طلال سلمان

على الطريق تعريب اللبننة!

كانت الكويت، في سابق العصر والأوان، تطمح لأن تكون “لبنان الجزيرة والخليج”، مع امتيازين: الثروة القدرية غير المحدودة، وشعب قليل عديده بحيث لا يصل إلى عشر اللبنانيين، وهم أصلاً قلة.
أما العراق فكان حكامه يطمحون، تاريخياً، لأن يجعلوه “بروسيا العرب” حتى جاء صدام حسين فقرر جعله القطب الأعظم الآخر في الكون، ومن هذا الموقع توجه إلى “الأخ الأصغر” لبنان يطمئن أهله “الخائفين” بأنهم سيجدون ما ينقصهم من ضمانات الطمأنينة فيه.
ولقد رددها، في العهد الصدامي، أكثر من مسؤول عراقي أبرزهم طارق عزيز: “اعطوا الخائفين كل ما يطلبون ولا تخافوا من النتائج، لا مشكلة إن العراق يتقدم نحو قيادة الأمة، بكل الجدارة التي تخوله إياها إمكاناته الهائلة”!.
اليوم، يبدو وكأن الكويت تمشي في طريق محفوف بالمخاطر، بسبب من قصر نظر أسرتها الحاكمة وتعنتها، مما قد يقودها إلى حرب أهلية، خصوصاً مع انتشار السلاح على نطاق واسع بحيث لا يخلو بيت كويتي من بعض الرشاشات الثقيلة وما هو أثقل (وهو بمعظمه عراقي!!)،
… في حين يبدو عراق صدام حسين وكأنه “يتلبنن” بالمعنى الرديء للكلمة، فيقبس من لبنان الحرب الأهلية أساليب تسكين مؤقت لأمراض مزمنة لم تثبت جدواها هنا، محولاً بذلك المشكلات إلى أزمات خانقة وضاغطة، والتمايز الداخلي الطبيعي إلى انقسام حاد له تشعباته الدينية والمذهبية والعرقية، ثم إنه مفتوح على التيارات والقوى الإقليمية والدولية بحيث يصعب حصر آثاره المدمرة بأية تسوية سياسية جزئية بين أهل النظام وبعض معارضيه…
لكأن النظامين العراقي والكويتي يتنافسان أيهما الأكثر غربة عن حقائق الحياة ومنطق العصر…
وماذا يهم بعد ذلك أن تبقى قوات التدخل العسكري الأميركي أو ترحل، فالاحتياج إلى الأجنبي قائم ودائم في ظل نظامين مقصرين وقاصرين “يكافحان” للبقاء فوق الأرض المحروقة كائناً ما كان الثمن الذي سيدفعه – بعد – الشعب في القطرين الشقيقين – العدوين؟
وبقدر ما يبدو العناق بين صدام حسين وبين الزعيم الكردي جلال الطالباني نافراً وخارجاً على السياق وقاصراً عن تشكيل قاعدة لحل جدي لمشكلة العلاقة بين النظام وبين الأكراد في العراق، يبدو الإصرار على تجاهل المعارضة السياسية القومية في الكويت وتجاهل مطالبها (التي ضغطت حتى لا تمس الأسرة الحاكمة) وكأنه نسف للقاعدة التي كان يمكن أن تستقر عليها العلاقة بين “الأمير” الحاكم وبين الكويتيين المحكومين!
لكأن كلا من النظامين يؤسس لحرب أهلية مديدة قد لا تبدأ معه وتنتهي معه، ولكنها في أي حال تشكل دعوة للأجنبي لكي يبقى في الأرض العربية حتى تنفد ثرواتها وتذهب قيمتها ويرجع أهلها إلى ما كانوا عليه قبل طفرة النفط وبطره المهول.
وليس مما يسعد اللبنانيين أن يروا “مرضهم” ينتقل بعدوى قصور الحاكمين وتخلف النظام إلى أقطار عربية أخرى، في حين تتيسر لهم فرصة تاريخية للخروج من أتون حربهم الأهلية.
فهم كانوا يتصورون ويتمنون أن تكون نهاية حربهم انتصاراً قومياً عظيماً، تسجل عبره أمتهم أهليتها للحياة وجدارتها بالعصر… خصوصاً وإن الحل جاءهم مجلبباً بالعباءة العربية،
ومع إن التخلي يغري بالشماتة، فإن العاقل من اللبنانيين يبادر إلى المساهمة في إطفاء نيران الحرب الأهلية حيثما نشبت أو أشعلت، تخوفاً على حلم سلامه الوطني من أن يجهض وهو لما يتحقق..
وبالتأكيد فإن اللبنانيين يتخوفون على سلامهم العتيد هذا من أخطاء الممارسة في تطبيق الحل المرسوم، تحت ضغط الإلحاح الأميركي لطي الملف اللبناني بأسرع ما يمكن وبأي شكل كان.
في هذا السياق تبرز بعض الظواهر المقلقة وأخطرها ما يتصل بالاقتراحات المطروحة لحل مشكلة الميليشيات، والتي قد تنقلب إلى ما يشبه “تلغيم” الحل الأصلي وتفخيخ “الجمهورية الثانية” بحيث تكون أو تظل قابلة للانفجار في أي وقت، فيهجرها ناسها وأصحاب المصلحة أو أصحاب القدرة على بنائها “وطناً نهائياً” كما يرغب التغييريون الذين تغيروا بمرور الأيام!.
ومع التسليم بحق المنتمين إلى الميليشيات في أن يحظوا بالرعاية فمن الضروري وضع بعض الضوابط ومنها:
*ليست الميليشيات قوافل من الأشرار والقتلة، ولكنها ليست بالتأكيد طوابير من الملائكة والقديسين.
وفي أي حال فليس الانتماء إلى الميليشيا ولا يجوز أن يكون امتيازاً لفئة محدودة من المواطنين على مجموع الشعب.
وإذا كانت البراءة أو الحياد أو كراهية السلاح أو نبذ العنف أو اجتناب الطائفية أو محاولة تنزيه القضية والنضال من أجلها عن جرائم أبسطها القتل على الهوية والتهجير والتعامل مع العدو (في بعض الحالات)، لا تشكل شهادة حسن سلوك للمواطن، فإن نقيض ذلك كله لا يعطي حقاً مقدساً لحامل السلاح (بالمطلق).
*قد يكون مفهوماً ومنطقياً مطالبة المجتمع بأن يعالج بعض مواطنيه، بوصفهم مرضى بحرب فرضت على الجميع وخاضها الجميع، كل من موقعه وبأسلوبه، ولكن أن يطوب هؤلاء “أطباء” معالجين وأن يقدموا على المجتمع كله فهذا أمر غير مقبول بأي حال.
*يجب التصدي لأية محاولة تستهدف تشويه المجتمع المدني أو “عسكرته” فالمطلوب بعث المجتمع المدني والإفادة من قيمه لحل مشكلات عسكر الحرب الأهلية وليس العكس.
*مع التنبه إلى أن الميليشيات هي الآفات التي التهمت الأحزاب السياسية ودمرتها، فإن “مكافأتها” ليست هي السبيل السوي لعودة الروح إلى الحياة السياسية والعمل الشعبي، وإعادة الاعتبار للصراع الديموقراطي.
*ومع التنبه إلى أن الميليشيات قد تحصنت بالطائفية ثم توسلتها سبيلاً إلى جني الامتيازات ونهب مقدرات الدولة، وتحولت عبر عمليات الاغتصاب المنظم للحقوق والموارد إلى “مافيات” صادرت الدورة الاقتصادية الطبيعية للبلاد وورثت الاحتكاريين القدامى (وكانوا قلة قليلة وبإمكانات محدودة)، فلا بد – أولاً – من حماية الدولة من اجتياح هذه الميليشيات لها بوصف كل منها “الممثل الشرعي الوحيد” للطائفة أو المذهب، ولا بد – ثانياً – من فك ارتباط علني بين الميليشيا وبين “المافيا” التي تتحصن بدورها بالطائفية فتعطي للاحتكار قداسة الدين، مضيفة على الاحتكاريين سمات القديسين!
لقد “تعلم” العرب ما يكفي من الدروس عبر تجربة لبنان المرة،
ولن ينفعهم في حل مشكلاتهم وأزماتهم الخطيرة التي تواجههم اليوم في أكثر من قطر، أن يمدهم لبنان بنماذج رديئة لا تنفعهم في تجنب الحرب الأهلية، بل هي قد تغري بعض فئاتهم بالتورط فيها.
فالمسلح الكويتي الذي ينظرإلى الميليشياوي اللبناني (أو الفلسطيني) وكأنه مثله المتقدم، سيغريه نجاح هذا الميليشياوي في أن يكون “بطل الحرب” و”بطل السلام” في آن!!
والانفصالي العراقي، من موقع الحكم أو من موقع المعارض، سيغريه النموذج اللبناني في مكافأة الخاطئ، كائنة ما كانت خطورة جرمه السياسي، خصوصاً إذا ما رأه يتصدر قيادة الحل الوطني مع كل امتيازات الثروة ومنافع الاحتكار!
وبديهي أن يسبق الحرص على النفس ، وعلى المستقبل في لبنان، الحرص على مستقبل سائر العرب في أقطارهم،
وإذا كان العرب لم ينجحوا كفاية في تقنين الحل للأزمة في لبنان، فليس من حق اللبنانيين أن يفسدوا ما تم وأن يعيدوا تصدير الحلول الفاسدة إلى المحيط العربي،
فتجربة لبنانية واحدة تكفي،
تكفي اللبنانيين وسائر العرب… ومعهم الأكراد وبقية الأقليات!

Exit mobile version