طلال سلمان

على الطريق تقرير اقتصادي إلى طويل العمر!

أبشر يا طويل العمر:
ستدفع أقساط المدارس، عن أبنائك، وبالغة ما بلغت، بـ “اليورو دولار”!
وستدفع فاتورتي الكهرباء (للحكومة كما لصاحب المولد) بالدولار الطازة المحمول بالطائرة رأساً من البنك الدولي،
أما الأوتوسترادات وسائر المرافق التي تتشكل منها “البنية التحتية” للبلاد فقد تكفل “الناس اللي فوق” بالإنفاق عليها عبر وساطة أشرف السماسرة العالميين: “ميريل لنش”..
وأما بيروت، أميرة العواصم وسيدة الدنيا (؟!!) فمعلوم طبعاً أن رجال البر والإحسان من أتباع الأمراء وسكرتيري السادة، وفيهم سعوديون ولبنانيون ومتلبننون مجهولو مصادر المال وهم إجمالاً ممن “لا تعرف يسراهم بما تعطيه يمناهم”…
أما بيروت هذه فإن هؤلاء الخيّرين سيعيدون بناءها أجمل مما كانت وأبهى، وسيوزعون أبراجها وعماراتها ذات الواجهات الزجاجية اللماعة على “أشقائهم” في لبنان، نجاناً وطلباً لمرضاة الله عز وجل، وتكفيراً عن غيابهم أو تقصيرهم خلال الحرب – الدهر.
اطمئن يا طويل العمر:
وضع لبنان الاقتصادي، دولياً، أجمل من أن يكون حقيقة،
رصيده، سمعته، والثقة بحكومة الرئيس رفيق الحريري، كل ذلك مدعاة فخر واعتزاز، وبفضل ذلك كله ستباع السندات على الخزينة اللبنانية بالدولار، بل لعلها بيعت فعلاً بسرعة قياسية حتى إنها نفدت من الأسواق قبل إصدارها وتوزيعها (المقرر مبدئياً بتعد يومين)..
أما شكاوى اللبنانيين وتذمرهم وتأففهم فهي تندرج في خانة العادات والتقاليد العريقة والضلوع في فن “النق”،
فهؤلاء اللبنانيون، طال عمرك، طماعون وسيئو النية وحاقدون، ثم أنهم غير علميين، لا يحترمون الأرقام التي قد تهدم ما في رؤوسهم من أحلام، بل من أوهام هي بعض مخلفات الأفكار الشيوعية الهدامة البائدة.
ثم أن بين مبتكرات الفولكلور السياسي اللبناني التلويح بانفجار الغضبة الشعبية في تشرين من كل عام،
ذلك أن اللبنانيين من محبي الحياة، طال عمرك، ولذلك فهم ينفقون في الصيف كل ما يملكون على موائد الميسر وفي أوكار الملذات ودور اللهو والمطاعم الفاخرة، فإذا فاجأهم “تشرين” بهموم المدارس وأقساطها والكتب والقرطاسية والأوتوكار والكومبيوتر، ناهيك بالثياب والأحذية، استعداداً للشتاء وبرده ووحوله، جأروا بالشكوى وهمهموا بالغضب واتهموا الحكومة باستحداث التشرينين والكانونين نكاية بهم وكشفاً لعار إفلاسهم وعجزهم عن الوفاء بالتزاماتهم،
إنهم، طال عمرك، مثل ذلك الصرصار الذي أمضى الصيف فوق شجر الصنوبر، يستجم ويطلق صوته صداحاً بالغناء، فلما جاء الشتاء ذهب إلى النملة (البنك الدويل أو صناديق التنمية العربية أو نخوتكم) يطلب النجدة ويتصدّق لنفسه طامعاً بكرم “الأخوة” أو شفقة المجتمع الدولي!
بصيغة أخرى، وبعيداً عن اللغة المعتمدة في كتابة التقارير المرفوعة دورياً إلى “طويل العمر”، فإن ثمة مفارقة لافتة يعيشها اللبنانيون ويعانون من آثارها النفسية:
في الإذاعات والصحف وأجهزة التلفزيون الملكية بغالبيتها الساحقة كلام يبشر اللبنانيين بأن بلادهم قد عادت في نظر عالم الشمال، أي العالم الغني، إلى موقعها الفذ: جنة الاستثمارات والرخاء والازدهار الاقتصادي!
كل تلك الأجهزة ترهقنا يومياً بالحديث عن ثقة العالم بإجراءات حكومتنا الاقتصادية ومتانة نقدنا “الوطني”!!
هذا في الوقت الذي تتعالى صرخات الدول وأشباه الدول من حولنا مطالبة بالمساعدات أو الهبات أو القروض، فلا تجد من يسمعها فيغيثها،
لا مصر السادات، ثم حسني مبارك من بعده، أعطيت ما يمنع غائلة الجوع عن الملايين المتزايدة كل ساعة فيها، برغم “الزيارة” و”المعاهدة” والخضوع لشروط التطبيع وإذلال وزير خارجيتها بإجباره على إحناء رأسه لضحايا العسف في بلاد أخرى لا تربطنا بها أية رابطة دموية أو لغوية أو جغرافية، بينما الذكريات التاريخية معها مرة وتكاد لا تنسى بشاعتها،
ولا “بلدية” ياسر عرفات في غزة التي باع بها فلسطين، نالت ما وُعدت به، وما زال الجدال محتدماً حول رواتب شرطة حماية الاحتلال الإسرائيلي، وهل تدفعها الدول المانحة لإسرائيل وتحولها هذه بشروطها لعرفات أم ينشئ عرفات مؤسسة تلغيه فتعطى المال لكي تحقق هدفها السياسي؟!
ولا أردن الملك حسين، وبرغم العمر المديد لصداقته مع إسحق رابين، وبرغم الاتصالات التي لما تنقطع منذ هزيمة 1967، وبرغم تخليه النافر عن رفاق السلاح (سوريا ولبنان… إضافة إلى فلسطين بشعبها)، استطاع الحصول على ما يطمئنه إلى مستقبل عرشه في ظل وضع اقتصادي مأزوم،
… فلماذا هذا السخاء مع لبنان؟!
مع أن في كل من مصر والأردن وسلطة عرفات من لا يقل ثراء عن الحريري، ومن قد يتفوق عليه برصيد الثقة لدى أصحاب القرار المالي العالمي؟!
أما الوجه المحلي لتلك المفارقة اللافتة فيمكن صياغته على الشكل الآتي:
لماذا إذاً غدا اللبنانيون عموماًن بالأغنياء منهم والفقراء، أقل ثقة بمسقبلهم في بلادهم، بالمعنى الاقتصادي للكلمة، ولماذا لم يعودوا يطمئنون إلى مصير نقدهم الوطني الذي يندر الآن استخدامه خارج إطار الرواتب الحكومية؟!
أين تكمن الحقيقة: في التقارير المرفوعة إلى طويل العمر، أم في الواقع المعاش؟!
قد تشتري بعض بيوت الاستثمار وبعض قناصي الربح السريع والمضمون سندات الخزينة بالدولار،
وقد يعطي البنك الدولي قرضاً جديداً أو يزيد قليلاً من قيمة القرض الأصلي للبنان،
وقد تتزايد أرباح كبار المساهمين في شركة سوليدير، نتيجة ارتفاع قيمة السهم، المبني تسعييره على التخمين الظالم إلى حد السرقة العلنية لحقوق أصحاب الحقوق في أرض وسط بيروت وما كان عليها من عمارات وأسواق،
كل تلك مؤشرات مؤثرة، لكنها لا تساعد كثيراً في نشر الفرحة في طوابير الآباء والأمهات الذاهبين هذه الأيام، بكثير من الانكسار، لدفع أقساط أبنائهم وبناتهم في المدارس الخاصة، لأن المدارس الحكومية تتهاوى مخلية الساحة لأمراء الطوائف والمذاهب والمصالح كي يصلحوا ما أعوج من مناهج التربية والتعليم والتنشئة الوطنية،
أهي مصادفة أن تصنع تلك الأخبار المفرحة وتعمّم في هذه الأيام بالذات؟!
هذا بينما يجيء من ينقل عن “طويل العمر” قوله، وقد ضاق بأخبار لبنان:
” – ماذا يمكن أن نقدم للبنان أكثر مما قدمنا؟! لقد وفينا لبنان حقه، إن خيرنا في لبنان ظاهر، فلماذا اتهامنا بالتقصير؟!”؟.
فادفع، أيها المواطن، ضرائبك والرسوم وأقساط المدارس وما يفرضه الاستعداد للشتاء،
ادفع بالتي هي أحسن،
وادفع بأية عملة تشاء: باليورودولار، أو بالدولار الحي، أو بالفرنك السويسري، أو بالين، أو بالمارك الألماني،
واحتفظ بالليرة تعزيزاً لمتانة النقد الوطني، بينما مشروع الوطن ودولته كله في مهب الريح.

Exit mobile version