طلال سلمان

على الطريق جبشيت تسكنكم!

جبشيت تسكنكم الآن. وفرت عليكم وعثاء السفر وعناء الطريق وذل الوقوف على حواجز المحتل وهدر الكرامة على أعتاب عملائه المنتظمين في عصابات مسلحة تفاوض الدولة ولا تفوضها أو تفوض إليها شأن الوطن وناسه.
لقد اقتحم عسكر الاحتلال جبشيتن ذات ليل، فهبت تواجهه بالصدور والمجارة. ولقد انتظرت جبشيت أن ترفعوا أصواتكم لرفع “الأيدي القذرة” عنها، ثم مشت إلى لقائكم في ما جاورها من قرى ، فإلى النبطية، فلما استأخرتكم اقتحمت عليكم غرف النوم وأرائك القيلولة واضعة إياكم مع واقعها – واقعكم وجهاً لوجه ولا مفر ولا عذر لغائب أو متغيب بداعي السفر أو الأعمال أو الخوف أو حتى الاستغراق في التأمل والصلاة طلباً لمرضاة الله.
جبشيت تسكنكم الآن، لقد غادرت موقعها كضيعة طائعة على خريطة المناطق المخضعة للإهمال، تاريخياً، وللاحتلال ، حديثاً، لتستقر في قلب القلب والذاكرة والوجدان وإرادة أن تكون ما كانته دائماً وما ستكونه دائماً وأبداً.
لا شيء في جبشيت يستحق الذكر، أو يلفت انتباه السائح، فيها رجال ونساء وأطفال، شباب وفتيان وشيوخ سمر الوجوه بعيون سوداء أو عسلية، وحسينية، وشيخ معمم وأرض تتداخل مع لحم الأصابع والزنود والأقدام ويستقر غبارها نظيفاً خلال الشعر والحواجب ورموش الأهداب.
لا سلاح في جبشيت غير الإيمان ببعض القيم والمطلقات كالله والحق والعدل، وببعض المحسوسات كالحجارة والتراب وشيء من الماء وكثير من الكرامة المرتبطة بالارض والعرض ولا فاصل بينها جميعاً، ولا مجال لفض هذه العروة الوثقى ولو بحد السيف.
والناس في جبشيت بسطاء إلى حد السذاجة، ومن هنا فهم لا يتأثرون كثيراً بموجات التفاؤل الوافدة إليهم عبر الإذاعات، على ألسنة الكبراء ومن رؤساء وخبراء ودهاقنة في السياسة والمفاوضات والناطقين الرسميين والمتبرعين لتسويق المخدرات الأميركية.
… ولأن جبشيت بهذا القربن فليس مهماً أن يمنع سعد حداد وصول “السفير” إليها وإلى الجنوب كله، فجبشيت فينا، ونحن فيها، والمعتصمون في حسينيتها يشاركوننا المكاتب ويحتفلون معاً بإضاءة الشمعة العاشرة، كما إننا معتقلون معهم هناك وهنا، أفليس الوطن كله في معتقل الاحتلال؟!!!
ولأن “لبنان سعد حداد”، حر فعلاً فقد عمد إلى مصادرة الكلمة والرأي والصوت والصدى إضافة إلى الأرض والبشر، لكن الإرادة ما تزال حرة هناك بقدر حريتها هنا، وأكثر.
لكننا سنعرف طريقنا إلى جبشيت ، كما عرفت طريقها إلينا متخطية الاحتلال والحواجز وعصابات القهر المسلح.
لقد أنجبت جبشيت “حربها” بنفسها بعدما تعذرت حرب الجميع ضد العدو الواحد، ولم تكن مصادفة إنه ولد وعلى رأسه عمامة.
لكن راغب حرب يدرك إنه ليس فرداً واحداً، بل هو بعض ذلك المزيج العبقري من الأرض والناس والتاريخ ونضال الفقراء والتراث الذي اسمه جبل عامل.
وبين سعد حداد وراغب حرب لا مجال للتردد في الاختيار والانحياز، فذلك منشق عن وطنه وخارج عليه، وهذا يلغي نفسه ليؤكد حضور الوطن.. ودولته،
ولا بأس أن ندفع الثمن عجزاً مؤقتاً عن الوصول إلى الجنوب، وإلى أهلنا فيه وهم هم بعض “من لا صوت لهم”،
المهم أن يبقى لبنان في الجنوب، فالجنوب هو – الآن – الوطن والقضية والسيادة والحرية والانتماء والهوية ناهيك بمعنى الدولة فيمتها الشرعية.

Exit mobile version