طلال سلمان

على الطريق ثرثرة فوق بحيرة ليمان (7) المنتصرون في البلد المهزوم

البحيرة هادئة بعد.. وصفحتها الراكدة لم تضطرب بفعل البلبلة التي تجتاح الفندق الفخم بكل أجنحة وغرفه وردهاته وقاعاته ولاسيما تلك التي كان يفترض أن تشهد الولادة التاريخية للحدث الجلل: لبنان الجديد، ثم تعذرت الولادة حتى بالطريقة القيصرية وقال بعضهم إن الحمل نفسه كان وهمياً.
والبط يتطلع حوله ببلادة، ثم يستفزه صوت القاق فيرد على الصوت المنكر بقصف معاكس قبل أن يعود ليغرق في متعة الكسل ونعمة الاستحمام باللذتين… أشعة الشمس الدافئة ومياه البحيرة الباردة.
والصحافيون أو من تبقى منهم فقدوا الحماسة للمتابعة والسعي وراء السبق، فالفشل لا يحتاج كبير جهد لتبريره وكشف النقاب عن أسبابه وعوامله وأسراره الملغزة، خصوصاً وإن مذاقه المر مطعم الآن بنكهة الدم الذي سيراق أيضاً وايضاً في البلد الحبيب.
أما المؤتمرون فقد تنفسوا الصعداء: لقد أكرمهم القدر فوفر عليهم عناء النجاح، أي نجاح، ومحاولة الاعتذار عن النقص فيه أو الضعف في مواجهة الساعين إليه لمنعهم من تحقيق غرضهم الخبيث.
ليس بينهم متعب أو مرهق أو معذب الضمير، فالكل يرى إنه حقق ما يريد فطالما إن أحداً منهم لم يسجل عليه التراجع أمام خصمه ولم يترك لأحد أن يسجل عليه نصراً ، ولو بالنقاط ، فهذا يعني إن الكل منتصر، وما هم أن يكون البلد هو المهزوم. أليس هؤلاء العضاريط الصناديد هم البلد، شعبها ودولتها، ماضيها وحاضرها، صناع مجدها وعزها، حماة سهلها والجبل، سيفها والقلم صانهم ربهم لمدى الأزمان!
*البعض يرى إنه انتصر كونه لم يتراجع عن موقفه المبدئي ومطلبه في التغيير الجذري كنبيه بري، فهو ظل يقول بإلغاء الطائفية السياسية كمدخل لإصلاح النظام وتطويره منذ لحظة وصوله وحتى إقلاع طائرة العودة… وهو الآن يستطيع أن يضيف براحة ضمير: لقد أرشدناهم إلى الحل الحقيقي للمأساة المفزعة فرفضوه. العلة في الطائفية والطائفيين.. والطائفيون يتحملون مسؤولية إفشال المؤتمر ويتحملون بالتالي مسؤولية الكوارث المقبلة، بقدر ما هم مسؤولون أصلاً عن الكوارث التي التهمت من لبنان واللبنانيين حتى اليوم، ولقد أكدوا بموقفهم المتعنت والمتشنج والمغرق في تعصبه سلامة موقفنا المبدئي، فلا علاج للطائفية إلا بإلغاء الطائفية، أما المزيد منها فيجعلنا مجموعة من الوحوش تقتتل على تقاسم الجبنة.
وفي استطاعة نبيه بري أن يضيف أيضاً، لقد خاطبناهم بالعقل وأقر الجميع باعتدالنا وبعدالة مطالبنا ولا يستطيع أي منهم أن يتهمنا لا بالتطرف ولا بالتعصب، ويجب أن يسجل لنا إننا، ونحن الطرف الأكثر غبناً بالمنطق الطائفي، كنا الطرف الأكثر صلابة بإلغاء الطائفية. لقد طالبنا بإعادة الاعتبار إلى المواطن واحترامه كإنسان فأصروا على إنكار وجود الشعب والتعامل مع الناس بوصفهم قطعان ورعايا أبرشيات، لا رأي لهم ولا دور إلا من خلال المؤسسة التي تلغيهم تماماً: الطائفية.
*وبعض آخر يرى إنه انتصر هنا لأنه حفظ النصر الذي حققه على الأرض في لبنان وجاء ممتطياً صهوته كوليد جنبلاط فبالنسبة إلى زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي لا شيء يهم طالما إن اللعبة لم تقلب عليه وإنه ومن معه لن يخسروا عبر النتائج السياسية للحرب ما تحقق لهم في الانتصارات العسكرية التي سجلوها في حروب المواقع.
وجنبلاط مثل بري يرى إن ما كتب قد كتب وإن ما على الأرض هو الأساس وهو الذي سيلقي بثقله ويفعل فعله في بحث مستقبل لبنان وهو يعرف جيداً إنه أخذ ربما أكثر مما كان يقدر وربما أكثر مما تستحق طائفته القليلة العدد نسبياً، وطالما إن الوضع لم يتطور إلى الأسوأ ولم يحاصر بمطلب التنازل عن شيء مما في يده فذلك خير…
كذلك فإن جنبلاط وبري قد تخلصا من هاجس مقلق، وهو أن يجدا نفسيهما في لحظة في مواجهة حليفهما الكبير.. سوريا، وطالما إن “غيرهما” قد تولى مسؤولية إسقاط المؤتمر من غير أن تكون مطالبهما (أو مطالب نبيه على وجه التحديد) هي السبب في الفشل، فهذا يطمئنهما من جهة إلى استمرار التحالف وثباته بل ويمنيهما بأن يزداد هذا التحالف صلابة بحكم الاضطرار ونتيجة لتعنت الآخرين.
وصحيح إن جنبلاط يزعجه أن يكون قد فقد حليفاً ذا وزن في بيئته كالرئيس سليمان فرنجية وإن “جبهة الخلاص” بالتالي قد فقدت طابعها الأصلي، وحتى وإن استمرت بالتكافل والتضامن بينه وبين الرئيس رشيد كرامي، إلا أن زعيم المختارة يحس الآن بمزيد من الحرية في الحركة ويستطيع أن يرفع رايات مطالب أكثر جذرية وأكثر استجابة لمطامحه، كان اضطر إلى طيها كثمن بديهي للتحالف مع رجل في مثل سن الرئيس فرنجية ومفاهيمه وعلاقته بالنظام باعتباره السور الحديدي للكيان اللبناني.
وأخيراً فإن قبري وجنبلاط يستطيعان الالتفات إلى دمشق قائلين: أما وقد فشل رهانكم على أقطاب المدرسة القديمة وأعمدة النظام الطائفي فتعالوا نحاول الوصول إلى شيء مع من يماثلنا في الجهة الأخرى، ودائماً برعايتكم، فهذا قد يوصلنا إلى قدر كبير مما نريده على صعيد تطوير النظام.
وهكذا لم يضيع الرجلان وقتاً فتوجها حتى من قبل أن يعلن اختتام المؤتمر بما يشبه النداء إلى الصف الأول في قيادة “القوات اللبنانية” يدعوانه فيه إلى التلاقي معهما على قاعدة الطموح لإحداث تغيير نوعي في النظام من فوق الزعماء – الآباء – وليس من وراء ظهورهم، أي عبر مواجهتهم وإسقاطهم أو تطويعهم وليس عبر استغفالهم.
*استناداً إلى المواقف المعلنة والتي استمر تأكيدها حتى آخر لحظة فإن الرئيس عادل عسيران قد استوطن الموقف المبدئي ولم يغادره، إلا حين كان يقتضي الأمر بعض التحرك في خدمته وتوفير فرص النجاح له، لقد ظل عادل عسيران أقرب إلى موقع “الرمز”، رمز الجنوب الصامد الداعي الآخرين إلى مشاركته مجد الصمود والحكيم المجرب المكتوي بنار الطائفية والداعي إلى حماية الأجيال الآتية من خطر الاكتواء، بل والاحتراق بهذه النار الجهنمية المدمرة.
ولقد استطاع أن يلعب بنجاح دور “الجسر” بين جبلين ومنطقين، فلما لم يحالفه النجاح في التوفيق بينهما بسبب التعنت والتزمت وسيادة المنطق المتعصب أعلن انحيازه إلى منطق التغيير، مغادراً الموقع الذي كان الجميع يفترضونه فيه بحكم السن، والعلاقات الممتدة بامتداد العمر مع رفاق الدرب، وإذا كان البعض قد خان جيله فحشر نفسه في زمرة أهل الكهف من آباء النظام الطائفي، المنتجين له والمنتفعين به والقائمين “سيافة” على بابه، فإن عادل عسيران قد خان جيله بالاتجاه المعاكس، إذ اندفع بكل جلال السنين وهيبة الشيب المكلل هامته فانتظم في صف المطالبين بالتطوير والتغيير وضرب الوحش الطائفي.
*بقدر ما كان دور الرئيس صائب سلام باهتاً في جنيف، كان دوره ملفتاً ومتميزاً هنا في لوزان، لقد تخلص من كثير من الحساسيات التي رافقت تسميته وحدت من حركته في دور الانعقاد الأول لمؤتمر الحوار الوطني، يومها جاء وبينه وبين السوريين قطيعة وبين وبين السعوديين رفيق الحريري وبينه وبين الكتائب إسقاطهم له في الامتحان الذي أجراه الشيخ بيار لاكتشاف “المحاور المسلم”، فهو في نظره لم يصل بعد إلى مرتبة رياض الصلح ولا أحد غيره من زعماء المسلمين ارتقى إلى مثل هذه المرتبة التي تؤهله لمحاورة زعيم تاريخي وفذ كبيار الجميل!
كذلك لم تكن علاقات سلام بالرئيس أمين الجميل على ما يرام، إذ كان بينه وبين رئيس الجمهورية مواضيع معلقة كثيرة، بعضها سياسي وبعضها الآخر يتصل بدور بيروت وصورتها المستقبلية.. وعلى سبيل المثال فقد كان من بين القضايا المعلقة موقف الدولة من كلية الطب التي أنشأتها المقاصد والتي لم تشأ الدولة أن تعترف بها والتي لا تزال حتى اليوم تعطل “مشروعيتها” مرة باللجوء إلى الجيل البيروقراطية التقليدية ومرة بالتذرع بمعارضة جهات نافذة ومرة ثالثة بالطعن في جدوى إنشائها من الأساس.
وكان بين الدولة وصائب سلام أيضاً شفيق الوزان، فهو في المرفوض من أعماله “وإنجازات” حكومته محسوب عليه، وهو في المقبول منها لأمين الجميل، حتى قال سلام جملته الشهيرة: أمين الجميل ذبحني من الوريد اليمين إلى الوريد الشمال، وشفيق الوزان ذبحني من الوريد الشمال إلى الوريد اليمين!
أما بين صائب سلام والمعارضة بشقيها، جبهة الخلاص وحركة “أمل” فقد كان ثمة أسوار من القطيعة والتوتر وصلت إلى حد تبادل الشتائم والتشهير العلني وإن بقيت هناك قنوات مفتوحة مع بعض أقطابها (الرئيس فرنجية بالتحديد).
وهكذا مضت أعمال مؤتمر جنيف وهذا السياسي المجرب ضائع ومفتقد للدور وهو صاحب الأدوار والشعارات والمواقف المدوية، وخرج منه مكتفياً بأنه انتزع مرة أخرى صفة ممثل بيروت ومن فيها.
أما في لوزان فكان الوضع أسهل بكثير: ليس بينه وبين سوريا ما يمنع الصلة والحديث وتبادل المزاح مع عبد الحليم خدام، وقبول الدعوة لزيارة دمشق بالامتنان ، وما بينه وبين السعودية مجمد طالما بقي الحريري سعودياُ ولم يعُد أو يُعد إلى بيروت ليكون منافساً لا يقاوم “سحره”، أما ما بينه وبين الكتائب فقد حسم، إذ ثبت له بالدليل الحسي إن لا مجال للقاء جدي ومثمر بين متكافئين، واستطراداً فقد انتهت الأوهام بالنسبة للرئيس الجميل ومعه الوزان، وثبت إن الدور الوحيد الباقي هو دور المعارضة والاعتراض إن لم يكن أعنف وأقسى.
ثم إن ما بينه وبين المعارضة وعلى وجه الخصوص نبيه بري، قد استقر على قدر من “التفهم والتفاهم” يكفي لتأسيس علاقة جديدة صحية في حين خفت حرارة الهجمات المتبادلة بينه وبين وليد جنبلاط وسلم كل منهما بوجود الآخر ودوره، لاسيما وإن أحداً لم ينكر على سلام إن له دوره في بيروت، بل لعل المطالبة توجهت إليه بأن يلعب هذا الدور ويتابعه إلى النهاية.
*ونصل إلى الرئيس رشيد كرامي الذي كان نجماً لامعاً في جنيف والذي أكد في لوزان صورته هناك: كنموذج لرجل الدولة المتميز بالكفاءة والخبرة والأعصاب والصخرية من غير أن يفقد روح النكتة والميل إلى الدعابة واستفزاز الآخرين بكلمات تجرح من غير أن تسيل الدماء ، كما كان يقول المرحوم سعيد فريحة.
صحيح إن نبيه ووليد قد سرقا “الكاميرا” بوصفهما النجمين القادمين بلباس الميدان وعليه غبار المعارك وتفوح منهما رائحة البارود، لكن الرجلين استمرا يقران بحاجتهما إلى رشيد كرامي ورزانته وهدوئه وقدرته على إعداد الصياغة النهائية والمقبولة للمواقف والمطالب، مهما بدت جذرية، من داخل التسليم بمنطق النظام وبغير أن يضطر إلى تهديم الكيان على من فيه.
ومن الإنصاف للرئيس كرامي أن نشهد له بأنه يبذل مجهوداً كبيراً لتطوير مفاهيمه وتقبل طروحات الآخرين، ولاسيما من هم في موقع الحليف، يستوي في ذلك نبيه بري أو وليد جنبلاط، فهو ضد العنف وضد السلاح بداية وهو بعيد عن بيروت، محاصر في طرابلس بحاجز البربارة من جهة ثم بالمستجدات في قلب عاصمة الشمال التي تجاوزت أي تصور والتي عكست وقائع وحقائق لا يمكن لعقل رشيد عبد الحميد كرامي أن يقبلها. فظاهرة الشيخ سعيد شعبان قد تكون مبررة في أمكنة أخرى ولكن ليس في طرابلس وليس في مواجهة ابن مفتي طرابلس الذي لا يقطع “فرض” صلاة ولا يمنعه مانع من صوم رمضان إلى آخره، كذلك فالأفندي لم يستطع حتى الساعة قبول مسلك ياسر عرفات ومن معه، الذي أدى إلى ما نعرف من كوارث في طرابلس والشمال، وحرمه هو شخصياً وحرم الشمال من أن يلقي بثقله في المعارك السياسية التي كانت وما تزال تجري بين بيروت والجنوب.
ولعل رشيد كرامي أكثر من فوجئ بموقف حليفه و”توأمه” على صعيد المنطقة الرئيس سليمان فرنجية، ولأنه لا يقبل التفاسير المسطحة فقد أمضى ساعات من القلق يبحث وينقب عن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء التبدل الصاعق في موقف الرجل الذي لم يعرف بالتقلب وتبديل مواقفه في آخر لحظة، ومع ميله إلى تجنب التسرع في الاتهام، فقد كان رشيد كرامي يبدأ محاولة التفسير من استقراء مواقف القوى جميعاً بدءاً من واشنطن إلى بيروت مروراً بدمشق والرياض ومن غير أن ينسى الفاتيكان وباريس وبعض قوى الضغط المحلية، وعلى رأسها الاكليروس الماروني.
وما يشغل بال كرامي هو الوضع في الشمال واحتمالات تأثره بانقلاب فرنجية على ذاته، أما ما تبقى “فقد يكون لخيرنا. لقد تأكدت وحدة الصف الوطني مرة أخرى مدعومة بعلاقة ليس بها خلل مع الأخوان في دمشق، وهذا مكسب كبير” ، ثم يضيف من خلال ابتسامة خجولة يشاركه فيها شقيقه عمر كرامي ومستشاره الدكتور عمر مسيكة “على أي حال أخذوا منا الرئيس فرنجية وعاد إلينا بالمقابل الرئيس سلام وما حدا أحسن من حدا”.
*سليمان، سليمان، ماذا فعلت بأخيك؟!
هكذا ووجه الرئيس فرنجية وجماعته عشية اختتام مؤتمر الحوار أعماله في لوزان، اختتام؟! بل النهاية الفاجعة التي يلقي كثيرون مسؤوليتها على هذا الرجل الثمانيين ذي التاريخ الحافل بالصدمات والمواقف الدراماتيكية المجلجل صدى الرصاص فيها، والمتميز بتلك العلاقة الخاصة والقديمة والحميمة مع النظام السوري وأساساً مع الرئيس حافظ الأسد وآل الأسد عموماً، ثم مع كبار معاونيه الرجل الذي لا يفتأ فرنجية يردد حين يأتي ذكره “الله يطولنا بعمره ويديمه لسوريا ولنا في لبنان”.
ماذا فعلت بأخيك؟ والسؤال ينطبق أولاً على عبد الحليم خدام نائب حافظ الأسد وممثله في المؤتمر والرجل الذي أمضى ثمانية أيام يصل الليل بالنهار في سبيل إيصال المؤتمرين المختلفين إلى اتفاق ، وحين نسأل “السيد النائب” تفسيراً لهذا الانقلاب يهرب إلى صمت المحرج وإن تبدت على وجهه صورة مجسمة للمرارة وخيبة الأمل والصدمة.
وتكثر الاجتهادات وتتعدد الآراء وفيها المتشفي وفيها المفجوع وفيها المفاجأ وفيها أيضاً الذي يرى إن لا “جديد” على الجبهة الغربية.
بين الاجتهادات… إن سليمان فرنجية لم يغدر بحليفه الكبير في سوريا ولم يخنه فهو وقف معه في كل ما يعني سوريا، فلما جاء ما يعني دور المسيحيين والموارنة اتخذ الموقف المنطقي كزعيم ماروني عريق، أي إنه وقف مع سوريا في معركىتها في لبنان ضد العدو الإسرائيلي حتى تم إسقاط اتفاق 17 أيار، وبعد ذلك تحول إلى مطالبتها بأن ترد له الجميل بحماية حقوق الموارنة وتأمينهم ضد الخوف بعد شطب مشروع التحالف مع إسرائيل، فهو سوري وعربي في مواجهة إسرائيل ولكنه ماروني حتى العظم في مواجهة أصحاب المطالب من أبناء الطوائف الأخرى.
وبين الاجتهادات أيضاً إن سليمان فرنجية يعتبر إن معركة رئاسة الجمهورية قد فتحت ولم ينجح لا مؤتمر جنيف ولا خاصة مؤتمر لوزان في إقفال بابها، وإنه يعد نفسه ليكون الأكثر جاهزية متى حانت اللحظة الحاسمة، ومن أجل إتمام الجهوز كان لا بد من استعادة الشعبية في أوساط المسيحيين والموارنة أساساً، وليس ثمة غير طريق واحد هو أن يخطف راية الدفاع عن حقوق الموارنة من أيدي العجوزين الآخرين المتمترسين في خندق “الجبهة اللبنانية” كميل شمعون وبيار الجميل، فإذا صارت بيده اكتملت عدته، إذ أن سوريا لن تتخلى عنه ولن تبيع في لحظة وبسبب موقف ، علاقة عمرها أكثر من ربع قرن، والبعض يصل بها إلى أواخر الأربعينات، وليس فقط إلى ما بعد مزيارة في العام 1957.
أما ما تبقى من اجتهادات فينطلق من جزئيات: كالدفاع عن الشرعية والرئاسة بوصفها حصنها أو التأثر باللفتات الخاصة والمناشدات التي وجهها إليه الرئيس أمين الجميل والتي وصلت إلى حد البكاء أمامه (على ذمة ما يروي الرواة) متشكياً من وحدته ومن تخلي الجميع عنه وتركه يخوض معركة المسيحيين ولبنان وحده، وهناك بين المتصلين بفرنجية من يروي إن منطق الشيخ أمين معه كان يرتكز على ما مؤداه “الأميركان خذلوني، والإسرائيليون غدروا بي، والسوريون لم يردوا علي، ومدافع الدروز والشيعة تدك قصري، والسنة لا يأبهون لحالي، والكتائب تتنصل مني، والقوات تتآمر علي، وحتى والدي محرج، بل إن بعض من عينت كمستشارين باعوني لغير جهة، أيهون عليك أن تتركني أخوض وحدي المعركة التي كلفك، الصمود فيها ما كلفك”!!
في أي حال فإن انقلاب فرنجية أحدث تحولاً نوعياً، فوجوده في جبهة الخلاص كان يضفي على المعارضة طابعاً وطنياً شاملاً وخروجه منها يجعل المعارضة طائفية، ثم إنه كان يوحي وكأن سوريا مع المعارضة وخروجه يترك فسحة للظن وكأن سوريا تخلت عنها، لولا إن سوريا هي المتضرر الأول من انقلابه ومن تبرعه هو بالذات بدور ناسف المؤتمر وغسقاطه حتى من دون أن يحقق أدنى حد أدنى ممكن.
على إن فرنجية لن يجد ترحيباً في الجبهة الأخرى، لقد فرحوا بالدور الذي لعبه، لكن المسأفة ما تزال بعيدة جداً بينه وبينهم، ولاسيما بينه وبين بيار الجميل ثم بينه وبين “القوات اللبنانية” وبين رموز الصف الأول فيها سمير جعجع بكل تاريخ الدم الذي يعنيه هذا الاسم سليمان فرنجية.
*لا بد من وقفة مطولة أمام كميل شمعون ودوره في هذا المؤتمر أو في أي مؤتمر أو في أي مكان وزمان، فهو مع وضد وضد ومع، ومع من هم ضد، وضد من هم مع، لأنه بداية وانتهاء مع كميل شمعون وليس إلا معه ومع من وما يخدم مصالحه.
ومن الصعب أن تنتزع تقييماً محدداً للمؤتمر مثلاً ولأدوار المشاركين فيه من هذا العجوز الماكر كالثعلب المتحفز دائماً للقفز من موقع إلى آخر متى حانت لحظة الانقضاض على الفريسة أي فريسة، وقنص حصته منها، فإذا ما باغته صياد طارئ أقوى منه قنع من الغنيمة بالإياب وارتد إلى مكمنه ينتظر فرصة أخرى أو عرضاً للتنازل أو جائزة ترضيه، وهذا أضعف الإيمان!
في بداية المؤتمر شكك شمعون في جدواه أصلاً ثم اطنب في مديحه وعاد فقلل من أهميته وحين تأكد فشله اعتبر الفشل نجاحاً كاملاً، وبرغم إنه تقدم بورقة عمل تقوم بالفيدرالية وتحمل إلى جانب توقيعه توقيع حليفه اللدود بيار الجميل، فإنه لم يبذل ذرة من جهد في الدفاع عنها وشارك في مناقشة كل ما قدم كضرب من التسلية والتسرية عن النفس: لم يتحمس مرة ولم يعتبر لحظة إنه هزم، ولكن جهده كله ظل منصباً على تسجيل النقاط على آل الجميل، على بيار كما على الشيخ أمين الذي يعتبره قد اغتصب الرئاسة منه… فعلى حد تعبير داني شمعون “لقد ضارب علينا آل الجميل في إسرائيل التي أخذناهم نحن إليها وزايدوا علينا حتى وصلوا إلى عقد اتفاق معها ثم سبقونا إلى دمشق حين فكرنا بالتحول إليها، فباعوها الاتفاق والعلاقة مع إسرائيل بالمجان وعطلوا دورنا هنا وهناك ولكن الزمان طويل وسيجيء يوم الحساب ولو بعد حين”.
وعلى طريقته لم يترك شمعون أحداً إلا وغمزه ومد له الشباك وإن كان الهدف الدائم لتطلعاته هو وليد جنبلاط، ولقد استجاب وليد فتلقف اليد الممدودة نحوه ليزيد من إرباك آل الجميل وإحراجاتهم ولاسيما رئيس الجمهورية، ثم إن وليد يبحث عمن يلعب وها هو يجد لاعباً كبيراً ومدرباً وذكياً بينما “الآخرون أغبياء ورخاص ومن الدرجة التاسعة”.
وهكذا فقد غازل شمعون نبيه بري وتبادل الطابة مراراً مع الرئيس رشيد كرامي وخص الرئيس سلام بأكثر من لفتة وبأكثر من قرصة أيضاً، وجدد العهد القديم مع الرئيس عسيران.
أما بالنسبة إلى عبد الحليم خدام فكان لا يفتأ يذكره بحضوره وكلما افترض إنه كان ينساه أتى بما يعيده إلى واجهة الصورة والاهتمام والإيحاء بأنه حاضر لقبول أي عرض يقدم إليه، وقد يتخذ الإيحاء بشكل المشاكسة كما قد يتخذ شكل التودد، كل ذلك من خلف نظارتين سميكتين تحجبان عنك عينيه واتجاه النظر والمقصد و”الثعلب الذي يتشقلب” فيهما.
وطالما إن أمين الجميل ومعه أبوه بيار هما الخاسر الأكبر في المؤتمر فإن كميل شمعون يعد نفسه في قائمة الرابحين خصوصاً وقد وطد العلاقة أكثر فأكثر مع وليد جنبلاط واستعاد شيئاً من الوجود في الشوف عندما اتفق معه على رجل يشكل القاسم المشترك بعدما اعترض وليد على داني، والرجل هو جورج ديب رئيس بلدية مسقط رأس “النمر العجوز”.
ثم إن شمعون ربح دعوة لزيارة دمشق، صحيح إنها الآن أقرب إلى المجاملة ومشروطة بكثير من الأمور بينها الحسم في الخيار الإسرائيلي ولكنها قائمة على أي حال ويمكن تحويلها إلى حدث وأمر واقع ونقطة تحول في المسار متى جاءت اللحظة المؤاتية.
وفي انتظار هذا أو ذاك من الأمور فإن كميل شمعون يردد لحفيده الطفل دندنة مفضلة لديه وواضحة الإيحاء “يا شب هندس شبابك الحلوة وقفت على بابك”.
*من هو بيار الجميل؟!
أهو أذكى رجل سياسة في لبنان، أم هو أنكرهم وأخبثهم فحسب؟! أهو قديس كما يراه البعض أم هو شيطان رجيم كما يراه الخصوم؟! أهو عفوي بريء يرمي كلامه جزافاً أم إنه صاحب مدرسة في علم الكلام بين أعمدتها الإصرار على الفكرة وتكرارها والاستمرار في تكرارها حتى يقبلها من كان يرفضها أو يسلم بها باعتبارها من عجائب الطبيعة، وهل هو “الكذاب الأكبر” كما يسميه ريمون اده إضافة إلى اللقب الآخر “بطرس الأكبر”، أم هو العبقري الذي نجح في تأسيس أهم حزب سياسي لبناني، وفي القفز إلى الرئاسة محققاً ما لم يحققه أحد من أبناء جيله، لاسيما من تولى الرئاسة منهم، ففي حين عجزوا هم عن العودة بأشخاصهم إلى السدة أو إيصال أي من أبنائهم إليها استطاع هو أن يوصل ولديه الواحد اثر الآخر؟!
فأما منطق بيار الجميل فمعروف ومشهور، يضع تلك الأسطوانة الشهيرة عن الصيغة الفريدة وعن دوره الخارق في تأسيس الصيغة مع المرحوم رياض الصلح (مع إسقاط أي ذكر لبشارة الخوري ولكل الكبار الذين أسهموا في تحقيق استقلال 1943) وينطلق يحدثك ولا يسمع منك عن موضوعاته الأسيرة خوف المسيحيين من الأكثرية وضرورة إعطائهم ضمانات ضد الخوف، والعبقرية اللبنانية المتجسدة في الصيغة التي لم يعرف لها الشرق أو الغرب مثيلاً… حتى لقد سماه ابنه المغفور له بشير “المداموزيل فريدة”!
وبيار الجميل نرجسي الهوى يتلذذ بامتداح نفسه وغثبات فرادته وتحس عبر كلامه إنما يعني نفسه حين يتحدث عن لبنان أو عن الصيغة أو عن المستبد العادل أو عن القائد التاريخي وحتى عن الحضارة.
وهو لا يثبت على موقف إلا بمقدار ما يخدم أهدافه الأخيرة، فمن إنكار منهجي ودائم لفكرة العروبة والإقرار بانتماء لبنان القومي يقفز فجأة إلى القول لعبد الحليم خدام “أنا أكثر عروبة منك”!
وحين تدخل في الأنساب يعترف بأن جدوده ليسوا لبنانيين وبأن ما يعرفه عن عائلته هو إن أصله من القدس وقد جاءوا إلى لبنان عبر تلك المرحلة المعروفة في مدينة “المنصورة” في مصر.
أين كان يقف بيار الجميل في هذا المؤتمر؟
كان محرجاً في أكثر الأحيان يريد أن يدافع عن ابنه الرئيس من غير أن يصادم حليفه، ولو نظرياً، كميل شمعون ومن غير أن يصطدم ولو بالغلط بذلك المتربص به سليمان فرنجية، والأهم من ذلك دون أن يخسر “القوات” أو دون أن يفتضح للملأ إنه لا يسيطر عليهم سيطرة كلية.
ولهذا كله فلقد كان دوره محدوداً ولكن كان بين الحين والآخر يكرر نشيده الأبدي عن الصيغة ويلتفت إلى جاره صائب سلام مستصرخاً شهامته “ساعدونا يا صائب بك حتى لا يذهب كل المسيحيين إلى إسرائيل، لقد نجحنا نحن في الكتائب وأنا بالذات بالمواقف التي اتخذتها في منع 50 في المائة منهم من الذهاب إليها، ولكننا نحتاج مساعدتكم الآن لكي نستعيد من تبقى فلا تحرجونا ولا ترموا في وجهنا مطالب لا نستطيع تلبيتها وتستثير حفيظة القوات وتلغي دورنا المعتدل، إذ تصورنا وكأننا المفرطون بحقوق المسيحيين وضماناتهم ضد الخوف”.
وحين كان يواجه بضرورة مساعدة ابنه وعدم إحراجه كان ينطلق في حيث لا ينتهي عن “آدمية أمين ونزاهته وصدقه.. ما في أشرف منه، ما في أخلص منه، صدقني أنا أكثر واحد بعرف أمين، بعرف قديش بحب لبنان ويريد الخير للبنانيين”. ووسط زحمة الحديث ينسى السؤال عن المساعدة وكيف تكون وعلاقتها ببقائه هو شخصياً على المسرح أو غيابه عنه.
وطالما إن مطالب الآخرين لم تلب والشيخ أمين ما يزال في سدة الرئاسة والباب مع دمشق ليس مفتوحاً بشكل كامل وإن كان الطابع الشخصي قد نقصت حدته، فإنه يقف الآن وحيداً، وعلى مسافة منه يقف أبوه وفي الجهة الأخرى سوريا وفي إحدى المحطات على الطريق سليمان فرنجية. أما في الجهة المقابلة فما تزال المطالبة بإقالته قائمة ومعززة ببطاريات المدفعية الثقيلة وقواعد الصواريخ!
وأياً كانت نظرة الناس إلى النتائج فسيظل هو المطالب الأول بدفع حساب أي فشل وأية خسارة، وللفرقاء جميعاً فأطراف المؤتمر يعودون مغضبين منه، ومن في الشرقية لن يتلقوه بالترحاب، أما في إسرائيل فإنهم يعملون لتخريب السلم السروي الذي توصل إليه وفقاً لتقديره.
يبقى أن نتحدث عن دور سوريا وعن دور السعودية.
ويبقى أن نتحدث أيضاً عن رجال الظل وهو كثر ومتعددو الجنسية والأهواء والأغراض.
ويبقى أن نتحدث أيضاً وأيضاً عن الدروس السياسية المستخلصة من المؤتمر ونتائجه الهزيلة وعما سيكون بعد لوزان في بيروت أولاً ثم في الجهات الأخرى كما في العواصم القريبة والبعيدة.
فإلى غد حيث سيكون اللقاء الأخير لثرثرة نودع بها هذه البحيرة الهادئة – برغم كل شيء – في أوشي الضاحية الجنوبية للوزان عاصمة كانتون “فو” بسويسرا الاتحادية، ثم نعود إلى الهم اللبناني المقيم والذي لا شفاء من لوعته مهما تعاظمت المحن.
فالأمل دائماً في الناس، الناس البلا أسماء طنانة ولا ألقاب فخمة والذين قدروا ويقدرون على اجتراح المعجزة وصنع المستحيل في حين فشل السادة الأقطار في إعطاء القليل القليل لأنهم ما يزالون يعتمدون تلك الصيغة البائسة:” ما لنا لنا ومالكم لنا ولكم، حصتنا حصة وحصتكم حصة، فلا تمسوا حصتنا وخذوا من بعضكم ما تشاءون على حد تعبير الرئيس فرنجية.
والأمل في أن يستطيع هؤلاء الناس الوصول إلى المؤتمر الآتي حاملين معهم الغد الأفضل وصورة لبنان الذي نحب والذي نستحق والذي يتوجب علينا أن نتركه للأبناء والأحفاد.

Exit mobile version