طلال سلمان

على الطريق تهبط على إسرائيل فترتفع إلى فلسطين!

لأنه حلق وصل،
امتطى إرادته، وتزود بعشقه لأرضه، واتخذ من عطر زهر الليمون بوصلة هادية، وحلق فوصل.
ولأنه وصل فقد نجح: انتضى دمه وظل يرشق به الجيش الذي لا يقهر، ونجمة الصبح تسعى في ركابه وتفضح له الجنود المذعورين في الملاجئ، حتى اكتملت دائرة الزلزال تماماً، وعند آخر قطرة – طلقة كانت إسرائيل الجبارة تهتز بعنف وتعود إلى حجمها الطبيعي!
طالما قد عاد هو إلى حجمه الطبيعي، فلا بد أن تعود هي، إسرائيل العجز العربي، إلى حجمها الطبيعي، ولا بد أن تستعيد الأخبار سياقها المنطقي فتكون العناوين: “فدائي عربي يقتحم إسرائيل”، “ثائر عربي فلسطيني يواجه الجيش الإسرائيلي في معسكره”، “أول غارة عربية على إسرائيل منذ إقامتها على أرض فلسطين قبل أربعين سنة”!!
لأنه حلق فقد وصل…
ولأنه وصل فقد بات أكبر من أنظمة الهزيمة مجتمعة ومن قممها العادية والاستثنائية، إنه أكبر من الهزيمة ومن قوة القهر التي اصطنعتها، فكيف لا يكون أقوى وأكبر من المتعيشين على فتاتها والعاملين لإدامتها ليدوم عزهم بها؟!
وهو من حالق كشف الهشاشة في الجانبين: هشاشة الكيان الصهيوني الذي طالما صوّر نفسه وصوّروه لنا وكأنه بيضة رخ جدرانها من الفولاذ، وهشاشة حكام العجز العربي الذين خافوا من هذا الفدائي الذي يتسامى فصار شهيداً أكثر مما خاف منه العدو الإسرائيلي،
وهو من حالق كشف التواطؤ الدائم بين الجانبين : كلاهما لا قدرة له على مواجهة الإرادة الحرة، وعلى عشق الأرض بترابها وعطر الورد وبذار القمح فيها، وعلى الدم المشهر سيفاً لا تفله “الأواكس” الأميركية ولا “الكفير” الإسرائيلية ولا مفاعل “ديمونا” الذري وقنابله الكثيرة.
لأنه حلق فقد وصل،
ولأنه وصل فلقد كشف إلى أي حد تأصل فينا الجبن حتى كاد يلغي إحساسنا بفرحة يتيمة، في عصر القحط والانحطاط، كهذه التي منحنا إياها بوصوله.
لقد نسينا الفرح وأنسينا الحب. نسينا كيف يكون القتال وأنسينا كيف يكون النصر، لكثرة ما أغرقنا في انتصارات المنتصرين للعدو علينا.
لم نعد نعرف إلا الخوف. الخوف على الرأس. الخوف على المصلحة. الخوف على الوظيفة. الخوف على الرغيف. الخوف على خوفنا، لأن الخوف مصدر أمان!! فإذا ما تزعزع فتلك هي الكارثة.
نحن فقط نخاف، نحن فقط قطعان من الخائفين، نخاف من أفكارنا، نخاف من أحلامنا، نخاف من أسئلة أطفالنا. نخاف السذاجة، نخاف الصدق. نخاف الكلمة. نخاف من “الشبيحة”، قادة وقواعد، ونخاف من العسس أكثر. نخاف من الهزيمة ونخاف من احتمال النصر أكثر، لأننا نستشعر في نفوسنا صغارة لا تمنحنا الحق بإحرازه. نخاف من الحاكم ومن المتحكم أكثر. نخاف من الفقير الناسي فقره، ونخاف من الغني المتذكر غناه دائماً أكثر.
لأنه حلق فقد وصل،
ولأنه وصل فقد أخافنا، وأذلنا عجزنا عن تبنيه، وجمّد الرعب من الرد وحجمه، زغردات الصبايا التي اعتدن أن يطلقنها في استقبال الشهيد المعفرة جبهته بتراب فلسطين وشذى زهر الليمون الذي يدور باحثاً عن أصحابه ولا مجيب!
كثيرون أنكروه، قبل صياح الديك… وعلى عكس ما كان مألوفاً، أيام زمان، فقد امتنع تجار البيانات عن ولوج باب “بورصة” هذه العملية، تاركين للجبهة الشعبية – القيادة العامة هذا الشرف المكلف، ولدمشق أن تتحمل النتائج الباهظة!
لأنه حلق فقد وصل،
ولو إنه لم يحلق لغرق في “الوحول” التي تغطي الطرقات والناس الذين “على الأرض” والقضية جميعاً! “وحول” الطائفية والمذاهب والمتاجرين بالطائفيات والمذهبيات والعشائريات المسلحة.
تصوروا لو إنه قصد فلسطين براً ماذا كان يمكن أن يحدث له على الطريق،
ربما كان اختطف على الهوية، أو ذبح باسم حقوق الطوائف، أوضاح في الغابة المكتظة بوحوش الغرائز الطائفية والمذهبية والجهوية والفروق بين جماعة 48 وجماعة 67 وجماعة ما بعدهما.
تخيلوه وقد بلغ صيدا، فماذا يفعل؟!
هل يقصد صحراء التيه في شرقي صيدا، أم يندفع إلى شمالي صيدا، أم إلى شمالها الشرقي، أم إلى قلبها المتعب بالاشتباكات والضياع ومكائد تجار الثورات وأرامل الشهداء وأيتامهم؟!
هل يتنكب دمه ورائحة فلسطين وعطر ترابها ثم يذهب لينتحر في جنسنايا، أم ترى المحاربية وبيصور أولى بالتحرير؟! وهل “تحت الكنيسة” في مغدوشة أكثر صلة بقضيته وأنفع لثورته القومية من “الحي الفوقاني”؟! وكيف يمكن ترتيب طابور “الأعداء” في لبعا وعين المير وسيروب، بمن يبدأ أولاً؟! وهل “جبل الحليب” أصلح لمثواه من “جبل المكبر” أم إن إدراج عينطورة هي معقد النصر وعنوانه الأكيد؟!
لأنه حلق فقد وصل،
ومن حالق نظر فرأى ما كاد يقضي عليه كمداً: رأى المخيمات تقتتل مع محيطها، الضحايا تغتال الضحايا، القضية تفتك بالقضية، المقدس يلغي المقدس والكل يلغي الحدود بين العدو وبين الحليف، بين المغتصب وبين الشريك في مأساة الهزيمة وفي مجد النصر الموعود!!
لأنه حلق فقد وصل،
ولو إنه لم يحلق لقتله عطش السراب وهو يغذ السير، بلا هدف، في صحراء مشاريع “التسوية السلمية للنزاع (المجهول الموضوع) في الشرق الأوسط (الذي تحول من وطن إلى مجرد جهة هي بعض حدود الآخرين)…”.
وهو من حالق فقد رأى ما كاد يثنيه عن هدفه، لولا أن شذى زهر الليمون ظل يشده إلى الصح: رأى حكام أمته والمتحكمين فيها يصطرعون ويقتتلون ، ويقتلون فوراً من يخالفهم الرأي في أية الأفضل التفرد بالصلح، أم الصلح الجماعي بلا مفاوضات، أم المفاوضات من أجل صلح لائق داخل مؤتمر دولي، أو تحت مظلة دولية، أو ضمن إطار دولي، أم ترى الأفضل والأكرم “تلزيم” الأمر كله لدولة الدول جميعاً ومرجعها والقيم على حقوق الأمم والشعوب المنتظمة في بوتقة “العالم الحر”؟!!
لأنه حلق فقد وصل،
ففلسطين لا يصلها الساعي إليها من تحت، المتنازل عن كمشة من ترابها أو عن رشة من عطر زهر ليمون البيارات لغيره فيها،
وفلسطين مثل النصر، بل هي النصر، تعطيها دمك فتأخذها بسيفك وعزم الساعد، وتفرط بزيتونة واحدة من زيتونها فيسقط حقك في شاطئ غزة كما في جبال النار بنابلس وصولاً إلى المسجد الأقصى في القدس الشريف.
فلسطين مثل النصر، مثل الثورة، مثل الوحدة: لا تتجزأ
… وهو قد وصل لأنه افتداها بدمه، في حين ضاع عنها وأضاعوها أولئك “القادة” الذين تحولوا من “فدائيين” و”ثوار” و”مجاهدين” إلى تجار بالقضية وباعة معلومات ومسوقي رهائن وسماسرة لتسويات مستحيلة بين الأبيض والأسود، بين الدم والمقصلة، بيت زهر الليمون وسم الأفاعي!
لأنه حلق فقد وصل،
ومن حالق رأى ما أفسد عليه لحظة ما قبل المواجهة، فرفع وجهه إلى قمر فلسطين وترك نداها يغسل نور عينيه، ثم أكمل طريقه وقد نسيهم جميعاً:
نسي إن عرفات كان عند شاوشيسكو يرهن المزيد من ماء وجه القضية لقاء مصافحة في ممر معتم مع أي رجل يرطن بالإنكليزية باللهجة الأميركية،
ونسي إن أمين الجميل قد زار جدار برلين، بعد جولة على خطوط التماس التي تشطر عاصمة بلاده و”جبهة” سوق الغرب التي تشطر قلبها، وكأنه يباهي بأن ما اصطنعه هو، بحنكته وصادق وطنيته، أقوى وأبقى أثراً!!
ونسي إن الملك حسين يطوف بروح عمان يستنخي بها العرب لقتال الفرس، متجاهلاً إن عرشه ذاته إنما يقوم على الحراب الإسرائيلية،
… وإن الملك الحسن في انتظار موعد للقاء جديد مع بيريز، أو ما شامير هذه المرة، حتى لا يتهم بالتعصب، أو مع كليهما ليدخل التاريخ فلا يخرج منه أبداً،
… وإن سائر الملوك والرؤساء والأمراء وأصحاب المعالي والسعادة يقفون على باب كامب ديفيد ينتظرون الإذن بالدخول، ضارعين إلى حسني مبارك أن يرعاهم بعين رعايتهم فلا يهنأ بالصلح وحده بينما هم منهكون بكفاحهم المضني من أجل تحرير فلسطين وسائر المحتل من أراضي الوطن الكبير!
لأنه حلق فقد وصل،
ولأنه وصل فقد نجح وأمضى تسعين دقيقة يقارع إسرائيل كلها بدمه وحده، ومع الدقيقة الأخيرة كانت الأسطورة قد سقطت وبقي هو عالياً عالياً يراه العالم جميعاً، بشرقه وغربه وشماله والجنوب،
ولعله في اللحظة الأخيرة قد أهدى القطرة – الطلقة الأخيرة لناجي العلي الذي عاش وسيعيش حادياً للقاصدين إلى فلسطين، يغني لهم فيؤنسهم، ويرسمهم فيطربهم، ويرسل “حنظلته” دليلاً هادياً فلا يضلون ولا يتوهون في تعرجات الوهم… وربما لهذا كمنوا له في الضباب فاغتالوه حتى لا يظل يذكرهم بضياعهم وضلالهم والفارق الفظيع بين الثروة وبين الثورة.
لأنه حلق فقد وصل،
أما الزاحفون والغارقون في أوهام التسوية فلن يصلوا،
وليست جنسنايا كالقدس، ولا عين المير مثل الخليل، ولا المحاربية مثل الشجرة ولا سيروب مثل أم الفحم،
وليس المنتصر بأمته ولأمته كالمتباهي بتفريطه لأنه يراه نصراً له عليها!

Exit mobile version