طلال سلمان

على الطريق ثرثرة فوق بحيرة ليمان (5) حوار مع خائن جيله!

البحيرة هادئة بعد… وليس على السطح غير زوارق الحراسة، وفي البعيد زوارق نزهة المترفين، وحسكات المستمتعين بنعمتي الشمس الآتية في غير أوانها، والهواء الثلجي البرودة. وعند الضفة المواجهة للفندق الفخم أرتال البط، وقد حسمت أمرها، فقررت المشاركة في المؤتمر الوطني للحوار. وهكذا أطلقت العنان لوأوأتها المنكرة، مجادلة ومعترضة، ومبدية التحفظ على ما تسمع!
اليوم فقط انكشحت تلفك الغلالة من الضباب الرمادي فظهرت الضفة الأخرى، وأطل علينا جبل وقور، مشتعل الرأس شيباً، وكأنما ليعلن إن لكل مدى حدوداً، وإن ثمة خاتمة ونقطة نهاية لكل شيء.
فأما المؤتمر فقد استحال إلى برج بابل حقيقي، تتداخل فيه الأصوات، وتتشابك أوراق العمل المتكاثرة، كما الفطر، ويأخذ السهو المجادلين، فيهجمون بنصوص من ورقة الخصم، ثم يتنبهون متأخرين فيحاولون الانسحاب بغير أن يقروا بالخطأ… فهم، استغفرك اللهم، آلهة أيضاً، بنظر أنفسهم، لا يأتيهم الغلط، لا من أمامهم ولا من خلفهم، لا من فوقهم ولا من تحتهم، ولا هم يحزنون!
وأما المؤتمر فقد ارتد إلى الخلف، وسقط في لجة المستنقع الطائفي كلية، بينما كانت لدى بعض المتفائلين بقية من أمل في أن يتولانا المؤتمرون برعايتهم، فلا يزيدون في البلوى التي نحن فيها، وصرت لا تسمع غير ما يعني إن المسلمين يريدون، ويحاولون، تجريد المسيحيين من حقوقهم، أو إن المسيحيين مستعدون للدفاع عن ضماناتهم بكل ما ملكت إيمانهم، وبكل ما يتاح أمامهم من تحالفات، ولو مع الشيطان الإسرائيلي!
ومع ارتفاع صيحات “يا غيرة الدين”تخفت تلك الأصوات القائلة بالتغيير، بدافع القرف واليأس أكثر مما بدافع الخوف. ويشدك صحافي أجنبي من كتفك ليقول لك بغيظ: أي أكاذيب كنتم تبيعوننا؟!
كنتم تتحدثون دائماُ عن التحضر والعلم والوعي والتنوير، فإذا أنتم مجموعات من الهمج والمتوحشين وأبناء الظلام! والله لو طبقت قوانينكم وأعرافكم اللبنانية الفريدة على أعظم دولة في العالم لفتتتها في اسبوعين، تصور الولايات المتحدة، مثلاً، أو الاتحاد السوفياتي وقد غرق في فرز مواطنيه على أساس الأعراف، والقوميات، والأديان، والمذاهب، واللغة، وحاول الموازنة بينهم وفق هذه المعطيات، ومع تجاهل كونهم جميعاً مواطنين أولاً وأخيراً فيه… إنه سيندثر داخل أتون حرب أهلية، لا تبقي في كل أرجائه نسمة حياة!
البحيرة هادئة بعد… ومعظم المواضيع الأصلية مطوية تنتظر دورها في النقاش، ولا تجد من يعنى بها، إلا القاعدون في البار ينتظرون أن يفرغ “الكبار” من كتابة التاريخ، الذي نتمنى ألا يطلع عليه أحد، حتى لا نفقد آخر ما في صدورنا من الاحترام لأنفسنا، لجيلنا، لكل مقدس في حياتنا…
جيلنا؟ أي جيل هذا؟ أي هجانة؟ أي انكفاء؟ أي ترد؟ أي سقوط؟ أي خيانة للذات؟ أي إجرام بحق الوطن والأمة؟
*كيف بحق الله عليك تستطيع، وأنت في الأربعين بالكاد، أن تتبنى مثل هذه الأراء السقيمة؟ كيف يمكنك أن تتآمر على الغد، على أبنائك، وأحفادك من بعدهم، بهذه البساطة، وأنت محتفظ بنظرة البراءة هنا؟!
-وماذا تريدني أن أفعل؟ هذا هو الواقع، وهو أقوى مني ومنك! وهذه ليست أفكاري، ولا هي آرائي، وأنا أخجل بأن تحسب علي، بل أخجل بحملها وتلاوتها، ويكاد جبيني يتفصد عرقاً وأنا أسمعها مجرد سماع!!
*ومع ذلك تطرحها بوصفها المخرج، والحل وطريق الإنقاذ؟
-يا سيدي.. شو بدك أعمل! أنا في موقع المحرك! لا أستطيع الرفض. ساتهم في إخلاصي لطائفتي، ولا أستطيع القبول، ساتهم في عفويتي.
*وأين الوطن من كل هذا؟! أين الشعب؟ أين قضيتك ؟ أين دورك أنت؟ هل تقبع أسير هؤلاء المومياءات من أهل الكهف؟!
-أكرر إنني غير مؤمن بحرف من هذا كله ولكن…
*هذه جريمة أخرى، وليست عذراً. لماذا تندفع راكضاً إلى الانتحار؟ لماذا تنحر البلاد؟ لماذا تسلم بالهزيمة؟ سلمت أمام القوى جميعاًن حتى العدو الإسرائيلي، والآن تسلم أمام الخارجين من عصور ما قبل التاريخ؟
-لا تنس إنهم اباؤنا، وإن الإهانة ترتد علينا!
*أبداً. هم الذين يحتقروننا إلى حد الالغاء، هم الذين يحجرون علينا في كهفهم مع العفن والنتانة، والعتمة، والأفكار الفاسدة لمرور المدة؟
-هل تستطيع الخروج من جلدك؟
*هؤلاء ليسوا جلدي – إنهم جلادي. ولنتذكر معاً إنهم حين كانوا في مثل أعمارنا، لم تكن لهم مواقف كالتي يحاولون أن يسجنونا فيها الآن! لقد كانوا آنذاك ينادون بالتغيير، ويعملون له ويبشرون به، باعتبارهم هم أهل التغيير، وهم أدواته، وهم المستفيدون منه. فلما صاروا هدف التغيير انقلبوا بسلاحهم ضد إرادة الحياة، ضد زخمها، ضد النسغ المتدفق في العروق، ضد الشمس ، والهواء، ونجمة الصبع المضيئة، ضد كل ما هو بهي الجمال وبشارة غد، لقد صادروا الأمس، وصادروا اليوم، صادروا حياة أجيال مضت، وصادروا حياتنا نحن، وها هم يحاولون مصادرة أجيالنا الآتية، فلنواجههم، أهم أغلى من فلذات الأكباد؟! أهم أغلى من تلك الأمنيات الغوالي التي تمشي على الأرض؟! أهم أحلى من وردة العمر الصبية بالسندس في عينيها مطعماً بالعسل؟! أهم أحلى من النسمة الربيعية التي تقاوم، حتى الآن، وترفض أن تصدق إن في الدنيا كل هذه الأهوال والمآسي والجرائم والنيران التي تحرق أفئدة الأطفال الرضع؟! أهم أغلى من سواد العين الواعد نفسه، والمعد نفسه من ذلك المتمرد، واسع العينين، والخيال المشاكس، المتقلب المزاج، المبتدع الحكايات والرسوم، والحيل التي تحمله على جناح فراشة إلى داخل القلب، ثم ترف عليه رفيف الأقحوانة في نداها؟!
-أقدر عاطفتك لكن لي أبناء أيضاًز
*إنما أتحدث عن أبناء الناس جميعاً، عن دنيا الأقحوان والنرجس والياسمين عن ينابيع العذوبة والرقة والبهجة، وأتحدث أيضاً عن حق هؤلاء في أن يكونوا هم، وليس مجرد تشوهات لحمية عف عنها عجائز البوم والغربان، ولكني سأقاتل بالسلاح لحماية غدهم، حتى مني، أنا نفسي، بكل ما صرته، مما لا أقبله ولا أقره لا في ولا في الآخر!
-أنت لا تقدر حراجة موقفي، فأنا في موقع المسؤول، ولا أستطيع أن أكون طرفاً الا يفترض في أن أنزه نفسي عن الخصومات، والخلافات، والمشاحنات، وأن ارتفع فوق الاتجاهات والأحزاب جميعاً؟!
*لكنك الآن طرف، وفي صف الظلاميين أنت، أريد أن أسألك، وأريد جواباً صادقاً، هل دخلت الحزب، ومكثت فيه ما مكثت من أجل هذا الذي أنت فيه الآن؟! هل ناضلت من داخل ما تؤمن به لكي يكون لبنان ما هو عليه؟! هل صورة اليوم هي التي كانت تحفزك إلى العمل بالأمس، وعلى امتداد سنين وسنين!! ألم تدخل الحزب بحلم التغيير، والتطوير واجتراح المعجزة بصنع الغد الأفضل؟! على عملت لكي ينتهي الأمر إلى ما أنت عليه، الفرد أهم من العائلة، والعائلة أهم من الحزب، والحزب أهم من الطائفة والطائفة أهم من الدين، والدين أهم من الوطن؟!
-أنت تقسو علي بأحكامك.. أأنا المذنب الوحيد في هذه الدنيا؟ أتحملني أخطاء الناس جميعاً، وتريد محاسبتي كما الآخرين عليها؟! لعلني أخطأت في هذا الأمر، أو ذاك، لعلني ترددت حيناً، وجبنت حيناً آخر، وضعفت أمام بعض حقائق الحياة، لكن الخيانة تهمة خطيرة؟!
*إنما أتهمك بخيانة جيلك، أتهمك بخيانة شعاراتك، والأفكار، والأحلام التي بعثها للناس، أتهمك بخيانة ذاتك فمن أنت اليوم؟! وماذا أنت؟ّ! ليتك صرت لا شيء لقد شوّهت، حتى لم تعد تعرف وجهك متى طالعك في المرآة. بل لعلك تخافه، وتنكره، وتفر منه!
-الأمل باق بعد، فلا تيأس فالمؤتمر لم ينته…
*ولكن هذا المؤتمر بدورك البائس فيه هو مصدر جديد لليأس، أين منه جميع المصادر التي عرفناها حتى ألفناها في الماضي.
-لن يتخلى عنا الله.
*بل قل فليرحنا الله.
البحيرة هادئة بعد… والبط سارح فوق صفحاتها، يرفع عقيرته بتلك المعزوفة الكريهة المشوهة للمنظر!
ترى لأي طائفة ينتمي البط؟! وسمك البحيرة؟ والنورس؟! وهذه الزهور البرية التي تجيئك بصورة الحبيبة، ندية معطرة مشوقة، وعلى الوجه شحوب العتاب على غياب طال، ولقد هزمت أخيراً الاضطراب وقررت: سنعيش، وليمت أهل الكهف بغيظهم!
سنعيش وسنحمي شرف الحياة وكرامة الإنسان، سنعيش، ونهزم الظلمة والظلاميين الأشباح الخارجين من المتاحف والمقابر وكراهية الحياة، طالما إنهم يودعونها تاركينها لغيرهم!
سنعيش برغم المؤتمر والمؤتمرين، برغم الطوائف والطائفيين، وبرغم خونة جيلهم وفلذات الأكباد. سنعيش ونبقى، فنحن ملح الأرض وتراب العجين.
البحيرة هادئة بعد.. فلتهدأ نفوس الأحبة. كما يجدر بالمقاتلين من أجل حماية الناس، من أن يتحولوا إلى وحوش ضارية.
ولسوف ينبت الوطن عبر الصراع الصريح بين الشمس والعفن، بين هذا البدر المفضض الدنيا كلها بألوان الطيف، وبين عتمة ليل القمر، والظلم وأفكار الحق في الحياة.
لسوف يخرج الوطن من الحلم، لأن الحرب الأهلية ستتحول إلى الثورة – الوعد ، بقوة السواعد السمراء التي تنبتها الآن أرضنا المعطاء.
فليس بعد مثل هذا المؤتمر إلا الثورة، وإلا الثوار، وإلا سقط حقنا في الحياة.

Exit mobile version