طلال سلمان

على الطريق تواشيح وحدوية… في زمن الانفصال!

… وها نحن في اليوم الرابع للعهد المفتوح: عهد ما بعد 23 ايلول، ما بعد أمين الجميل، ما بعد الرئيس ورئاسة الجمهورية، عهد “الفراغ الدستوري” بكل الجدل الفقهي الذي استولده حول البديهيات!
ها نحن في قلب الجرح المفتوح، نتحرك بقصد وقف النزف فلا نفعل إلا زيادة النزف، وغير التباهي بأن الشطر الآخر قد فقد من دمه أكثر، كأنما الدم فئتان ونوعان يضخهما قلبان متقاطعان!
ولقد أخذنا الجدل بعيداً عن الموضوع وهو: إن البلاد مدعوة، بعد، لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وإن المجلس النيابي هو المعني بهذا الأمر، وليس من حقه أن يستنكف أو أن ينكفئ على نفسه وأن ينفض طوق قميصه كأنه بريء من دم هذا الصدّيق!
فعدم تحديد جلسة جديدة لانتخاب رئيس جديد، ولو بعد أسبوع أو شهر، لا يوسع فقط دائرة الجدل حول شرعية الحكومة، بل يمدها لتشمل وحدة الدولة، ومن ثم وحدة البلاد!
إن المؤقت سرعان ما سيتحول إلى دائم، وقوة الأمر الواقع تغني في ظل الحرب الأهلية عن الشرعية.
والذاكرة المجهدة ببدع الحرب ووسائل التكيف معها والتعود على مفرزاتها لن تضيق بأن تزيد إلى رصيد “المخالفات” و”الخروج عن المألوف” واقعة إن البلاد يمكن أن تستمر بلا رئيس جمهورية، هو ماروني بالضرورة، بالانتخاب أو بالاغتصاب أو بالتسلل إلى قصر بعبدا في عتمة ليل الانقسام، لا فرق!
على إن هذه الذاكرة المجهدة ذاتها لم تستوعب، حتى الساعة حقيقة أن يكون العماد ميشال عون – المكسور الذراع – دولة أعظم من عظمى، بدليل إنه هزم وحده الولايات المتحدة (المتفقة الآن مع سوريا)، والمجلس النيابي وطابور القوى السياسية في طول البلاد وعرضها!
*تربينا على فكرة الوحدة العربية، وآمنا – وما زلنا نؤمن – إنها طريقنا إلى الحلم، إلى التقدم، إلى الحرية، إلى العدالة، إلى الكبرياء ، إلى العصر، إلى الغد الأفضل.
اليوم نكاد نفتقد الصوت العربي المشفق على وحدة لبنانز
لقد ضربتهم الروح الانفصالية الشيطانية في أقطارهم قبلنا.
لقد أعطتنا أنظمتهم بعض حروبها لتتفرغ لقمع من تحكم، فصاروا انفصاليين بالعجز وبالخوف وبالغرق في بحر همومهم اليومية الصغيرة، وصرنا انفصاليين لفقدان المناعة… والمناعة نستمدها من أمتنا وتغذيها وطنيتنا.
خارج سوريا لم يتحرك مسؤول عربي واحد لا لدرء الكارثة ولا لمنع وقوعها ولا لتدارك نتائجها المريعة، ولا حتى لحصر أضرارها المدمرة!
سمعنا فقط بعض المواعظ الأخلاقية السخيفة، وبعض التفجع الفاضح للعجز، وبعض بكاء محترفي الندب على الأطلال.
وسمعنا ما هو أفظع، سمعنا كلاماً مثلجاً، بتعابير ميتة المعنى، تتجاهل طبيعة الصراع، وهو في أوله وفي آخره صراع على هوية لبنان القومية، وتقفز من فوق الحقائق والوقائع، وتتجنب تسمية الأشياء بأسمائها،
ولقد سمعنا عن أفغانستان تصريحات وخطباً تكاد تعلن الحرب على الملاحدة.
وبمعزل عن السمع فقد عرفنا بعدما عرف العالم إن بعض حكام العرب يدفعون، بسخاء، وإن بعض حكام العرب يسلحون، وإن بعض حكام العرب يوفرون الدعم السياسي المطلوب،
كذلك عرفنا، بعدما عرف العالم، إن بعض حكام العرب قد خاضوا غمار الحرب الضروس في نيكاراغوا، مؤيدين للعصابة الأميركية – المطرودة ضد شعب ذلك البلد الطيب الذي لم يبادئنا العداء ولا ظهر لنا منه ما يسوءنا أو ما يكدر صفو الخاطر.
أما لبنان فلم نعرف ولم نسمع إن مسؤولاً عربياً واحداً قد هاله أو أفزعه أو أثار قلقه السامي أن يكون مهدداً الآن بالتقسيم، كنتيجة – متأخرة – للغزو الإسرائيلي، وكإنذار مبكر (نسبياً) للأقطار العربية جميعاً بأن السرطان الذي لم يستأصل فيه فترك يستشري حتى صرعه هو في الطريق إليها، وبأسرع مما يتصورون.
كل ما قرأنا، أو سمعنا، تصريح يتيم وبائس للشاذلي القليبي الذي صمت دهراً ونطق كفراً، وكان أشرف له ولجامعة الدول العربية ولدولها جميعاً لو إنه لم يتفوه به.
لا اجتماع ولا دعوة إلى اجتماع طارئ.
لا وفد ولا موفد يجيئنا بطائرة خاصة ثم يقلع قبل غياب الشمس خوفاً من ليل الغابة اللبنانية وأشباحها المتعددة الرؤوس!
آه يا قليبي… أإلى هذا الحد تقزم رمز الوحدة العربية الرسمي (بحدها الأدنى)؟!
والمصيبة إنه يرى في نفسه، ويرى فيه آخرون حداً أقصى لا بد من النزول دونه في اتجاه “مجلس التعاون” أو ما هو دون، إن كان ثمة دون بعده!
*تأخذك العين إلى حيث يمنعك السلاح و”حكماء” الطائفة العظمى!
تطير بك العاطفة ، المصلحة، الذكريات، وروابط الحياة التي بلا حد ولا حصر، فوق المعابر وتجار المعابر الذين لم يتورعوا من قبل، ولن يتورعوا غداً من تحويل البلاد إلى مقابر،
الناس هم الناس، بؤساء وطيبون، يبحثون عن الخبز والغاز والفاكهة، وينتظرون الكهرباء، يخافون من صعود الدولار وسقوط الليرة، يخافون من جيرانهم ومن شقاوة أطفالهم الصغار، يخافون من الأشباح في الخارج من صدى كلماتهم في الداخل، يخافون من أفكارهم، من ظنونهم، من تقديراتهم والتوقعات، يخافون من المذيع ومن نشرة الأخبار، ويخافون من خوفهم فيهربون إلى عدة النسيان.
الناس هم الناس، لكن اليوم غير الأمس، وغداً قد يكون أقسى من اليوم. الغد وحش يقفز من ذاكرة الأحزان فيسد عليهم الطريق. كيف تخترق هذه الغابة من علامات الاستفهام؟! كيف تصل إلى الحضن الدافئ للأجوبة المطمئنة؟!
الكل تحت الحصار. الطرقات مقطوعة، الهواتف مقطوعة، الصلات مقطوعة، العواطف مقطوعة، الأنفاس مقطوعة، والعسكر أداة فصل وليس أداة وصل. في الداخل الميليشيا وحرس حدودها عسكر جيش الوحدة الوطنية!!
ما أبعد الصنائع عن بعبدا، ما أبعد بعبدا عن بعبدا. ما أبعد ساحة النجمة عن قصر منصور. لقد تاه في المسافة بينهما مجلس نيابي تعداد الأحياء فيه 76 نفراً!! خرجوا جميعاً ولم يعودوا!
ما أبعد النائب عن البرلمان، ما أبعد البرلمان عن الديموقراطية، ما أبعد الديموقراطية عن الحكم، ما أبعد الحكم عن الجيش، ما أبعد الجيش عن الحدود… فالذاكرة المجهدة لما تنس إن الجنوب محتل بعد ينتظر الجيش الذي أخطأ الطريق فقصد بعبدا بدلاً من بنت جبيل ومرجعيون وعين ابل ورميش وابل السقي وحولا وعيتا الشعب… وصولاً إلى جزين!
والنواب يتوارون خجلاً بعدما بلعوا ألسنتهم، واكتشفوا إنهم بلا صلاحيات!! مرة يفقدونها لأن “الكبار” اختلفوا، ومرة أخرى يفقدونها لأن “الكبار” اتفقوا، ثم يفقدونها كلية في زمن اللاحرب واللاسلم!
*ما أبعد الوريد عن الوريد!
صرنا نسأل أو نسأل أو نتساءل عما تبقى يربط بيننا، عن المشترك بين اللبنانيين!
لكأنك تسأل عما يربط الأصابع بالكف، الكف بالزند، الزند بالكتف، الكتف بالرأس والتجويف الصدري الذي يعول فيه ذلك “الخافق المعذب”!
لكأنك تسأل عما يربط العين بالبصر،القلب بالحب، القمح بالسنبلة، الثمرة بالشجرة، الشجرة بالأرض، الأرض بالساقية والنهر، بالبحر والشمس ضوء القمر!
لكأنك تستهن أن يكون للمولود والدة ووالد، وأن يكون للوالد أب وللأب جد وللجد اسم ونسب وتاريخ هو بعض أرضك وبعض الهواء الذي تتنفسه!
لكأنك أتيت من فراغ وعشت في الفراغ وإلى الفراغ تعود!
كان السؤال، بداية، عن هوية اللبنانيين مجتمعين، صار السؤال الآن عن هوية اللبناني في أرضه، أي لبناني أنت؟! (أتراها التتمة الطبيعية لسؤال بيار الجميل الأبدي: أي لبنان نريد؟! أتراه رحل ونسي أن يأخذه معه فتكفل ورثته باستيلاد الجواب عن طريق تدمير لبنان؟!)
أفي أية “شقفة” من لبنان أنت؟! وإذا كنت “المشقوف” فكيف يمكنك الجواب؟!
بالأمس كان اللبناني يذبح على الهوية.
الآن جاء الدور على الهوية. الآن “تشقف” فتذبح الهوية ذاتها.
وليت أن بديلها الهوية العربية المرتجاة، إذن لكان هذا يوم عيد وليس يوم الشقاء المفتوح!
*ليس بلبنان، أصلاً، هذا الناقص جنوبه، والمعطل قلبه، والمشلولة إرادته بفعل النتائج الباقية للغزو الإسرائيلي في صيف 1982.
وليس بلبنان هذا المشطر بين الشرقية والغربية،
لن يصبح لبنان لبنانين. إن تلك نهاية لبنان. اللبنانان شقفتان من سديم وليسا جزءين من أو في دولة واحدة!
والانفصاليون سابقون في وجودهم على الانفصال. لذلك لم يفاجئهم ولم يستفزهم فلم يستهولوه ولا هم استنكروه! لقد عملوا له طويلاً، وهم يحتفلون بعيدهم الآن وفي قلب مقر الرمز الموحد: في القصر الجمهوري!
والذين لم يكونوا وليسوا مع دولة واحدة لن يكونوا مع “دولتين”. سيفضلون توالي الانقسام على الذات بحيث “يستقل” كل بإمارته أو بدويلته أو حتى بزاروبه. وكل منهم “سيعترف” فقط “بالدولة” التي تعترف بدولته وتستبقيها وتوفر لها أسباب الحياة!
في الجريمة يتساوى الانفصالي الشرقي مع الانفصالي الغربي،
لا يمكن أن يكون أحد الانفصاليين على صواب والآخر على خطأ. إنهما شريكان في الجريمة: في التخطيط والتحضير والتنفيذ وبالتالي في الانتفاع1
*المعتدي على الدولة انفصالي بالضرورة، فليس غير الدولة أداة توحيد،
وهكذا فالذي عطل انتخاب رئيس جديد أو عرقله أو منعه لم يعبر فقط عن موقف سياسي خاطئ أو موضع خلاف، بل هو تسبب في الكارثة التي تتهددنا: أسقط البلاد في لجة الفراغ، والفراغ طريق وحيد الاتجاه إلى زوال الدولة، وزوال الدولة يعني انفراط عقد اللبنانيين وتبعثر شملهم بين “الهويات” الأخرى، في ما وراء البحار!
وما أبأس المكتفي بنصره البائس في المماحكة حول الشرعية والعنف، ناسياً إنه قد نسي إن وطنه الممزق قد لاقى هزيمة ساحقة، فخسر – بعد الدولة – وحدته!
*هل قلت آخ؟! ليس بعد؟! إذن خذ!!
يندفع الشطر بعيداً عن شطره الآخر، وهو يعرف إن التمزق يصيبهما معاً، ولكنه يفترض إن “الشطر الآخر، يتوجع أكثر، يتأمل أكثر، وقد يسقط قبله!
… لكن السقوط فعل توحيد، فلنتجنبه!
لن ينفع الاتهام في منع الجريمة،
ولن تنفع الإدانة في مسح آثارها،
المهم ألا تقع “الجريمة الكاملة”. ألا نسمح بوقوعها.
والأمر الطبيعي أن نعمل جميعاً لكي تجري انتخابات الرئاسة بدل أن نتلهى بالجدل الفقهي حول شرعية الحكومة.
بل إن مهمة حكومة سليم الحص، لأنها شرعية، أن تعمل لضمان إجراء الانتخابات. فشرعيتها إنما تتأكد عبر إنجاح هذه المهمة الصعبة.
فلا سليم الحص عنده هوس السلطة، ولا يبدأ مجده بأن يكون الشاغل لمناصب الرؤساء جميعاً حيث لا دولة ولا حكم ولاجمهورية (ديموقراطية برلمانية!).
ولا ريمون اده المنادي من باريس بشرعية ميشال عون في بعبدا له مكان في دولة ما بين البربير والبربارة،
على إن الأمر الواقع القائم يثبت كأنما غياب “الماروني” عن رئاسة الجمهورية ضرورة لكي تتم المشاركة ولكي يتحقق الحد الأدنى من الاصلاح السياسي.
فحتى ميشال عون (ومن خلفه حكماء”الجبهة اللبنانية”) يسلمون الآن بأن يكون الحكم لمجلس الوزراء مجتمعاً.
أي إن “الرئيس” المقبول فعلاً هو “مؤسسة” مجلس الوزراء.
لكن هذه عودة إلى الجدل الفقهي، فلنتجنبها!
في أي حال يمكن أن يسجل لأمين الجميل إلى أنه لم يخرج من القصر إلا بعدما اطمأن إلى أن لا رئيس بعده،
والرجل الذي أعلن إن “الرئاسة أكبر من الرئيس” لم يترك رئاسة لأنه لم يترك بلاداً أكبر من الرئاسة والرؤساء.
فكأنما بزواله زالت آخر ملامح الدولة،
وهكذا يكون قد حقق نجاحه الأخير بعد خروجه فلطالما عمل، خلال ولايته ، على تمزيق الدولة، وإضعافها، وصدمها بجمهورها، ودفعها في طريق الانتحار!
وبهذا يكون حكم الانقلاب الكتائبي مستمراً: تكون الدولة له أو لا تكون…
*… والشمس ستشرق يوم غد، أيضاً، ولن تتوقف لأننا لم نعرف كيف نحمي الدولة اللبنانية من الانهيار!
وفي الوقت متسع بعد للمبادرة،
فهل من مبادر؟!
يا هوه، يا سامعين الصوت… هل فيكم من ينقذ بلداً ينتحر وهو يتأوه لذة ويرفع صوته بالغناء شماتة بنفسه؟

Exit mobile version