طلال سلمان

على الطريق توما الزحلاوي والهموم الباقية بعد التفاؤل!

عادت “الجمهورية الثانية” من رحلتها الأميركية بدرع التثبيت وبوليصة تأمين على حياة عهدها الميمون.
وسلم النائب عن جميع الرؤساء وحامل مفاتيح الدولة “الرئيس” ميشال المر الأمانة التي ناء بحملها على امتداد ثمانية أيام اجتهد خلالها في التخفيف من نشاطه الطبيعي حتى لا يتهم بالتقصد في كشف انعدام الفرق بين “حضورهم” والغياب.
… بل لعل الناس قد تمنوا لو يطول الغياب أكثر وأكثر لأنه وفر لهم برنامجاً إضافياً ممتعاً في محطات التلفزيون والإذاعة (ولا يهم أن تكون شرعية أو غير شرعية فالحال من بعضه وكلنا أهل، أبونا آدم وامنا حواء).
… فلقد تسلى الناس بالفرجة على دولتهم في بلاد الفرنجة، يحتشد أركانها في لقاءات مع الكبراء والأمراء والوزراء فيبهرونهم بكثرة الرؤساء في البلد الصغير، ويفرضون عليهم الارتباك، إذ لا يعرف واحدهم كيف ولمن يوجه الحديث وبأي استهلال يبدأ وبأي صيغة للوداع يختم!
ولكن، لما كان لكل متعة نهاية فقد انتهى زمن الفرجة، فرجة “الجمهورية الثانية” على العالم، وفرجة العالم على “الجمهورية الثانية” بشيبها وشبانها، رجالها ونسائها، أصهارها والأنجال و”الكناين”،
وبرغم أن الحركة بركة، والزيارة “تاريخية”، واللقاءات بمجملها مفيدة، أقله إنها ذكرت العالم بلبنان، ونبهت “إوتنا الأميركيين” إلى حقيقة أن بشير الجميل قد مات، وكذا “الوطن القومي المسيحي”، وأن أمين الجميل قد صار مهاجراً ميسوراً (جداً) مثلهم، وإن ميشال عون قد انضم إلى نادي الملوك المخلوعين والانقلابيين الفاشلين والأثرياء بغير جهد، وإن مشاريع التقسيم قد طويت، ولو إلى حين…
برغم ذلك فإن المشكلات والهموم والمعضلات والأزمات لم تختف ولم تحل، طبعاً، ولم ترحل، بل هي سبقت “الرئيس” ميشال المر إلى استقبال الجمهورية على أرض المطار الذي لم يحوّله تغييب العميد مهدي الحاج حسن عنه إلى “مدينة فاضلة” لا تقربها الموبقات ولا تأتيها لا من خلف ولا من قدام.
من الأقساط المدرسية الفاحشة، والتي يحاكم عليها فارضوها والساكتون عنها، في بلاد الناس، إلى مشروع قانون الايجارات الأعرج، إلى الانخفاض المريع في أسعار الإنتاج الزراعي، إلى تفاقم خطر المافيات “الرسمية” في كل مجال، إلى الشلل المريع في الإدارة، إلى تعاظم الانفاق غير المجدي والمشبوه أحياناً، إلى حكايات البلع والزلع والرشوة والفساد والإفساد، إلى النهب المنتظم والمستمر لموارد الدولة (وبالقانون الآن) حيث تلتهم، مثلاً، موازنة وزارة الصحة ولا استشفاء ولا من يصحون.
ومن أزمة السكن الخانقة إلى أزمة المهجرين المتفجرة، إلى المحاولات الخبيثة لاستغلال هذه المحنة وتحويلها إلى استثمار سياسي يبعث بموجبه “لبنان الصغير” على حساب جمهورية الطائف ومتفرعاتها،
هذا بغير أن تنسى الأوضاع الحكومية النموذجية بما يسودها من تناغم وانسجام وتضامن وزاري يتحدث عنه الركبان ولا حرج،
كل ذلك ما زال حيث تركه أقطاب “الجمهورية الثانية”، وهم – برغم كل ما سمعوا وما بذل لهم من وعود – ليسوا اليوم أقدر على حسم ما يجب حسمه منهم يوم غادروا بالسلامة لينقلوا الدعوة إلى العالم بكل الكرم السياحي الذي اشتهروا به: زورونا في لبنان تجدوا ما يسركم…
فالقرار هنا لا في أي مكان آخر،
وليس “الآخر” هو المعني أو المطالب بأن يصوغ رؤياك أو مشروعك بالنيابة عنك، ولا يحقق الحلم إلا صاحبه.
ومع التسليم بالقدرات المذهلة للرئيس الأميركي جورج بوش فهو أعجز من أن يخترق حلم طفل أو رجل أو امرأة أو شيخ طاعن في السن مستعد لأن يجرّب كل شي واي شيء ومن أجل استعادة شبابه الغابر.
ستزيد على الحكم المطالب، فصيت الغنى يجمع ويلم بينما صيت الفقر يفرّق الأصحاب،
وبالأمس كنا في انتظار الضمانات واليوم نحن في انتظار تنفيذ الضمانات أو بالأحرى التطمينات،
وبالأمس كنا في انتظار الصندوق الدولي لإعمار لبنان، ونحن اليوم في انتظار المال اللازم للصندوق، وبعض التفاصيل التافهة الأخرى كمصادر هذا المال ومن سيؤمنها ومن سيديرها ومن سيشرف على الانفاق واين ومتى وكيف ومن يحدد الأولويات الخ..
مع ذلك كله لا بد من تهنئة العائدين بسلامة العودة وحسن الختام والظفر المؤزر.
ولا بد من التنويه بدر الرئيس الياس الهراوي في مواجهة الخارجين من الشرعية ليخرجوا عليها.
ولا بد من التنويه خصوصاً بتحفظه الواضح والمعزز والمؤكد حيال التطمينات أو الضمانات أو التعهدات الخ… فهو الآن، “توما الزحلاوي”، ويجب أن يكون، خصوصاً وإن رفيقيه الشريكين قد استنفدا التفاؤل كله، وطفقا يتحدثان عن مشكلات لبنان والمنطقة بصيغة الماضي ولسان حالهما يقول: “ناس بسطاء صحيح! هل نسوا أننا حليناها”؟!
ولأن اللبنانيين أكثر إيماناً بتوما الأكويني وإصراره على وضع أصبعه في الجرح، فقد صدقوا الرئيس الهراوي وعادوا إلى جدول الأعمال القديم: قسط المدرسة وثمن مازوت الشتاء، والمسلسل التلفزيوني السمج عن الجمهورية الثانية ونواطيرها الثلاثين وإنجازاتهم التي لا تقع تحت عد أو حصر،
مع تحيات معاصر الشوف والقبيات وعكار والمصفاتين في البداوي بالشمال والزهراني في الجنوب، لكل الذين غابوا فما جابوا إلا التفاؤل والزهد بدرع التثبيت المضروب في مقر الرئاسة الأميركية،
لعب، يلعب، العب…
أنهى ياسر عرفات “آخر مجلس وطني فلسطيني” ملخصاً نتائج دورة انعقاده العشرين ببعض الجمل “الخالدة” ومنها:
“لقد نفذنا كل ما طلبته منا الإدارة الأميركية ونأمل الآن أن تستأنف الحوار معنا،
“نحن نطالب بتنفيذ مبادرة الرئيس بوش كما أعلنها في 6/3/1991.
“الكرة الآن في الملعب الأميركي، لقد أعدناها إليهم، وح نشوف حـ يعملوا ايه..”.
رحم الله جيل الثورة والتحرير،
وسقى الله أيام “النضال ضد الإمبريالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية”،
ونفعنا الله ببركات من كان يبقول “أنا أقول لنيكسون (وريغان وقبلهما فورد وجونسون الخ) إن أشبال فلسطين وفتيتها أقوى من كل أساطيله”.
ما علينا والماضي الجميل وإثارة الذكريات المحزنة، لنكن واقعيين ولنفكر بعقل: ألم يتعظ “العربي” بعد بأن المزيد من التنازلات لا يؤدي إلى تحديد الخسائر بل هو يفقده الحق بالحد الأدنى والذي يمكن تبريره بقسوة الظروف وعدم ملاءمتها وواقعية شعار “خذ وطالب” الشهير؟!
لقد تاه الحد الأدنى وتبعثر أيدي سبأ،
وطالما إن ثمة كل يوم حداً أدنى من الحد الأدنى الذي كان معتمداً كبديل عن الحد الأدنى السابق والمتعذر تحقيقه، فأين تنتهي مسيرة ترسيم الحدود مع الحد الأدنى؟!
وأي كرة هذه التي يأتي ذكرها في سياق الحديث عن حقوق شعب ومصير قضية ومستقبل وطن يحتاجه الفلسطينيون ولو كدولة للرئيس البلاد دولة؟ّ!
ما هذه الخفة المستهينة بنضالات هذا الشعب العربي، العظيم داخل فلسطينه وخارجها؟!
وما هذا الاستخفاف بالمؤسسات الوطنية الفلسطينية؟1
أم أن الخسارة لا بد أن تشمل المضمون والشكل، الموضوع واللغة ومستوى الأداء؟!
وكيف ولماذا تلعثم “الحكيم” جورج حبش ووقف حائراً متردداً ضائعاً ومضيعاً بين “لا” النافية للاستسلام و”نعم” النافية للوطن وحلم العودة والحد الأدنى من حقوق الإنسان؟!
نعرف جميعاً وبالتجربة إن لا قيمة للنصوص المعلنة في العمل الرسمي العربي، فالسياسة شيء آخر غير الالتزام بالمواثيق والقرارات الصادرت عن المؤسسات الشرعية.
النصوص هي عدة الشغل ووظيفتها محدودة في مجال المناورة والتكتيك ولا صلة لها بالنتيجة المتبغاة من “المفاوضات” إلا التدليل على عدم تعصب المفاوض واستعداده غير المحدود للتنازل والخروج على إرادة شعبه.
وليت ذلك يجدي،
فبرغم كل ما قدمه عرفات خارج المجلس الوطني وفيه وغيره، جاءت لطمة جيمس بيكر قاسية ومؤلمة لكل عربي بالمطلق وليس لشخصه ومناصبه فقطز
قبل إسرائيل التي أظهرت رضاها عن نتائج أعمال المجلس الوطني الفلسطيني ومقرراته، أعلنت واشنطن إن التنازلات الجديدة التي قدمت – بناء على طلبها – غير كافية، فارضة على عرفات ومن معه تقديم تنازلات جديدة ليس واضحاً من أين سيأتي بها لأن “الموضوع خلص”!!
أسوأ الحكام من يصادر غد المحكومين إضافة إلى حاضرهم،
“وطني ليس حقيبة وأنا ليست المسافر”، كان يقول محمود درويش ذات يوم،
لعله يبدل المطلع، إذا ما كان يقول شعراً فيجعله: وطني ليس كرة وأنا لست الملاعب!

Exit mobile version