طلال سلمان

على الطريق “جنرال الخريف” يغتال الربيع وبيروت – الأميرة

ما اليوم، ما الشهر، ما السنة؟.. ما اسمك أنت أيها المنتظر وعداً بالحياة، حيث تقبع مذعوراً ومتماوتاً تنجح في الإفلات من موعد مع الموت “الشرعي” المجنون؟!
تداخلت الأيام بالأسابيع، سقطت الأرقام من لوحة الساعة. أمحى الفاصل بين الليل والنهار وخرست الديكة المبشرة بالشمس الجديدة، وتوارى “المسحراتي” تاركاً رمضان يصوم لذاته نيابة عن الذين لا يجدون خبز الإفطار لأن الشركاء الكبار للضابط الصغير قد سرقوه، عون على عون، والله المستعان!
السماء سديم باهت الزرقة لا تنعشه زغرودة طائرة تعود إليك بالأحباب الغائبين، والقمر يتقافز مهرباً ضياءه الشاحب بين القذائف والصواريخ والقنابل المضيئة، لا هو يصل إليك بالسكينة ولا أنت تصل إليه بالشعر وبنشوة الامتلاء بالحياة.
والبحر مستنقع راكد في غياب الأشرعة التي تمده بالنبض وتستولد موجه الملغي للمسافات والغربة. الباخرة هدف معاد تؤذن إطلالتها بانطلاق المدافع لتبعدها عن أرصفة الموت المهجورة حتى لا تستقبل شحنات “الترياق” المستقم خصيصاً لحماية الوحدة الوطنية.
محاصر أنت بالجنون والتفاهة، والربيع محاصر بعيداً عنك وراء خط النار والدمار.
ومحاصرة مدينتك الأميرة، تنتهك حرمة بيوتها قذائف “الجيش” الذي حرمته الطائفة شرف الدفاع عن الوطن وحولته إلى مرتزق يطارد بمدافعه أحلام المواطن الممنوعة.
بعد القذائف، وفي ظل سكون الرعب، ينتهبها اللصوص.. تخرج من الملجأ، أو تعود من دار تهجيرك المؤقت فلا تجد السيارة، وقد لا تجد القرش الأبيض الذي خبأته لليوم الأسود، فتنطوي على ذاتك لأن قضيتك أكبر من الهم الشخصي، أو يجب أن تكون،
لكن السؤال يظل يلح عليك، حيثما ذهبت: كيف وبمن تنتصر طالما يفرض عليك أن تختار بين حياتك وبين قضيتك؟! وهل خاتم الزواج وهدايا العرس قد نهبت لنصرة القضية العادلة؟!
تلمح في كوة في مهجعك المفترض آمنا وردة بلون الطيف تسحق فوق عودها المشواك فتنتعش وتدلك في صدرك أملك الهامد، كمن ينقذ غريقاً بالتنفس الاصطناعي، وأنت الغريق والمقطوع النفس والمحتاج إلى إنقاذ عاجل.
هو الربيع، إذن؟!
هو “نيسان” الذي منتك فيروز بأنه سيجيء غداً والحب معه في موكب الطيب وقطر الندى؟!
أين ذهب آذار، إذن؟ من اغتاله وألغى عيد الخصب والتجدد فيه؟! من قتل موسم الورد والحب والبهجة والدفء وانبثاق النسغ في ساق السنبلة المثقلة بالخير؟!
لبنان 1989 بلا ربيع!
جاء “جنرال الخريف” مع الليل إلى القصر فاحتله وحوله إلى “غرفة عمليات عسكرية” وبدأ إصدار الفرمانات “الثورية” الهادمة للنظام القديم:
قضى الفرمان الأول بإلغاء الحياة الطبيعية جميعاً. “التحرير” له الأسبقية على الحياة. تتحرر بالموت أو تموت لأنك ترفض أو تعادي التحرير. لك الخيار، لكن القرار صدر ونقطة على السطر!
لا سياسة ولا من يسوسون. الساسة زمرة من الجبناء والعملاء وأزلام السفراء. ثم إن السياسة خروج على الشرف العسكري. مع الجنرال لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف مع الجنرال بم بم والسلام. أي سلام؟! بم بم حتى يندحر السلام، حتى يندثر السلام. السلام ذل والجنرال عنفوان، ولا يلتقيان!
لا كهنوت ولا رهبان. للكهنوت الكنائس والمسابح والصلاة، أما المصير فأخطر من أن يترك للملتحين، إلا من اهتدى منهم وجاء إلى القصر تسبقه توبته ويشفع خروجه بإعلان الجنرال مباركاً باسم الرب، والشهادة بأن مجد لبنان قد أعطى له وحده بغير شريك. أليس القصر عنوان المجد ومقره؟! أليس القصر للجنرال؟! كيف يكون لغيره المجد وهو الباقي حياً في قصر الموت الجمهوري المهجور؟!
لا اجتهاد، لا خروج على السطر، لا فلسفة ولا طق حنك باسم التفكير والحرية والديموقراطية. التحرير تحرير. أنت تحرير إذن أنت موجود، هكذا قال ديكارت.
استطراداً : لا انتخابات رئاسية، ومن باب أولى: لا إصلاح ولا تعديلات في مواقع السلطة! هي الثورة، الثورة تغيير شامل كامل مطلق ولا مجال فيها للمساومات والاصلاحات الجزئية. تغير ما في نفسك، تغير ما في فكرك، تغير ما في بيتك، تغير ما في جيبك. تغير مدينتك، قريتك، تغير هويتك، لغتك، أرضك، دينك، عقيدتك، تغير حاضرك، تغير مستقبلك. تغير أبناءك، تغير انتماءك، تغير وجهك ووجهتك حتى لا تعود أنت من كنت في العهد القديم: عهد المزرعة الطائفية والفساد الإقطاعي. عسكر الطائفة غير ساستها، وأن يجيء العسكر إلى السدة ثورة تقلب الهرم والمجتمع فتجعل أسفله في الأعلى، وهذا ذروة التغيير.
هم – المذكورون آنفاً – لا يريدون العماد رئيساً. إذن سيكون الرئيس عماداً ورأساً للسلطة وسيتوحد بجسدها الشعبي وليذهب النواب إلى بيوتهم أو إلى بيوت خالاتهم في بكركي أو في دمشق، في باريس أو في واشنطن أو في العواصم الأخرى… أو فليذهبوا إلى خوارزم، هكذا كان يقول أبو مسلم الخراساني! أو فليذهبوا إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم! هكذا قال الشعراء! وإن لم يذهبوا طوعاً ذهبوا كرهاًز
ولأنه “عماد البلاد” فقد اعتبر نفسه الحكم والحكومة، السيف والقلم، المجلس والمواقف، الجمهورية والجمهور، وقرر أن يكون مصدر السلطات جميعاً ومرجعها… فهو الخارجية والسفارات والدول، وهو الداخلية والعسس وجهاز النسف والاغتيال، هو الأعلام وهو المذيع ومقدم البرامج، هو الصحة بالطبيب والمريض والمستشفى والممرضة والدواء، هو الدفاع وهو الهجوم بالمغاوير والمكافحة والشرطة العسكرية والسترة الواقية من الرصاص والمدفع والبوق واللسان الفالت بالاهانات السريعة الطلقات ضد الخلق جميعاً في الداخل والخارج.
هل من معترض على الفرمان الأول؟!
إن وجد فألحقوه بادمون رزق، أو فابعثوا به إلى بكركي وبئس المصير!!
*الفرمان الثاني قضى بإلغاء النور.. وهل يحتاج من لديه فكر العماد النير وطلعته المشعة وعباراته المضيئة مصابيح كهربائية للقراءة أو الكتابة أو لتمييز الطريق؟!
ضع صورة لميشال عون في كل غرفة فتبهر جيرانك وأبناء السبيل!
ثم لماذا القراءة والكتابة وإجهاد المخ بالتفكير؟! اسمع ما يقوله البوق فتعرف كل ما ينقصك من علوم في السياسة والثقافة والأدب والفكر والفن.
*الفرمان الثالث نص على إلغاء فصل الربيع،
“جنرال الخريف” لا يحب الورد، ويضيق صدره بعطر زهر اللوز والخوخ والتفاح والقندول والعنبر وبنفسج الشبرق،
“جنرال الخريف” ثابت على المبدأ: جاء به الخريف إلى القصر إذن فليستمر الخريف ما استمر هو رئيساً في القصر.
“رجل الخريف” يخشى إن تم تبديل في الزمان أن يقع تبديل في المكان يذهب به وبأحلامه العراض، والحلم غال فكيف إذا اتصل برئاسة الرئاسات جميعاً، رئاسة الطائفة العظمى، رئاسة جيش دولتها، رئاسة جيشها الخاص، رئاسة دولة حكومتها ورئاسة الملجأ في الطابق الثاني بقصر الموت الجمهوري المهجور؟!
“جنرال الخريف” نجح في اغتيال الربيع، وهو يحاول الآن اغتيال المستقبل.
“جنرال الخريف” غطى على جرائم الحصار الإسرائيلي وارتكابات الميليشيات، وهو يواصل نهش لحم بيروت كالوحش المسعور.
لشد ما يكره المدينة والمدينة هذا “الطوبجي” الذي لا يطربه نغم قدر صوت انفجار القذيفة في الأجساد الطرية للشيوخ والنساء والأطفال.
لشد ما يكره شوارعها، عماراتها، الشجر القليل المتبقي المرتدي لباس العيد السندسي لمناسبة قدوم الربيعز
لشد ما يكره صورة المؤسسات الحضارية والمراكز الثقافية ومواقع التأثير الاقتصادي والقلاع الصناعية.
إنه يكره حتى الفنادق والمقاهي. واسم ميشال عون محفور الآن على واجهة فندق البريستول كما على السمرلاند والكورال بيتش والكارلتون بنثار الزجاج المحطوم وبآثار الحريق في بعض الغرف والأجنحة البلا زبائن.
إنه يكره البيوت وناسها. يكره المخازن الأنيقة. يكره مقار المصارف ومكاتب الصحف. يكره البنايات الفخمة كما المتواضعة. يكره المدارس والجامعات.
وهو يكره، أكثر ما يكره، المستشفيات وعيادات الأطباء والمستوصفات الشعبية. وثمة أكثر من مستشفى آخر صريعاً بقذائف الضابط المدفعي الدقيق في تهديفه ضد أسباب الحياة!
“جنرال الخريف” يكره الربيع.
ظل يقصف المدينة وضواحيها والهضاب القريبة، وحيثما شعشعت شجرة مزهوة بزهرها، فلما لم يسقط الزهر كله نزل إلى الملجأ مغيظاً حتى لا عين ترى ولا قلب يوجع، وأمر باستمرار القصف حتى آخر زهرة على آخر شجرة في آخر حديقة لآخر بيت في آخر قرية في لبنان.
جنرال قصر الموت الجمهوري المهجور يقاتل ضد عقارب الساعة، ضد الشمس، ضد التاريخ، ضد الغد وضد أبناء الغد.
جنرال الموت لن يكون غداً أكثر من ورقة شجر خريفية تسقط على بعض أرصفة بيروت، أميرة الحزن العربية، فيكنسها الكناسون تحت ضوء الشمس، ولادة الربيع في لبنان وفي كل مكان وزمان!

Exit mobile version