طلال سلمان

على الطريق ثقة ولا مقاومة؟!

طريف هو المشهد في “ساحة النجمة” اليوم والنواب يحتشدون لمنح الثقة لحكومة لا ترضى غالبيتهم عنها، في حين لا تثق الأكثرية الشعبية لا بقدرة الحكومة ولا المجلس ولا الحكم كله على حسم القضايا المعلقة ومجابهة الأزمات المحتدمة بأسبابها المتعددة والمعقدة والمتفجرة.
الكلمات أكبر حجماً ودلالة من المسميات،
والقبائل النيابية مثلها مثل القبائل الوزازرية تقول ما لا تعني وتؤيد من تخاصم وتعمل بعكس ما تعلن: فالثقة لا تعني أكثر من التسليم بالأمر الواقع لاستحالة تغييره.
وهذه كتلك تعرف أن الأمر شكلي بأصله وبتفاصيله: فلا ثقتها هي علة الوجود ولا بيان الحكومة هو نهجها الفعلي أو هو مبرر منح الثقة أو حجبها.
المهم استيفاء الشكل: هذه حكومة جديدة وهذا بيانها، وهذا مجلس نواب وهذه ثقته، والحمد لله أن أتم علينا نعمته!
على أن البيان يستحق وقفة سياسية مطولة فهو “جديد” الحكومة “القديمة” بأغلبية أعضائها.
والسؤال المشروع: هل تبدل هؤلاء فبدلوا شعاراتهم المعلنة ومواقفهم المدوية، أم تبدلت “المعطيات” فأسقطوا ما كان يجب أن يثبت طلباً للسلامة؟!
القراءة الأولى للبيان توحي وكأنه كتب تحت القصف، مستهدفاً وقف القصف يأي ثمن، وعلى هذا فقد تم تغييب الموقف السياسي الذي هو في أساس وجود هذه الحكومة.
كأنما سقط “الموقف” في الفترة الفاصلة بين الحكومتين، فاندثرت “المقاومة” التي طالما تهدجت أصوات المسؤولين وهي تشيد بدورها وتكرر فعل الإيمان بها وبحتمية استمرارها وبوجوب دعمها شرعاً طالما استمر الاحتلال الإسرائيلي.
لقد أخذ على حكومة عمر كرامي، وأحصي على وزرائها العديد من الارتكابات والمخالفات والتجاوزات التي يحاسب عليها القانون،
لكن ورقة التين التي ظلت تغطي عورتها، حتى يومها الأخير، تمثلت بموقفها السياسي الواضح والمحدد من الاحتلال الإسرائيلي، وبالتالي من المفاوضات المباشرة (والمتعددة) وصولاً إلى القرار 425 كأساس وحيد لأي تناول للجانب اللبناني من الصراع العربي – الإسرائيلي.
أما هذه الحكومة التي لا تستطيع الكثير في المجالات التي عجزت فيها حكومة كرامي، وبالتحديد في التصدي للأزمة الاقتصادية الخانقة، فقد “باعت” المقاومة سلفاً، فأسقطت أي ذكر لها من بيانها، بينما طيران العدو الحربي يمخر أجواء لبنان فيجبر الواقفين على خفض رؤوسهم حتى لا تربك حركته الحرة في السماء المفتوحة!
وإنه لأمر لافت أن يسقط ذكر المقاومة من حكومة يرئسها رشيد الصلح وتضم بين جنباتها ممثلين لقوى ما كانت لتكون موجودة وفاعلة في الحياة السياسية لولا رصيد استمدته ذات يوم من قولها بالمقاومة.
حكومة فيها ممثلان لحركة “أمل” واثنان للحزب التقدمي الاشتراكي والتراث الجنبلاطي وواحد للحزب السوري القومي الاجتماعي وواحد لحزب البعث العربي الاشتراكي، إضافة إلى “الحلفاء” الطبيعيين على قاعدة هذا الموقف السياسي الثابت وبينهم العديد من “الفعاليات” والوزراء “التقليديين”.
حتى الصائغ الأساسي للبيان الوزاري، نصري المعلوف، هو من جيل الرواد الذين نشأوا وأنشأوا أجيالاً على الإيمان بالأرض ومقاومة المحتل والمهيمن الأجنبي،
وإذا ما غلبنا حسن النية وافترضنا أن المقاطع الخاصة بالجنوب قد كتبت بحذر، نتيجة لنصيحة “الراعي” الأميركي، وتحاشياً لابتزاز العدو الإسرائيلي المستفز و”الذي لا تمكن السيطرة على حركته بينما قياداته تخوض صراعاً مصيرياً عبر انتخابات الكنيست”، فإن الحذر قد زاد عن حده فأسقط موقفاً مبدئياً لا يجوز أن يغيب عن بيان أية حكومة لأي بلاد بعض أرضها محتل.
وفي أي حال فإن مناقشة البيان في المجلس اليوم قد تكون فرصة لتعديل النص بما يتدارك المسقط عمداً وينقذ بعض سمعة الحكومة والأهم: سمعة الشعب اللبناني الذي دفع ويدفع من دم أبنائه وأرزاقهم من أجل تحرير أرضه وإرادته.
لعل القبائل النيابية تنتبه في غمرة حسابات الربح والخسارة التي أصابتها من خلال التشكيلة الحكومية إلى ما هو أخطر من الحصص والحقائب.
للمناسبة، لقد تتميز هذه الجلسة بطرائف منها أن يخرج نواب على كتلهم الوهمية أو الباقية بحكم الاستمرار، فيحجبون الثقة عن “رفاقهم” الذين يفترض إنهم أدخلوا جنة الحكومة لتمثيلهم.
ثم إن في الحكومة “معارضين” للحكومة ربما بأكثر مما في المجلس،
الكلمات، مرة أخرى، أكبر حجماً ودلالة من المسميات: فليس شرطاً أن يكون الوزير “واثقاً” بالحكومة التي هو بعضها، ولعل أغلب الوزراء لا يستشعرون الحاجة إلى ثقة النواب الذين يحسدونهم على حقائبهم وعلى أن حجر الروليت توقف – لأمر ما – عند أسمائهم بالذات.
إنها حكومة انتقالية.
بمعنى إنها قوة فصل بين الرؤساء، أكثر مما هي محققة للفصل بين السلطات.
وبمعنى إنها تمهد للتحولات الآتية باسم الطائف وبرعاية حماة الطائف للخروج من الطائف… أو بصيغة أدق: للخروج من دمشق بذريعة العودة إلى الطائف، شخصياً بكل ما تعنيه وترمز إليه سياسياً.
ولعل إسقاط ذكر المقاومة هو بين عناوين تلك التحولات المرتقبة والتي تضرب لها المواعيد بعد أيلول، بوصفه موعد إعادة الانتشار السوري في لبنان.
هل هذه مبالغة في تفسير هفوة في الصياغة؟!
… وماذا عن الذين لم ينسوا ولم يهملوا ذكر حق المغتربين في المشاركة في الانتخابات النيابية… خصوصاً وبينهم من كان الأعلى صوتاً في الحديث عن الحق الشرعي للبنانيين في مقاومة المحتل الإسرائيلي؟!
حكومة ما بعد 6 أيار وما قبل 17 ايار، ولو بساعات، ما كان يجب أن ترتكب مثل هذا الخطأ،
وما زال الوقت متسعاً لطمس ذكر 17 أيار واتفاق الإذعان اليوم في 28 أيار، وفي المجلس الذي أقره ثم ألغاه من غير أن ترمش جفونه…
ونرجو، لمرة، أن يتدخل المجلس لتصحيح ما يراه خطأ في السلطة التنفيذية، بدلاً من أن تكون العلاقة بينهما عدائية بسبب التناتش على سلطة واحدة لا غير هي سلطة الاتفاق.

Exit mobile version