طلال سلمان

على الطريق جامعة المُسْتفرَدين…

ليس أقسى على النفس من تخلي الأهل الأقربين إلا ضيق المحاصر بظلم ذوي القربى.
… والتخلي هو الذريعة لكل انحراف، وهو المبرر لكل تفريط بحق الجماعة، وهو المقدمة المنطقية للاستسلام للعدو على حساب الأخ الشقيق، وبالتالي مجموع الأمة، فالاستسلام يبدأ فردياً ثم تتحول “السابقة” إلى “قانون” له حيثياته وموجباته، والعذر دائماً “الآخرون”… عذر كل واحد هو كل واحد من “الآخرين” ثم كل “الآخرين”، فكل معذور بالآخر وهو في الوقت نفسه عذر للآخر، وبالتناوب.
هذه المقدمة يمليها اجتماع مجلس الجامعة العربية في القاهرة بمشاركة بضعة عشر وزير خارجية، وسط ركام من الإخفاقات ووجوه التخلي (المتبادل) والفشل في حماية الذات بعيداً عن الجماعة، ولو على حسابها!
فلا بد من جامعة الدول العربية، بكل وهنا وعجزها، ولا بديل منها، بكل قصورها وتقصيرها، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي القدير.
هي فارغة بغيابهم، فإذا ما حضروا مدفوعين بالحاجة أكثر من الرغبة أعادوا إليها بعض دورها المفتقد والضروري لتهدئة روع من يقلقه الشعور بأنه مستفرد ومستوحد ومتروك للريح… ريح “عاصفة الصحراء” الأميركية أو ريح الأطماع الإسرائيلية أو الريحين معاً.
لا بد من استكذار “العادة”، عادة التلاقي والتشاور وتحديد مساحة (ما؟) لموقف واحد أو مشترك من بعض المسائل إن لم يكن من جميعها، وفتح باب النقاش المباشر حول المسائل المختلف عليها بدلاً من التشاتم عبر الأثير أو اختزان الأحقاد في صمت التواطؤ على أمر يمكن تدبيره في ليل!.
لقد مر من الزمن ومن المحن ما يكفي لأن يبدأ الكل نوعاً من المراجعة للتجارب المرة التي عصفت بصفوفهم فذهبت بتضامنهم (مجتمعين) وأيضاً بالحد الأدنى من الأمان الفردي.
وليس هدف المراجعة مطالبة الله بأن يعفو عما مضى، وان يفتح كل ذراعيه للآخر معانقاً ويستعطفه السماح وهو يشرق بدموع الندم والتوبة (!!)، ولكن بقصد حماية أو استنقاذ ما يمكن استنقاذه من مستقبل “العرب” مجتمعين ومن مستقبل كل منهم على حدة!
… حتى لو كان الموضوع الالتحاق بما يسمى “النظام العالمي الجديد” لصاحبه الرئيس الأميركي جورج بوش.
لقد ثبت، بالدليل الحسي، إن لا دور ولا مكانة ولا تأثير ولا ضمانة لأي منهم منفرداً، مهما كانت موارده الطبيعية هائلة الغنى، ومهما اتسعت أرضه ساحلاً وجبلاً، ومهما بلغ عدد سكان بلاده الفقيرة حتى الأملاق، وكذلك مهما بلغت كفاءة قيادته السياسية في المناورة واستغلال التناقضات المحدودة والأوراق الهشة المتبقية، وهي دائماً “عربية”.
الكل في خطر، والخطر على التابع المستكين لحماية “المحرر” الأميركي أشد منه على المستقل والمحاول اختراق استحالة الاستمرار خارج المظلة الأميركية.
وليس ثمة ما يوحي بأن أهل الجزيرة والخليج هم اليوم أكثر اطمئناناً إلى غدهم مما كانوا قبل عام أو عامين.
“فدرس العراق” لم يكن موجهاً إلى صدام حسين، بل لعله موجه إلى كل “عربي” وأي “عربي” بالمطلق، أكثر منه إلى صدام حسين.
وها هو “الدرس الليبي” يوضح ما قصر عن توضيحه، أو ما التبس على “العرب” فهمه من “الدرس العراقي”.
إن الكل يواجهون المأزق ذاته، على اختلاف مواقعهم ومواقفهم، المعلنة أو المضمرة.
والتفرد يؤذي المتفرد تماماً كما يؤذي أخوانه، وليس هو طريق النجاة في أي حال.
… إلا إذا كان هم المجتمعين الآن في القاهرة هو حضور مراسم تشييع “الأخ الليبي”، ونثر دمائه على القبائل العربية بحيث تتم تبرئة القاتل الأميركي (والغربي) سلفاً،
إن ذلك، لو تم لا يعني غير التغطية على الجريمة بانتحار جماعي.. باسم التضامن العربي، وتحت راية “الجامعة العربية”.
إنها جامعة “المستفردين” الآن، المستفرد إلى جانب المستفرد، ولكنهم آحاد متجاورة وليسوا “جماعة”.
والخوف كل الخوف أن يكون القرار الأميركي الذي حول الأمم المتحدة ومعها مجلس الأمن الدولي إلى محكمة ميدانية أميركية تدني كل من عصا أو فكر في العصيان أو مارسه ذات يوم، ولو في أحلامه، قد حول جامعة الدول العربية إلى “جلاد” – أو “عشماوي”، بالمصرية الدارجة – يوكل إليها تنفيذ أحكام على العصاة من “العرب”.
إن ذلك يعني أن الجامعة قد بعثت ، بعد موات، لتكون “بيت الطاعة” الأميركي تلم الشاردين والمحاربين القدامى والثوار المتقاعدين ليعلنوا عبرها توبتهم وموتها الأكيد.

Exit mobile version