طلال سلمان

على الطريق تفاصيل بالكردي والعربي عن سياسة “رامبو” الأميركي!

من أين يمكن أن يبدأ الكلام، أو يستأنف في الوضع العربي واحتمالات تطوره وإعادة تشكيله؟!
إن التفاصيل تكاد تسد الأفق، ومع كل صباح يتراكم مزيد من التفاصيل التي تتوالد بلا انقطاع فتطمس وتغيب الموضوعات الأصلية. وهكذا يغرق كل قطر. بشعبه ودولته ونظامه، في التفاصيل التي تعنيه وتشغله فينصرف عما عداها، بل لعله يفرط ويتملص من، ويهدر من بعض “الكليات” والأساسيات استنقاذاً للتفاصيل التي قد تبدو، في لحظة ما، وقد تصور على إنها علة وجوده أو مبرر استمراره.
والتفاصيل تتوالد بقرار، وتسود حتى تغطي البصر والبصيرة بقرار، حتى إذا تم تشليع القضية أو الموضوع الأصلي أعيد إلى التداول، ولكن على شكل مجموعة جديدة من التفاصيل الإضافية.
لتنشيط الذاكرة (في ما يخص الأساسيات) ولتبسيط الأمر يمكن أن نستعرض وبسرعة ثلاثة نماذج محددة وعلى سبيل المثال وليس الحصر:
1 – العراق: لا وجود، عملياً، لبلد اسمه العراق، اليوم، والمطروح في التداول تفاصيل والمزيد من التفاصيل عن بعض مزقه وأشلائه لتساهم في طمس صورته الأصلية، وإلغاء ماضيه وحاضره، وتمهيد الجو النفسي للصورة الشوهاء لمستقبله المجهول، حتى الساعة، لكأنما العراق “تحت التأسيس” في واشنطن (ومعها لندن)، وفي انتظار نتائج العملية القيصرية الجارية لا يرى العالم من العراق إلا أكراده، ولا يرى من أكراده إلا بؤسهم وتعاستهم واحتياجهم للمأكل والمأوى، ولا يرى من المساعدات إلا ما يبعث بها أولئك الذين حاربوا العراق وهزموه مرتين: مرة بتدميره، ومرة أخرى بترك صدام حسين على عرشه المخضب بالدم في بغداد.
إلى ما قبل شهر تقريباً كانت التفاصيل العراقية “شيعية” جنوبية يمكن مدها استطراداً لتدخل إيران طرفاً ولو من موقع المتواطئ على وحدة التراب العراقي أو الوحدة الوطنية للشعب العراقي.
وبدا وكأن المطلوب تعويض صدام حسين عن هزيمته النكراء أمام الأجنبي “بنصر” على بعض شعبه، وتحديداً على فئة معينة من شعبه، بحيث يمكن الإفادة من هذا النصر “المذهبي” لتعويم نظام صدام حسين، وطمأنة المحيط المتخوف من تمدد النفوذ الإيراني المموه بشعارات إسلامية جامعة تؤكد “شيعيته” بدلاَ من أن تنفيها أو تخفف منها.
أما اليوم وعبر الاستغلال القذر لماساة الأكراد العراقيين فإن واشنطن تطمح إلى ما هو أبعد أثراً وأخطر من الظهور بصورة المنقذ أو المخلص، بدلاً من صورة المحتل ومدمر القرى والجسور والمدارس والملاجئ. إنها تقدم نفسها ليس فقط كضامن للوحدة الوطنية داخل العراق، وبالتالي لكيانه السياسي، وإنما كذلك كضامن للكيانات السياسية المجاورة، وبالتالي للوحدة الوطنية في كل من إيران وتركيا وسائر الأقطار العربية المجاورة.
أي إن واشنطن ومن موقع “منظم” الحرب الأهلية في العراق، تمد يدها بعرض مشروعها للنظام الأمني الجديد في منطقة الشرق الأوسط، فمن قبل كان أمنا، ومن عصا تم تأديبه بتفجير حروب أهلية لا تنتهي بين العناصر والأديان والمذاهب، في هذه المنطقة التي شكلتها تحولات هائلة هي – عملياً – مادة التاريخ على اختلاف العصور وحتى اليوم.
فوراء التفاصيل والصور الإنسانية للجهد الأميركي الخارق في إنقاذ الأكراد العراقيين البؤساء، تتجلى تدريجياً صورة “فلسطينيين” جدد في “كردستان الطبيعية” التي تمتد عميقاً داخل كل من تركيا وإيران وإلى بعض الشمال السوري، إضافة إلى العراق نفسه.
وعبر التفاصيل والمزيد من التفاصيل عن إنسانية جيش الاحتلال الأميركي الذي ينتقل الآن، وبلا حرب من جنون العراق إلى شماله، يتم دمغ “العرب” العراقيين (الضحايا) بملامح “إسرائيلية” في حين يضفى على الأكراد العراقيين (الضحايا) سمات “فلسطينية”.
لم تعد مطروحة الآن مسؤولية صدام حسين ونظامه عما أصاب العراق والعراقيين، عرباً وأكراداً وتركماناً وحثيين وآشوريين وكلداناً الخ، من بلاء عظيم ومن دمار خطير ذهب بحاضرهم ومستقبلهم،
ولم يعد العرب، بأي حال، بين المعنيين بمستقبل العراق والعراقيين، أو بمستقبل أقطارهم ذاتها التي لا بد أن تتأثر بما يدبر للعراق،
بل أطلقت يد السيد الأميركي، الذي خلع زي “الكاوبوي” مضيفاً إلى صورته الجديدة المفضلة “رامبو” زي الصليب الأحمر الدولي وتحول إلى “وكالة غوث” للأقليات وفي طليعتهم الأكراد!
لكأنما “يستكرد” الأميركيون العرب والعالم، كما يقال في التعبير الدارج الذي يتخذ منه المتشددون الأكراد دليلاً على عنصرية العرب إزاءهم.
2 – الصراع العربي – الإسرائيلي ، وبالتحديد الموضوع الفلسطيني، باعتباره لب هذا الصراع: أفادت الإدارة الأميركية إلى أقصى حد من الخطأ السياسي الشنيع الذي ارتكبته قيادة منظمة التحرير حين “تحالفت” مع صدام حسين عشية غزوته المجنونة في الكويت، وها هي تثمر هذا الخطأ، اليوم، لشطب قضية فلسطين ذاتها وليس فقط منظمة التحرير أو قيادتها ومعها انتفاضة الحجارة في الداخل، من جدول اهتماماتها السياسية.
وما كانت الإدارة الأميركية لتقدم على مثل هذا الأمر الخطير لولا التشجيع الذي لقيته من بعض الأنظمة العربية، والذي يريد – هو الآخر – استغلال خطأ القيادة الفلسطينية لشطب القضية الفلسطينية ذاتها.
في أي حال فها هي سياسة الاغراق بالتفاصيل تحمل النجدة لطالبها: يدار جدل منظم حول المؤتمر الدولي ينتهي بمؤتمر إقليمي ترى فيه إسرائيل مجرد لقاء إقليمي وتحدد مهمته بالمساعدة على تنظيم اتفاقات بينها وبين الدول العربية المعنية حول المياه وإنهاء حالة العداء والحد من أسلحة الدمار الشامل في المنطقة (وهي تعني الصواريخ السورية أساساً)..
وعلى هامش الإعداد أو الاستعداد للمؤتمر يزور بطريرك الأرثوذكس في الاتحاد السوفياتي القدس المحتلة، لأول مرة منذ إقامة الكيان الصهيونين ويلتقي رئيس الوزراء السوفياتي “نظيره” الإسرائيلي في لندن، وتحسم مسألة إعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين (التي لم يمنع انقطاعها إسرائيل من استقدام حوالي مائة ألف يهودي من الاتحاد السوفياتي ليكونوا سكان المستوطنات الجديدة على أرض فلسطين)..
وفي الوقت ذاته يثار غبار كثيف عن خلاف أميركي – إسرائيل على بناء مزيد من المستوطنات في الأرض المحتلة، بحيث يبدو غداً التوقف عن بنائها وكأنه “نصر” أميركي، وعربي بالتالي، يخدم قضية “التسوية” في المنطقة.
على صعيد آخر، ولمزيد من التفاصيل، يعرض إسحاق شامير على رئيس وزراء لوكسمبورغ أن تحضر أوروبا المؤتمر الإقليمي ولكن كمراقب وليس كطرف، فيرفض الأوروبيون، ويثور غبار جديد قد ينجلي “بنصر” عربي آخر من الطبيعة ذاتها!
وتتعدد زيارات وزير الخارجية الأميركي إلى المنطقة من دون أن يعلن عن هدف واضح لها. فهو لا يكاد يغادر حتى يعود. وبين كل زيارتين تتزايد الشروط الإسرائيلية ويتفاقم تصلب شامير، ويترك للشهامة العربية أن تعين الحليف الأكبر في “صراعه” ضد المتطرفين في الدولة العبرية حتى لا تضيع فرصة السلام المرتجى!!
3 – الموضوع الثالث هو الكويت وما يجري فيها مما لم يخرج بصورته الكاملة للعلن حتى الآن… فلماذا يتعذر تأليف حكومة في دولة بهذا الصغر، تكلف تحريرها “حرباً عالمية” إذا ما استذكرنا القوى المشاركة فيها؟!
إن واشنطن التي تقدم نفسها في العراق وسمؤلة عن العناصر والأديان والفئات المختلفة، وفي الوقت نفسه غير معنية بمستقبل النظام، تتصرف في الكويت وكأنها المعنية أولاً وأخيراً بمستقبل النظام وإعادة صياغته بما يناسب مطامح الفئات المختلفة التي يتكون منها “الشعب” الكويتي،
وواشنطن التي تلغي الكيان السياسي (المفترض) للفلسطينيين، على أرض فلسطين، تقدم نفسها في الكويت وكأنها حامية “الفلسطينيين” وضامنة حياتهم ومستقبل وجودهم على الأرض المحروقة للإمارة الغنية.
ولكل صورة من صور واشنطن آلاف التفاصيل… ومع كل نشرة أخبار تستمع إلى المزيد منها، ولكنك قد تخسر – مع وقتك – الصورة الأصلية لقضيتك الأصلية.
تفاصيل إضافية!
** قبل ثلاثة شهور فقط كانت واشنطن تقدم العراق للعالم بوصفه “أربع قوة عسكرية في العالم”. فجيشه يصل بعديده إلى المليون، ومدافعه العملاقة لا نظير لها ولا مثيل، وصواريخه تطال أبعد نقطة في أقصى أرجاء الأرض.
اليوم، يتقدم العراق رسمياً إلى “لجنة العقوبات” في مجلس الأمن الدولي طالباً السماح له ببيع كميات من نفطه تصل قيمتها إلى مليار دولار، من أجل شراء مواد غذائية من الخارج بينها: القمح، الأرز، الجبن والألبان… وكذلك مساحيق الغسيل وشفرات الحلاقة!
بلد لا ينتج شفرات الحلاقة، بفضل نظامه العظيم، كان يهدد الحضارة الجديدة والتقدم الإنساني، فتصور!!
** واضح التأثير البريطاني على القرار الأميركي في الحرب على العراق، وفي التصور لمستقبل المنطقة.
أبرز مجال لهذا التأثير هو اللعب بمسألة الأقليات. فمن الصعب على بلد يتشكل أصلاً من مجموعات من الأقليات كالولايات المتحدة أن يفكر باستثمار مثل هذا العنصر المتفجر لولا توفر “خبير” عريق في مثل خبث الإنكليز.
وأول الغيث البريطاني قطر ثم ينهمر..
*لقد أعادنا صدام حسين خمسين أو ربما مئة سنة إلى الوراء.
المشكلة: كيف تلغي الذاكرة، وكيف تصغر نفسك بنفسك لتنسجم مع الواقع الجديد، وماذا تقتطع من تاريخك (الشخصي) بحيث لا تتجاوز المساحة المحددة لك اليوم؟!
ثم… إنك لا تستطيع أن تعود إلى الماضي إذا ما غادرته، مرة… فكيف إذا ما غادرت الحاضر أو هجرت منه يمكنك أن تحلم بمكان في المستقبل؟!
*هناك موضوع “عربي” وحيد مطروح الآن على العالم وسياسته هو : الأكراد!!
*العامل السياسي الوحيد الذي يربط بين العرب، في هذه الفترة، ويعيد طرح مسائلهم ، بالجملة وكقضية كانت واحدة، هو مجيء جيمس بيكر إلى المنطقة وأصداء مباحثاته فيها..
*كم هو ساذج إلى حد البله ذلك العربي الذي يفترض إن إسرائيل قد خرجت خاسرة من معركة انتصر فيها الأميركيون على العرب!!
*برر إعطاء صواريخ “باتريوت” الأميركية للإسرائيليين بأنه سلاح دفاعي زودت به إسرائيل لتحمي به نفسها من “الخارج” العربي…
أما سياسة الاستيطان الإسرائيلية فهي السلاح الهجومي ضد الداخل الفلسطيني وضد “الخارج” العربي، معاً،
وصواريخ باتريوت الأميركية تحمي الآن، وبالتحديد ، هذه السياسة الإسرائيلية الثابتة..
رسالة شخصية
للموت ملامح أليفة تشبه أو هي مقتبسة من ملامح الأحبة الذين تفترض إنه قد اختطفهم منك.
للموت، اليوم، ملامح “أبي طلال”، وقد غامت حتى أمحت الصورة المنفرة التقليدية للموت وتماهت مع طيف الغائب الحبيب، مؤكدة تلك الحقيقة الراسخة عن العلاقة الأبدية بين الحياة وبين الموت، وهي علاقة تكامل وليست علاقة نفي.
وبين ما يؤنسن الموت ويكسر حدة عدائيته إنه يمد – عبر المصاب – جسراً من الود والتعاطف بينك وبين الناس، أهلك، فإذا بآلاف من الأصدقاء والزملاء والأخوة يحيطون بك، ويغمرونك بعاطفتهم النبيلة، متجاوزين المسافات والمراتب والسياسات والمواقف، فيعوضونك بعض شعورك بالخسارة ويعمقون من ارتباطك بالحياة، برغم انتشار رائحة الموت في مداك.
ولقد أعطانا الناس الكثير الكثير فشكراً لهم جميعاً.
شكراً للأهل والأصدقاء والناس الطيبين في البقاع وكل لبنان ثم على امتداد دنيا العرب.
وشكراً للمسؤولين من رسميين وروحيين وقيادات سياسية وحزبية ونقابية واجتماعية.
وشكراً، بصفة خاصة، لرئيس الجمهورية، رئيس مجلس النواب، رئيس مجلس الوزراء، في لبنان، وكذلك للقيادة السورية، ولقيادة ثورة الفاتح في الجماهيرية العربية الليبية، ولكل من شاركنا فواسانا من المسؤولين العرب، في المشرق والمغرب وفي الكنانة مصر.
والحمد لله على قدر الله،
مع رجاء اعتبار هذه الكلمة رسالة شخصية بالامتنان والتقدير.

Exit mobile version