طلال سلمان

على الطريق توحد أم كمائن؟!

فجأة، وبمثل السحر، حسم الجدل البيزنطي الذي طال واستطال حتى داخ الناس فلم يعودوا يعرفون مصدر التأزم أو التأزيم في الوضع القائم: هل هي العوامل السياسية وقد انعكست على الاقتصاد ومسائل المعاش، أم هو العامل الاقتصادي وقد ضغط بثقله على السياسة ففرض عليها بعض الانحناءات والالتواءات لتفادي ما هو أعظم!
فجأة توارت أسباب الافتراق والاختلاف، وهدأت أمواج اللغط السياسي، وانضوى المتعارضون عقائدياً إلى حد التصادم تحت عباءة الموحد الاقتصادي!
حتى المقاطعون والمهددون بالاعتصام المدني بلعوا ألسنتهم ومعها مقولاتهم التي وصلت – ذات يوم – إلى حدود الانفصالية، وعادوا يظهرون غيرتهم على البلاد وأهلها، وعلى مشاريع إعادة إعمارها وإنمائها للحاق بالعصر.
والمنظر أجمل من أن يكون حقيقياً: فالكل يحب الكل، والكل حريص على الكل، والوطن فوق الجميع، والحمد لله من قبل ومن بعد على أن هدانا وما كنا لنهتدي لولاه.
الله، ما أجمل الوحدة الوطنية التي يتلاقى في أفيائها الظليلة أهل التطرف من المتهمين بممارسة الإرهاب، وأهل الاعتدال ممن يتهمون بالتنازل عن الحقوق،
وما أجملها تظلل في رحابها القائلين بإلغاء الطائفية السياسية والمكافحين لإبقائها حقيقة خالدة مثل أرز لبنان وصخره المشبع بالعنفوان!
بل ما أطيبها نعمة يفيء إليها أثرى الأثرياء والآتون إلى الحكم باسم أفقر الفقراء، فتتطابق آراؤهم ورؤاهم فلا يختلفون على كلمة في برنامج الوعد بالتغيير والإنصاف والعدالة والمساواة.
لعله عيد العلم، الذي ما زال بطرس حرب يفاخر بأنه صاحب فكرته ومطلقه كفعل إيمان بـ “ها الكم أرزة العاجقين الكون”،
لعلها ذكرى الاستقلال وقد طهرت النفوس من الأحقاد والمطامع، فصفت القلوب ورقت المشاعر وأخذ الناس بعضهم بالأحضان وانهمرت دموعهم وكل يطلب من الآخر الصفح والغفران!
المنظر أجمل من أن يكون حقيقياً،
ربما لهذا تستفيق الريب والشكوك ويبدأ البحث عن المواضع التي زرعت فيها الأفخاخ والعبوات الناسفة.
والحق أن اللبنايين لم يألفوا مثل هذا التوافق على الصمت والإشادة والتقدير وإظهار المحاسن وتعظيم القدرة على الإنجاز،
بل إنهم كانوا إذا ما ساد الصمت اشتموا رائحة التواطؤ … عليهم!
الحكومة منضبطة كالساعة السويسرية،
والمجلس النيابي يقف خلفها وقفة رجل واحد
والرؤساء الثلاثة لا يفترقون حتى يعودوا إلى التلاقي، ولو على طريقة “كل الأحبة اثنين اثنين”…
الكل مع الجنوب والتحرير (ولا بأس لو غيبت مؤقتاً كلمة “مقاومة” فالمهم الأفعال وليس الأقوال…)
الكل ضد إسرائيل واعتداءاتها الغاشمة،
كذلك فالكل مع بيل كلينتون، وقد سقط سهواً من التداول اسم جورج بوش ووزيره “الصديق” جيمس بيكر، ولولا بقية من حياء لامتنع الجميع عن رد التحية “لسفيرهما” في بيروت راين كراكر،
ثم إن الكل يحضر المخازن لموسم الدولارات الآتي مطراً يسبق الشتاء!
لكم هم كثر محبوك يا “بابا رفيق”.
لكن حديث المجالس غير هذا الذي تبثه أجهزة الأعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، والتي يتجدد الآن الكلام عن “تنظيمها” في جو ملغز وملغم بالهمس الأسود.
ففي المجالس تتهاطل علامات الاستفهام البريئة كما الخبيثة، وتظهر لحكومة الإصلاح والإنقاذ والإعمار والإنماء والمعجزات الخ صور أخرى غير هذه التي تروجها المداهنة والنفاق والأطماع في المحاصصة أو نيل النصيب من الكعكة.
وفي المجالس يتوارى الموحد الاقتصادي ليطل شبح الاستهداف السياسي، بل التحول السياسي، وتتولى التفسيرات والتخيمنات و”المعلومات الموثوقة” التي تكاد تجزم بوقوع “انقلاب أبيض” يموهه سحر الدولار الأخضر.
وينقسم أهل المجالس إلى “حريريين” أو “انتي حريريين”، ويذهب كل مع منطقه إلى النهاية، فإذا ما بدا – في الخارج – وكأنه توحد أو تكتل حول الحكومة يتكشف عن “هدنة” معلنة سببها المباشر عدم الرغبة في التصادم مع المزاج الشعبي العام، أو بأصرح: مع القرار السياسي الأصلي الذي قضى بمثل هذا العلاج للوضع المتردي اقتصادياً والمأزوم سياسياً والمتفجر اجتماعياً.
كل شيء هادئ في بيروت،
لكنه هدوء ثقيل الوطأة، لشدة ما تتكاثف في ظله أمواج الترقب.
والمجلس ما زال يبحث وسط تلك الأمواج عن دوره، وبالكاد يتعرف إليه ويباشر ممارسته مأخوذاً بجو الإجماع المعطل لمهمته الديموقراطية.
والسياسة غادرت الشارع منذ زمن بعيدن وشيعت رموزها وقياداتها وهي تنتقل إلى البرلمان، على أمل أن تحوله إلى ساحة صراع بين الأفكار والعقائد والمناهج والتغيير المقنن.
والحكومة التي تكاد تتبرأ من السياسة مكتفية بمهامها الانقاذية الجليلة، تساعد على كتم الصدى السياسي لحركتها مغلبة في ما يصدر عنها أو ما تعتزم الإقدام عليه التوصيفات التقنية.
… والمنظر أجمل من أن يكون حقيقياً،
لكن الكل حريص على ألا يكون الأول في رشقه بالأسئلة المشوهة.
ولعل في المناقشات حول القرض الإيطالي بداية خجولة، للأسئلة التي تتناول الماضي، والتي يمكن أن تمهد لأسئلة أخرى تتناول الحاضر والمستقبل،
وربما كانت آخر جلسة للحكومة السابقة، بإنجازاتها التي طمست بعناية آنذاك، والتي تتكشف شيئاً فشيئاً الآن، أحد أهم المصادر للأسئلة المقلقة.

Exit mobile version