البحيرة هادئة بعد… لكن الضباب أخذ بالتكاثف، ومع تزايد برودة الهواء فقد بات المطر متوقعاً. اختفت الضفة الأخرى تماماً، واختفى الجبل المعمم، والضباب تداخل مع الغيم فغيّب وجه الشمس، وفي صالات الفندق والمقهى وجوه جديدة، تحمل سمات البلاد التي نحن فيها. لقد عادت أوروبا إلى “بوريفاج بالاس”، وها هو “الشرق” يستعد للجلاء عائداً من حيث أتى تسبقه الأزمة التي جاء هذا الحشد من الرجال سمر الوجوه لحلها. والتعليقات مقتضبة والابتسامات في إجازة، فقد ذهب “المؤتمر” وبقي “الأمر”، وصحيح إن الخطوط قد انفتحت بين الأطراف لكن الخاتمة الفعلية للحوار لا بد أن تكون في بيروت، ودائماً عبر دمشق والرياض التي فيها، وليس في “رياض” القوى الأخرى.
ولقد افرنقع المؤتمرون وكل له موعد في دمشق أو وعد بموعد أو هو يضغط لكي تلغى أو تخفف شروطها لاستقباله. وبالطبع ثمة من يعمل لمنع الآخر من الوصول إلى دمشق، وثمة من يحاول استمالة دمشق وإقناعها بعدم استقبال غيره… وأبواب دمشق متعددة ، وفيها من هو مؤهل لاستقبال أي وافد، ولفهم مختلف اللغات والتقاط الرسائل وعلى أي موجة.
وبالقطع فإن دمشق غير راضية عن النتائج التي انتهى إليها دور الانعقاد الثاني لمؤتمر الحوار الوطني في لوزان… فهي كانت تريد وتتوقع نتائج أفضل، وكان مستحيلاً حتى على “الخبير المحلف” عبد الحليم خدام أن يتصور إنه سيسمع ما سمع، وإنه سيجبه بهذا القدر من التعنت والتزمت والتعصب والاستماتة في الدفاع عن المؤسسة الطائفية.
لم يكن المجال فسيحاً للعمل الجاد المستهدف رسم صورة مشرقة للبنان الجديد، كان المنطلق الطائفي الهائج المهيج، المستفز والمستفز، المستنفر والمستنفر قادراً على ابتلاع الكفاءة والاخلاص وصدق المسعى وتهاوت المناورات والتكتكات البارعة أمام العقلية “المسكرة” لذلك النفر من عجائز العمل السياسي في لبنان، وفيهم الداهية والمحدود والموتور، وكلهم منتفع بنعمة الطائفية فهي مصدر زعامته ورزقه الوفير وقدرته على التحكم بأجيال المستقبل.
وبرغم الاستحالة، فقد أمكن تسجيل”نصر” بائس ووحيد: هو إنهاء المؤتمر من دون إقرار ما كان “آباء الأزمة” يريدون تمريره وفرضه قيداً على إرادة التغيير، واستنفدت فرصة أخيرة أو فترة تنفس تساعد من يعنيهم الأمر على ترتيب خطة أو خدعة تكفل رفع السقف الواطئ الذي يكاد يطبق على صدور “الأبناء” وسائر الضحلاايا!
وإذا كانت المرارة هي الشعور الغالب الذي يعود به عبد الحليم خدام بعد تسعة أيام من “العذاب” فإنه يكاد يهنئ نفسه على إنه خرج سليماً من تلك الحماة الطائفية المنتنة، وعلى إنه صمد حتى النهاية وأفشل مقاصدهم… فلقد تمنوا، حتماً أن يكون هو أول من يصرخ في لعبة عض الأصابع، وعملوا كل ما يمكن عمله ليحرجوه فيخرجوه، فتحمل وهو الشهير بسلاطة لسانه، ولم يغادر دور الوسيط وصاحب المسعى الحميد والراغب في التوفيق، خصوصاً وإنه صاحب الحفل والعيد… ولا بأس أن يكون ما يلقاه بعض أشجال الانتقام من فشلهم في حماية اتفاق 17 أيار مع العدو الإسرائيلي!
وفي الأيام الأولى كان عبد الحليم خدام يأمل بأن يخرج المؤتمر بنتائج معقولة ومقبولة، ومن هنا كان جهده مركزاً على إقناع نبيه بري ووليد جنبلاط (وهما الحليفان الأساسيان) بضرورة الاعتدال وطي المطالب بحدها الأقصى وبالاكتفاء بما يمكن أخذه بموافقة الطرف الآخر ورضاه، حتى لا تضيع الفرصة في إعادة بناء لبنان وتجديد الوحدة بين أبنائه.
ومؤكد إن “السيد النائب” كان يتمنى لو استطاع إقامة رأس جسر بين حلفائه مجتمعين (سليمان فرنجية، رشيد كرامي، وليد جنبلاط، نبيه بري)، ومعهم عادل عسيران وصائب سلام وبين الرئيس أمين الجميل، ومحاصرة “الجبهة اللبنانية” لإجقبارها على تقديم تنازلات محدودة، خصوصاً وإن بين الحلفاء من يستطيع أن يتولى محاصرة “المتطرفين” في معسكره ، لكن العجوزين المتحالفين على كل ما بينهما من أسباب للكراهية والعداء، استطاعا إفشال هذه المحاولة، برغم ليونة بري واعتصام جنبلاط بالصمت تدليلاً على حسن النية.
وعلى عكس المرجو، فقد استنفر شمعون والجميل الأب، بمنطقهما الطائفي المقيت، طائفية الآخرين جميعاً، ثم تركا لسليمان فرنجية المستفز أن يقوم هو بدور حامي الحمى… وطالما إنه أنكر عليهما حق احتكار التحدث باسم المسيحيين فليتولى هو هذه المهمة بغير شريك!!! وكان طبيعياً أن يحصل شيء مماثل على الجبهة الأخرى فيصير الفرز كاملاً: الموارنة كلهم في جهة، والمسلمون بمختلف طوائفهم في الجهة الأخرى، وأمين الجميل ضائع لا يجد موقعاً لنقطة توازن في ميدان المواجهة بين الفريقين.
وفي ظل هذا التطور الدراماتيكي تعطل دور عبد الحليم خدام السياسي، وتحول إلى مجرد إطفائي يحاول منع تعاظم الحريق، إذ اختفت الطبيعية السياسية للصراع وأفسحت اللغة السياسية المجال لذلك النمط من الكلام والطائفي الممجوج الذي يلغي العقل ووقائع الحياة ويصادر فرصة الحوار الجاد، ويئد احتمالات الوصول إلى نتائج، أي نتائج، غير تلك التي تكرس الطائفية.
وأين يمكن أن يقف رجل مثل عبد الحليم خدام أمضى زهرة شبابه في حزب يقول بالوحدة والحرية والاشتراكية وينادي بأمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، حين يحتدم الجدل بين “مسلمين” يطالبون “الموارنة” بأن يتنازلوا لهم عن بعض مواقع السلطة رفعاً للغبن، فيرد هؤلاء بأن خوفهم سيتفاقم لو انتزع منهم أي موقع، ولو في مصلحة الطيران المدني، فيضطرون إلى الاستنجاد بإسرائيل وقد يتحالفون معها!
ومتى ذكرت إسرائيل والاستنجاد بها صار على عبد الحليم خدام، وأي عربي حتى السعودي، أن يتدخل لمنع مثل هذا الاحتمال، أو للجم التوجه، حتى لو كان يعرف باليقين إن في الأمر ابتزازاً رخيصاً واستغفالاً مكشوفاً.. فالعدو الإسرائيلي يثقل بوطأته على لبنان والمنطقة، وجيش الاحتلال يطبق على الجنوب وبعض البقاع وبعض الجبل، ومخابراته تنخر البلاد كلها، وضباط هذا الجيش ورجال الموساد “ضيوف كرام” تفتح لهم أبواب البيوت والبيوتات والدور والقصور على مصاريعها، فيسهرون ويسكرون ويسمرون بل وربما تصرفوا كأنهم في بيوتهم وأعز!
ومع إن شعور الموفد السعودي بالحرج كان أقل، نسبياً، خصوصاً وإنه كان مرتاحاً إلى صفة “المراقب” وموقعه، فقد مرت به لحظات قاسية، لأنه سمع ما لا يقبله عقل، وما لا يقره منطق، وما يمس مشاعره ومعتقداته، ومع ذلك فقد ابتلع المرارة وظل على صمته الأبدي، مكتفياً بحركة رفيق الحريري الدائبة وتبشيره الروتيني بأن كل شيء على ما يرام وكله تمام والحمد لله في البدء والختام!
وبقدر ما كان الوزير السعودي راضياً بالظل، مكتفياً بالاستماع وهز الرأس والتمتمة ببعض التوصيات، واعتماد الهمس الخافت جداً وسيلة للحوار، كان “الوكيل” نشطاً متدفق الحيوية وهو يتنقل بين الأجنحة والغرف حاملاً الاقتراحات أو عائداً بالردود ومجتهداً لتذويب الجليد، ورفيق صار صاحب نكتة، ونكتته تضحك في العادة أكثر من غيرها، فصاحب الخطوة مبارك اللفظ قدمه أخضر وطائرته بيضاء وسبحته زرقاء، والبذلة سوداء والدشداشة بيضاء كمثل نيته الطيبة، ووجهه الممتلئ بالشارب الأسود الكث والشعر الأسود الكث عادي الملامح بسيطها تماماً كفهمه للشأن السياسي اللبناني بكل تعقيداته وتشابكاته التي دوخت الدنيا، على إن رفيق الحريري الودود بطبعه، غدا الآن صاحب ثروة أخرى من الصداقات والمعارف والمعلومات، فهو مقبول من الجميع، حتى من منتقدي طيبته أحياناً وحساباته الصيداوية في أحيان أخرى، ولأن الناس على دين ملوكهم فاحلريري يتجنب العقائديين والعقائديات وهو يصر دائماً على تجاوز المواقف المبدئية للوصول إلى التسوية، أي تسوية، وغالباً ما تكون مشاريع التسوية مطبات ومقالب تكشف نقص خبرته وسلامة طويته في آن…
ماذا كانت تريد السعودية؟!
من الصعب القول إن “المملكة” كانت ضد نجاح المؤتمر، ولكن من الصعب أيضاً القول إنها كانت تريده أن ينتهي بنجاح سوري كامل، ومثل هذا الموقف كان يشجع ، موضوعياً، “الجبهة اللبنانية” على التصلب في موقفها… فطالما إن إسرائيل تلقي بظلها على المؤتمر فلا تستطيع أن يتجاهلها أحد، وطالما إن السعودي يلعب دور الكابح بالنسبة للسوري، وطالما إن السوري يلعب دور الكابح لحلفائه حرصاً على توفير مخرج، وطالما إن أمين الجميل يبحث عن دور وعن اعتراف بشرعيته، إذن فلماذا التنازل وقوى الضغط جميعاً معطلة أو مشلولة؟!
ثم إن السعودية ، مثل سوريا، حسابات تتجاوز لبنان إلى سائر دول المنطقة، وهي جميعاً أوان مستطرفة، فالزيادة هنا تتأتى من النقص هناك، ومن الأفضل ألا تكبر سوريا كثيراً لأنها إذ ذاك ستصادر أو تحجم (على الأقل) أدوار آخرين على رأسهم المملكة، خصوصاً وإنها الآن، معززة بنصرها الكبير في لبنان متمثلاً بإسقاط اتفاق 17 أيار، مما يمكنها من التأثير بفعالية في أوضاع مصر والأردن (ومنظمة التحرير) على وجه الخصوص، ويعطيها الكلمة الأخيرة في الموضوع المسمى “أزمة الشرق الأوسط”، ويعطيها بالتالي منزلة متميزة جداً في خريطة الصراع الدولي على المنطقة، ومن حولها. ومع إن هذا لا يشكل حسماً من حصة السعودية إلا أنه يخل بالتوازنات الإقليمية، ويعيد السعودية إلى حجم، متواضع لم تعد ترتضيه لنفسها ولم يعد يتناسب مع الدور الذي أعطي لها على مستوى المنطقة والعالم الإسلامي بل والكرة الأرضية كلها.
هذا عن الدول فماذا عن “الأشخاص” ، ولاسيما عن “رجال الظل” ، الذين كانوا يختفون وراء سطور اقتراح مرة، في ثنايا ورقة عمل، في التمهيد للقاء سري بين متخاصمين أو بين متقاطعين، أو… في نسف لقاء مفترض، وفي إشعال فتنة صغيرة ثم الاندفاع إلى داخلها وفي اليد خرطوم المياه أو سطل من البنزين؟!
كان هناك ممثلون لجماعة “الانكلجية” و”حركة الفضوليين العرب” والتنظيم المركزي لجمعية “ركيبة المقلي”، كما كان البصاصون والكتبة والنمامون والبخاخون والذاهبون للاطئمنان إلى فشل المؤتمر لتأكيد الطلبيات الجديدة من السلاح والذخيرة والزجاج والخشب والمواد الطبية، كما كان هناك خبراء المضاربة بالدولار عن طريق نشر الأخبار المطمئنة لإنزال سعره فإذا ما اشتروه رخيصاً نشروا الأخبار المكربة ليبيعوه متى ارتفع.
إلى جانب هؤلاء كان هناك من يعمل جاداً لتأسيس علاقة نوعية مختلفة بين بعض المتخاصمين أو قل بين أولئك “الذين لا يعرفون بعضهم البعض، ولو تعارفوا وجلسوا يتناقشون بهدوء لتبدلت أمور أساسية في البلاد”.
بين هؤلاء جوني عبدو، مدير المخابرات في الجيش سابقاً والسفير في سويسرا حالياً، والمؤهل والمدخر نفسه لدور ما لاحقاً، ولهذا العسكري المسيس أكثر مما يجب، في نظر منتقديه، و”المدعي” في نظر خصومه، اجتهادات متميزة بشجاعة الطرح أحياناً، وشجاعة المبادرة في أحيان أخرى والاطمئنان دائماً إلى أنه يعرف ما يكفي، من الناس وعن الناس.. والبعض يقول: بل هو يعرف أكثر مما يجب، ولهذا فأبعاده “ضرورة أمنية” خصوصاً في عهد التقلبات السياسية بين “صرعة” وأخرى.
وجوني شخصية ملتبسة، فهو المتحدر من المدرسة الشهابية مقبول كل القبول من “القوات اللبنانية” وصديق حميم لوليد جنبلاط، ومؤتمن الياس سركيس، وخدين زاهي البستاني، وكريم بقرادوني… وهو حذر مع السوريين “فهم لا يحبونني أبداً ويتهمونني في أمور هي أخطر من أن أستطيع القيام بها”، ولا يكن الكثير من الود للفلسطينيين، واسمه يثير حفيظة سليمان فرنجية، وثمة أزمة ثقة بينه وبين رجال العهد القائم، في القصر أو في قيادة الجيش، ولكنه صاحب كلمة مسموعة عند بيار الجميل وكميل شمعون، أما علاقته بالأحزاب وقياداتها لاسيما تلك التي كانت منضوية في إطار الحركة الوطنية فمتشعبة وغنية “وعميقة” إلى حد إنه يعرف جميع نكت محسن إبراهيم.
وتحس إنه جوني له كثير من الاعتراضات على السياسة المعتمدة “إذا افترضنا إن هناك سياسة”، ولكنه يرفض الكلام “فأنا موظف وممنوع من الحكي”… ومع إنه محترف سماع وقراءة، بحكم موقعه السابق، إلا إنه لا يستطيع الالتزاز بالانضباط المسلكي في مجال الحكي وإبداء الآراء وإن أبقاك حائراً لا تعرف أهذا هو رأيه أم هو الفخ المنصوب لك لتقول رأيك أم إنه مجرد استكشاف لطبيعة ردود الفعل على اقتراح يفكر فيه؟!
*إلى جانب جوني عبدو تستوقفك شخصية ميشال سماحة الملتبسة بدورها. فهو “معارض” في القصر، وهو “تقدمي” في الكتائب، وهو “عربي” في “القوات اللبنانية” التي لا يجادل في علاقتها بإسرائيل وإن كان يلح ويعمل لفتح باب الحوار بينها وبين دمشق… بل هو لم يعد إلى المسرح أصلاً إلا من خلال الباب الذي انفتح مؤخراً بين أمين الجميل ودمشق “فأنا قبلت بالدور بعدما تأكدت من أن أصحاب الخيار الإسرائيلي قد تخلوا عنه (ولا يهم أن يكون هو المبادر إلى التخلي)، وإنهم عادوا قانعين إلى الخيار العربي”.
ومما يوسع الهامش أمام ميشال سماحة إن له صداقات في دمشق، حرص على استبقائها طيبة برغم كل ما كان، كذلك فثمة علاقة وطيدة بينه وبين رفيق الحريري وله خط مفتوح، من حيث المبدأ مع وليد جنبلاط، ومع كل أولئك الذين يقفون في المسافة الفاصلة بين جان عبيد وجوني عبدو (وجان عبيد للمناسبة كان حاضراً في لوزان برغم غيابه، بل ربما بسبب غيابه… والبعض يقول إن غيابه هناك دليل جديد على ذكائه تماماً كما كان حضوره في دمشق عشية التسليم بإلغاء اتفاق 17 أيار).
*من رجال المقاعد الخلفية يلفتك الثنائي المتكامل مروان حماده وخالد جنبلاط، فبقدر مرونة الأول وليونته ودماثته التي تجعله مقبولاً في كل مكان وتجعله قابلاً بالذهاب إلى أي مكان، فإن الثاني متمسك بتجسيد الوجه الآخر لبني معروف بكل التراث التاريخي المشهور لاسيما في منتصف القرن الماضي. ووليد بك يحتاج الرجلين ويفيد منهما بالعصا لمن عصا وحين لا بد من تغليفها فالمخمل جاهز.
* وهناك الرباعي محسن دلول، عبد الله الأمين، توفيق سلطان ورياض رعد. فالأول حكيم مثل بيدبا الفيلسوف والثاني “عضو يسار” قومي النشأة والنزعة سوري الهوى والقناعة ولكنه وطني أولاً وأخيراً، والثالث “عضو يمين” خبير بشؤون عرب الغرب والنفط وسياسة أعالي البحار “وذواقة” وإن كانت له “الاطة” العثملي.. أما الرابع فمنفذ جيد ومتابع دؤوب للشؤون التي يكلف بها، هذا إذا لم يأخذه النسيان إلى أودية أخرى.
* وهناك خلف الرئيس صائب سلام منظر لا ينقصه الظرف، هو الدكتور جميل كبي، ومنظم لا ينقصه هوس التنظير هو زميلنا محمد المشنوق. ونائب يبروت انضباطي إلى أقصى حد، ويلتزم برئيس كتلته وآرائه حتى حين لا تعجبه هذه الآراء، فالنقاش يكون داخلياً وليس على صنوبر بيروت… وفي أي حال فإن “هيئة مكتب الرئيس سلام” والتي تضم فيصل سلام، سليم دياب وسامي الشعار ومحمد أمين الداعوق وسامي نحاس تتميز كلها بالانضباطية ويتبارى أفرادها في من يحوز المرتبة الأولى في سباق الشراح، شراح السياسة، وشراح الشعارات التي تميز بها دائماً “أبو تمام”.
* وخلف الرئيس شمعون “شيخ الشباب” ميشال ساسين ومارون حلو العضو الوحيد في حزب غير موجود، إضافة إلى نجله داني الذي كان في كل مكان إلا في القاعة. على إن حضور الرئيس الأسبق يطغى على وجود من معه، فيتحولون إلى مجرد معاونين ومنظمي مواعيد، أما “الموقف” فلا أحد يعرفه غيره، وإن كان الكل مستعداً للدفاع عنه والترويج له متى عرفه.
* خلف الرئيس فرنجية صهره الدكتور عبد الله الراسي ومعاونه القديم راكز خازن، على إن كلمة السر مع الست صونيا، خصوصاً وإن نجله روبير لا يبدي كثير اهتمام بالسياسة، فإذا أضفت إلى هؤلاء حميد خوري والعميد أنطوان بركات تكاملت صورة وفد ليس بينه وبين الدولة ومؤسساتها إلا كل رباط وثيق، وبغض النظر عن رأسها فكيف إذا كان الرأس متجاوباً ومتعاوناً وظاهر الود وذكياً في اكتشاف “الأسلوب الأنيس في مخاطبة الرئيس”؟!
* على مسافة من هؤلاء جميعاً يقف الدكتور الياس سابا، وهو من الوفد وليس فيه، ومع حرصه على علاقته بالرئيس فرنجية فإن له آراءه المتميزة قطعاً بحكم ثقافته واطلاعه الواسع وفهمه لشؤون السياسة والاقتصاد وعالم المصارف.
والدكتور سابا بارع في صك الشعارات المناسبة للمراحل المختلفة، بقدر ما هو بارع في شرح أعقد المسائل الاقتصادية والاجتماعية وتقريبها إلى فهم العامة بدليل إنه أقنع الرئيس فرنجية مستخدماً تلك الأمثال “التي قالها جدك” في العديد من الحالات، من دون أن يستثير غضبه ويجعله يخبط على الطاولة كما حصل في الجلسة قبل الأخيرة للمؤتمر حين رفض رفضاً قاطعاً مانعاً أن يقبل بتعبير “التخطيط العلمي” في مجال الحديث عن اعتماد سياسة “اقتصاد حر ومرن”: كيف تريدوننا أن نوافق على التخطيط وأنتم تسمونه الاقتصاد الحر، وتريدونه تخطيطاً علمياً أيضاً، هذا يجاوز المعقول!
وابن كفرحاتا – الكورة، التابعة لأيالة آل فرنجية، يرى ضرورة استمرار العمل لإسقاط “الاتفاقيين” بعدما تم إسقاط اتفاق 17 أيار ولقد سعى بكل جهده وهو الأرثوذكسي، إلى تدعيم العلاقة بين فرنجية الماروني وكرامي السني ونبيه بري الشيعي وجنبلاط الدرزي، ولكن جهده طاش حين انفتح باب المزايدة المارونية على مصراعيه، فانطوى ملتجئاً إلى ثقافته الأخرى، ليحاول الفهم عبر “ما قال جدك”!
*خلف الرئيس عادل عسيران نجله علي والكاتب بالعدل عادل قانصوه… ولأن علي مبدئي ولا يحب الانغماس في العمل السياسي لأنه لا يقر أساليبه، فإنه كان يفضل هناك، كما يفضل هنا في لبنان، أن يذهب إلى حيث يجد بعض الماعز، أو البقر إذا تعذر وجود الماعز، فيمضي وقتاً غير قليل في تأمل هذه المخلوقات التي اكتشف فيها مجموعة من الخصائص غير المعروفة… حتى لقد تكونت لديه فلسفة “ماعزية” متكاملة، ولكنه لم يعرضها لأنه يراها أكثر جدية من أن يناقشها السادة المؤتمرون . أما عادل قانصوه فتصرف كما ينبغي: هي لعبة مسلية فاحفظ مقعداً يتيح لك أن ترى وتسمع، ولكن إياك إياك أن تضع خاتمك وتوقيعك على النتائج، وإلا ضاع يمينك واتهمت بالتزوير، فما أقل الصح والصحيح في كرنفال الطوائف هذا الذي زاد من شهرة سويسرا السياحية حتى طلبت إعادة عرضه مرة ثانية خلال أربعة شهور، وربما تستعيده مرة ثالثة قبل نهاية العام.
*خلف الرئيس كرامي “العمران” شقيقه عمر الآتي لفرجة لم تمتعه ولم تسره بل لعلها ملأته غيظاً وكرباً، والدكتور عمر مسيكه، المعاون المقرب على امتداد ربع قرن أو يزيد. وبقدر ما كان عمر الأول فاقد الحماس مهزوز الثقة بأن ينتج عن كل تلك القعقعة شيء من الطحين، فإن عمر الثاني استمر منظماً دقيقاً محدداً، فالأمر بالنسبة إليه هو التنظيم أما النتائج فمسؤوليتها على غيره… و”التنظيم” يترك بصماته حتى على آراء مسيكه السياسية فالإدارة الكفؤة تخلق دولة عصرية وفي مثل هذه الدولة المنضبطة والمضبوط توازنها يمكن خلق المواطن، فإذا ما خلق المواطن أمكن قيام الوطن.
* أما خلف نبيه بري، فالثنائي الدكتور محمد بيضون وهيثم جمعه، وكلاهما نموذج صادق للشباب الطامح إلى التغيير والذي تطغى مثالياته وعواطفه على تحليله، فالدنيا عنده “يا أبيض، يا أسود” ولا ألوان أخرى، والإيمان هو الأصل… ولعلهما الآن قد باتا أكثر فهماً لحقيقة إن الاستعداد للاستشهاد لا يكفي وحده لصنع التاريخ، وإلا تحولت كل أحلامهم وأحلامنا إلى “ملصق” على جدران قصر يقيم فيه أصحاب الفكر المضاد.
وتبقى مجموعة ملاحظات سياسية ثم تفرغ من هذا الحديث الذي طال:
أولها – إن المؤتمرين جميعاً ولله الحمد متشابهون في الكثير من الصفات والممارسات، فالكل فردي، هو الأول والآخر والوفد مجموعة من المعاونين أقرب إلى جهاز السكرتاريا منهم إلى المستشارين بالمعنى العصري للكلمة. وقلة قليلة بين الأقطاب من يؤمن بالمؤسسات، حتى المؤسسة التي يقود أو يمثل أو حتى تلك التي يعود إليه “الفضل” في إنشائها.
ثاني الملاحظات – إن هؤلاء الساسة المعروف تاريخهم لا يمكن أن يعطوا ما ليس عندهم وما لا يقرونه أصلاً، فكيف تريدونهم أن يحرروك من الطائفية وهم إنما رموزها وحماتها والمنتفعون بها؟! وبغض النظر عن النوايا ومدى طيبتها فهم نتاج المؤسسة الطائفية، وهم مخلصون لها قطعاً وحريصون على استمرارها لإعادة إنتاج من يماثلهم مع أفضلية مطلقة للأبناء، فإن تعذر فللأشقاء والأقارب والافللمقربين!
ثالث الملاحظات – إن هؤلاء الأقطاب ومعظمهم “رجال دولة” تولوا الحكم منذ نعومة أظفارهم وحتى اليوم، لا يمكن أن يبنوا دولة عصرية كالتي يحلم بها جيل الشباب المهووس بالتغيير، لكأنك تطالبهم بأن يحفروا القبر لجيلهم ومن يمثل ولخلفهم الصالح من بعدهم، ثم بأن ينزلوا إليه راضين، ويهيلوا التراب على أنفسهم بأيديهم!
البعض يشتط فيفترض إنهم سينسفون الدولة التي أنشأوها وأنشأتهم، والمؤسسة التي أعطتهم حق الزعامة وحصرت بهم تمثيل اللبنانيين بملايينهم الثلاثة، وبمشاربهم وانتماءاتهم المختلفة حتى وإن شارك بعضهم البعض الآخر في الطموحات المستحيلة ولو بعناوينها العريضة…
والبعض الأكثر وعياً لحقائق السياسة يعرف أن هؤلاء يمثلون ما يتعدى النظام اللبناني القوي والثابت بعد برغم عشر سنوات من الحروب الأهلية، إنهم يمثلون عموم الأنظمة العربية التي يحلو للبعض أن يعتبرها “نظاماً واحداً” وإن اختلفت الأعلام والشعارات، وهم يمثلون “تسوية” عربية دولية تمت قبل عشرات السنين ولم يطرأ بعد ما يستوجب نقضها من الأساس.
فقليلاً من التواضع في التوقع… حماية للأحلام الجميلة (وللنفس) من الانكسار إذا ما مددت اليد للإمساك بها وكأنها حقائق صلبة!
رابع الملاحظات – إن الكل مسلم بضرورة إعادة صياغة العلاقات بين الطوائف، خصوصاً في ضوء ما استجد من أن جيلاً جديداً يبحث لنفس عن دور وموطن قدم، وهو يريد أن ينتزع اعتراف الآباء ببنوته ليكمل الناموس لا لينقضه!! أي إن المطلوب هو اعتماد “الممثلين الجدد” للنهج القديم إياه، وليس بأي حال تدمير الهيكل وطرد من فيه أو إلقاؤهم في جهنم وبئس المصير.
إن “أمل” تريد انتزاع الاعتراف بمشروعيتها، وبأنها “قطب” آخر، وكذلك “القوات اللبنانية”… وكلاهما ابن شرعي للنظام الطائفي ، مهما غالى أنصارهما في الاعتراض على هذا النظام العقيم!
ولذا كانت أبرز النتائج “العملية” لمؤتمر لوزان هو التعبير العلني عن الرغبة في الحوار بين “الشباب” من الأقطاب: أي بين “أمل” والحزب التقدمي الاشتراكي – نسخة وليد جنبلاط وما بعد حرب الجبل – و “القوات اللبنانية”.
واحد مصادر الحيرة المتفاقمة التي تشكل حركة الرئيس أمين الجميل إنه لا يعرف تماماً كيف يكون واسطة العقد ومركز الحوار، بدلاً من أن يكون هدفه، خصوصاً وإنه دخل منذ تسلمه الرئاسة وحتى اليوم معارك بالسلاح ضد طرفين من هذه الأطراف الثلاثة في حين إن معركته مع الطرف الثالث قد تكون الأقسى وإن تعذر حسمها بالسلاح.
والبحيرة هادئة بعد… تنتظر الثورة.
والثورة أجمل من أن تكون حقيقة في لبنان، لاسيما لبنان الممزق والمفتت والملغم والمفخخ بالطائفية إضافة إلى ابتلائه بالاحتلال الإسرائيلي.
وعلى هذا فلا بد من الحفاظ على الحلم سليماً بغير أن يخسر أو ينسى المؤمنون بالثورة مواطئ أقدامهم على الأرض.
وأجمل الأحلام وأبهاها وأرقها وأنداها تلك المغلفة بالاستحالة، فإذا ما اقتحمتها كانت الأسرع إلى الانهيار والاندثار، ولا يبقى إلا الواقع السقيم الذي يقتلك في لبنان ويطاردك في لوزان فيكاد يحرمك نعمة الانتباه إلى الجمال ولو كان سويسرياً في برودته ودقة الصنعة فيه، وكل مؤتمر وأنتم والحوار بخير!