتصر!

ما أسرع السنين، ما أبطأ الأيام، ما أطول النهارات، ما أقصر الليالي. ما أقسى العيش، ما أمتع الحياة، مع أعظم الحرية، ما أحط القمع والعسف والاستكانة والاستسلام. ما أمر الاحتلال، ما أشرف المقاومة. ما أتفه الـ “نعم” ما أكرم الـ “لا” مجلجلة وجليلة في وجه الظالم والمهيمن والطاغية والمحتكر والمغتصب والمستغل والطائفي والدخيل.
ما أروع أن تكون أنت الكل، وجهك هو الوجه، صوتك هو الصوت والصدى، خطك هو الخط والرسالة، ورايتك هي الراية من استظل بها وُلد فخلد ومن أضاعها ضاع في سديم حدوده النسيان والعار ولعنة الأجيال.
ما أجل أن تكون السيف وزند الصلابة، واليد غير راعشة وغير راجفة، وغير مرتبكة، والعين ثاقبة البصر والطعنة المقدسة لا تخطئ هدفها ولا ترتد عنه وفيه رمق فهو العدو العدو.
ويا لبهاء أن تكون “المقاتل” بينما الآخرون موزعون وتائهون ومشتتون بين مقتتلين وقتلة وقتلى أو منتحرين بالسم الطائفي الزعاف، حياتك النصر وموتك النصر واسمك الناصر والمنصور والنصر وكنيتك الجنوب.
ولأن بين “السفير” والجنوب صلة رحم، فقد رأينا فيه وليس إلا فيه عيدنا، وبه ومنه ومعه ندخل السنة الحادية عشرة من عمر هو سطور في صفحة هذا التاريخ الذي يكتب الآن بإرادة الصمود مزكاة بدم الشهداء المجهولين.
فعيدنا الناس، والناس اترعوا بالحزن حتى لا مجال بعد لدمعة، إلى أن جاء الجنوب فتور دنياهم بالأمل والعزة وأمدهم بالزخم والإحساس بالقدرة وأخذ يجتذبهم إلى طهارته مستنقذاً إياهم من المستنقع الطائفي الموبوء.
يا وشما على الخدين بحبيبات القلب.
يا رشة الندى على محيا صبية بهية تقصد مع الفجر إلى الكرم مدارية السلة الفارغة عن العيون حياء.
يا زهرة الرمان مشعشعة بالأحمر تقوم علامة للزمان والمكان وبيت الحبيب.
يا بيلسانة و”قمرها” كف من الأزرار الصغيرة المغلقة على العبق، والعبق يحتضنك ويلفك كمثل الشال الذي تتلفح به ست الحبايب وتتناثر أزراره الصغيرة على الكتفين دليلاً على إتقان الصنعة والصانع.
يا وردة مفتوحة الصدر لنحلة تمتص الرحيق وترف بأجنحتها الصغيرة اعتزازاً بسبق الوصول.
يا الكف المشققة كأرض عطشى، والغلظة فيها تشدك إليها حتى تكاد تجرّح شفتيك وأنت تكاد تعتذر عن الطراوة فيهما وفي اليدينز
يا الصبر الذي لا ينضب يا الإيمان الذي لا يهتز ويبقى حبله متصلاً مع مصدر الإيمان واليقين كشجرة جذعها في الأرض وفرعها في السماء.
يا الحقل يا المنجل ، يا السنبلة ، يا المحراث و”البكيرة” و”الفدان” والسكة والنير والصمد وبيدر الخير والبركة.
يا موسم الزيتون الممتلئ حبة نعمة.
يا شتلة الكيف والشقاء وذل الريجي والمتحكمين
يا الشحرور والحجل، يا الحسون والترغل والسمن والسنونو المبشر بتجدد الحياة واكتمال الدورة.
يا سعد نبح وسعد ذبح وسعد السعود والمستقرضات والحوار المتصل مع الأرض والفضاء لا يداخله خطأ، فغدا صحو والسبت مطر والثلاثاء ثلج والاكي دنيا سيكون موسمه شحيحاً أم الليمون فلا بد من أن نوصي على مزيد من الصناديق.
يا القدمك التراب وذراعك صوان والأصابع جذور شجرة وفي العينين التماعة زهرة البلاد وعلى الجبين تلك العلامة المباركة والدالة على وحدانية من يستاهل الصلاة والطاعة والتلبية: الله، وعبر الأصلب، الأرض.
يا الجنوب: يا صدر “الأولى” وقلب “الأخيرة” ومالئ الثنايا والجوانح، هلا سمحت لصحيفتك أن تحييك من على البعد؟!
المعبر وحيد، والطريق طويل، والشوك في الحنجرة، ولكنك فينا يا الجنوب وإنا كنا نمنع عنك. تسد أمامنا الدروب. تصادر السطور والصور. تعتقل الكلمات والقصائد لكنك تبقى ما كنته: أنت الحر والمحتلون هم الأسرى والمطوقون والمرتعدون خوفاً من فتيتك الغر، من نسائك الساكبات الزيت المغلي، ومن شيوخك الذين يقولون لضباط المحتل كل شيء إلا ما يريدون معرفته.
لقد أقفلوا المداخل ليحاصروك ، فإذا أنت ملء الدنيا كلها، أقوى من آلة حربهم الهائلة، أقدر من كل “خبرائهم” الذين لا تفوتهم نامة تصدر عن نملة، وأبرع من كل أجهزتهم العلمية المعقدة، وكيف يحل الكومبيوتر لغز الإرادة وابتسامة الذاهب إلى الشهادة؟!
3546 عدداً، والجنوب العنوان والافتتاحية والسطر الأخير، وفي الصدر بعد بقية من خجل: أترى وفيناك حقك، أنت الذي اختزلت القضية بأرضك وشجرك وطيرك، بساحلك وجبلك والهضاب والوهاد والتلال ، وبالرجال البلاد أسماء ولا صور؟!
فما هو الوطن إذا لم يكنك؟!
وما هي العروبة، بأصلها، غير هذا الذي يصدر عنك مستعصياً على التشويه وتجار التوابيت والملصقات والمسترزقين من قوت الأحياء وأعمارهم؟!
ألست الأمة في الصورة الأبهى والأنقى لغدها الأفضل؟!
فهل كثير عليك 3546 عدداً من “السفير”؟!
للمناسبة: الإعداد أقل قليلاً من عمر “السفير”، لأن الناقص منها إما محتجب وإما معطل وإما ملغى بالقهر، أو ممنوع إصداره وممنوع التصدير!
عيدنا بالناس، والناس أنت يا الجنوب.
أما أصحاب الأسماء المسبوقة بألقاب الفخامة والدولة والمعالي أو الموسطة بألقاب الباشوية والبكوية، فهم يلغون أعياد بسطاء الناس، ثم يقيمون لأنفسهم أعياداً في أي مكان، فإذا ضاقت العاصمة ونواديها ارتحلوا إلى أية مدينة، وها هم عائدون من لوزان بعد جنيف، والحقائب معدة بعد في انتظار الاتفاق على المحطة التالية.
لكنك أنت يا الجنوب، لكن أبناءك المغمورين المنسيين النابتين من الأرض المستحمين بالشمس الغائصين في الأرض عميقاً، هم الذين يصنعون لنا أعياداً، ويطرزون بها حياتنا والجباه المرفوعة.
بل إنهم يعطوننا في كل يوم عيدا: عيد جبشيت، عيد الحلوسية، عيد معركة، عيد أنصار، عيد دير قانون النهر، عيد ميمس، عيد النبطية، عيد قانا الجليل، عيد طير حرفا، عيد الجبين، عيد جويا، عيد جميع القرى، وصيدا بلد العيد ومهجعه… والأعياد تتجمع فيها قادمة بزغرودة الفرح من كل دسكرة ومزرعة وقرية وضيعة ومدينة.
وستظل “السفير” تبشر الناس بالأعياد الجنوبية وستظل تطالعهم بتحية الصباح مع كل شمس: جنوباً سر، جنوباً سر، وبعد الجنوب جنوب الجنوب، ثم انعطف في اتجاه المحيط.
وستظل تهتف بالتائه والضائع والضال: جنوباً در جنوباً در، سلاحك إلى الجنوب، رصاصك إلى عدوك في الجنوبن وما قاتلت لن يكتسب اسمه الحقيقي إلا في الجنوب.
3546 عدداً، والسنة الحادية عشرة تطل مع زخة مطر واعدة بخير للأرض والناس، فليكن الخير، لكل الناس، وليكن الخير لمصدر الخير، للأرض.
ولتكن تحيتنا كل صباح: جنوباً سر، جنوباً در، وانتصر.
ويا الجنوب: كل عام وأنت بخير، ومن خيرك سيكون الخير لكل الناس في كل الارض العربية.

Exit mobile version