طلال سلمان

على الطريق تضامنوا عبر لبنان لتبقوا!

وفي العرب بموجبات الشكل التضامني مع لبنان، وبقي أن يوفوا بمستلزمات المضمون، وهي ثقيلة في السياسة أولاً ثم على الصعد الأخرى الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية… الخ.
فمن التلبية الفورية في عقد الاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب، إلى تلبية الدعوة لاجتماع طارئ للمجالس النيابية العربية، استعاد “العرب” الحد الأدنى من الشكل التضامني الذي يصلح كنقطة بداية لمبادرات جدية سواء على المستوى الدولي، أم على مستوى الدعم المادي المباشر لصمود لبنانز
ولا مجال لاختراق ما نجحت إسرائيل في تحقيقه دولياً، ودائماً تحت الرعاية الأميركية، من صمت بلغ حدود التواطؤ معها في عدوانها، إلا بتحرك عربي جدي ورصين لا يعد بأكثر مما يقدر ولا يحاول أن يغطي بالكلمات الكبيرة الضعف بل التهاتف في الموقف العملي.
إن ريح الموت التي تعصف بلبنان تفرض حداً أدنى من التيقظ العربي إلى بعض الحقائق البسيطة والجارحة، ومنها:
1 – إن العرب قد ألغوا الكثير من أهميتهم وقدرتهم على التأثير عندما لم يحاولوا استعادة تضامنهم، ولو بالحد الأدنى، بعد الكارثة التي تسببت بها المغامرة الحمقاء بغزو الكويت.
2 – إن العرب قد فقدوا ما تبقى من قيمتهم عندما توهموا إنهم “حلفاء” للولايات المتحدة، في حين إنها بالكاد منحتهم “مرتبة” الاتباع، ففوضوا إليها جميع أمرهم مفترضين أنهم بذلك قد يستميلونها فتخفف من انحيازها إلى إسرائيل مقتربة من التوازن في موقفها من مجريات الصراع العربي – الإسرائيلي.
3 – إن العرب قد أسقطوا أنفسهم أمام العدو الإسرائيلي عندما تبرعوا له بتنازلات مجانية كان يفترض أنها ستقتضي منه ومن شريكه الأميركي جهوداً مضنية، وربما حروباً، ليس أقلها المشاركة في المفاوضات المتعددة ولن يكون آخرها إسقاط المقاطعة العربية للمتعاملين مع إسرائيل من قبل ومن دون أن ينالوا أي مقابل أو حتى أي وعد بالمقابل.
لقد اعطى معظم العرب “العدو” أكثر مما أعطوا أنفسهم.
بل لعلهم أعطوه بأكثر مما يستبقيهم في موقع المفاوض، فزادوا من قوته أضعافاً وكادوا يلغون أنفسهم فاستحال التفاوض.
4 – إن أي خطأ في فهم أو في إساءة تقدير ما وقع للبنان قد يضاعف حجم الكارثة ويمد آثارها المدمرة إلى المستقبل العربي برمته.
فليست إيران (أو نفوذها في لبنان) هي الهدف الفعلي لاجتياح التدمير والتهجير الذي يشنه العدو الإسرائيلي.
وبالتأكيد فليس “حزب الله” هو الهدف بذاته.
ومن نافلة القول إن هذا الاجتياح الأقسى من حرب لا يستهدف منطقة محددة من لبنان، أو طائفة معينة فيه، حتى لو “سمحت” المصادفات الجغرافية (أو الغرض) بالانسياق وراء مثل هذه الخرافات.
إن عروبة لبنان هي الهدف، وليس التأثير الإيراني فيه.
إن دولة لبنان (وهي دائماً قيد التأسيس)، والسلام الأهلي في لبنان، ومحاولات التقدم على طريق استعادة لبنان دوره في خدمة أمته العربية… إن ذلك كله أهداف جدية للاجتياح الإسرائيلي. إذ أنه بتحقيقها يكون قد أصاب العرب جميعاً فيسهل عليه إخضاعهم لشروطه التي عجز حتى الآن عن فرضها عبر تلك المفاوضات العاقر الجارية تحت الرعاية الأميركية في واشنطن.
وحين يعطي الإسرائيلي اجتياحه تسمية “تصفية الحساب” فهو يقصد تماماً أنه يريد “التشطيب” على مرحلة كاملة من الصراع العربي – الإسرائيلي، وطي صفحة كاملة من النضال العربي لبناء مستقبل أفضل.
فالإسرائيلي يعرف أن العروبة في لبنان هي الأقوى وهي الأفعل، وإن ما عداها من دعوات التغريب أو التهجين بالغاً ما بلغ من التمدد والنفوذ يظل في خانة “الطارئ” و”العابر”.
بل إن للإسرائيلي من تجربته الخاصة في لبنان مع اجتياح 1982 وبعده ما يؤكد له أن اللبنانيين قد يداهنون “الغازي”، وقد يدارون مصادر النفوذ الخارجي عليهم فيتحاشون التصادم المباشر معها، ولكنهم لا يبدلون جلودهم ولا يتنكرون لانتمائهم… حتى إذا جاءت ساعة الحقيقة بذلوا دماءهم رخيصة.
لقد أزالوا الآثار السياسية لاجتياحه، قبل أحد عشر عاماً، بسرعة قياسية، ثم واجهوا قوات احتلاله باللحم الحي في حين كان يفترض أنه قد استمالهم أو نجح في اختراق نسيجهم الاجتماعي بما “يحيدهم” أو “يقربهم” منه بالاتكاء على “الأحقاد المختزنة” على الممارسات الفلسطينية الخاطئة والتي أذتهم في رزقهم وفي كرامتهم، وكذلك على حنقهم وخيبة أملهم في مناصرة أخوانهم العرب لهم في محنتهم.
ولا شك بأن اللبنانيين يعتزون بأنهم قاتلوا طويلاً نيابة عن الأمة العربية جميعاً وباسمها وإنقاذاً لشرفها، وهم وإن افتقدوا نجدة النصير ودعم الأخ الشقيق، فإنهم أعقل من أن يخرجوا على عروبتهم بفعل النكاية، وأكرم من أن يستسلموا للإسرائيلي يأساً من أنفسهم ومن الأمة كلها.
فلا يخطئن أحد في فهم طبيعة الاجتياح وأهدافه: إنه اجتياح للأمة العربية عبر لبنان، وإيران ليست إلا هدفاً جانبياً “حشر” في جملة الأهداف طالما إنها حرب “تصفية حسابات”.
ثم إنه اجتياح للمستقبل العربي كله وليس للحاضر اللبناني،
وبعد هذا الاجتياح، ومع الخلل الفاضح في ميزان القوى، ومع الانحياز الأميركي الأعمى للعدو الإسرائيلي، فلن تكون “مفاوضات” تلك التي ستستانف غداً في واشنطن، بل ستغدو أقرب إلى فرض اتفاق إذعان على العرب مجتمعين، يفتح أرضهم وباطنها وسماءهم وأسواقهم وعقولهم للمشروع الأمبراطوري الإسرائيلي المموه بالسلام الأميركي!
ويستطيع العرب، حتى هذه الساعة، إنقاذ بعض ماء وجههم إذا هم تصرفوا بمنطق التضامن العفوي في وجه الخطر المستهدف الجميع،
إنهم يقدرون، ويجب أن يقدروا، على “انتزاع” بعض الحياد الأميركي، من خلال تحميل الأميركيين صراحة مسؤولية ما جرى للبنان وما يدبر لهم عبره،
وعليهم أن يخوضوها حرباً حقيقية في واشنطن كما في مختلف العواصم الأوروبية، إضافة إلى مراكز القرارخارج أوروبا (الصين، اليابان، الهند، الدول الإسلامية، دول أميركا اللاتينية وأفريقيا الخ) إضافة إلى تلك المنظمة المسيح: الأمم المتحدة ومجلس أمنها الشهير.
إنها حربهم جميعاً، حرب وجودهم وحرب مستقبلهم.
والجنوب عنوان المستقبل العربي، كما تريده وتجتهد لصنعه إسرائيل.
وإلا… فسيكون من حق إسرائيل أن تهنئ نفسها على هذا “النصر الكامل” والذي لم يكلفها غير ثمن قذائف الموت التي طاردت بها دفق الحياة في لبنان، بجنوبه وبقاعه وضواحي عاصمتيه بيروت – الأميرة وطرابلس – الشمال.
لقد حمل العرب السلاح مع الإميركي لردع عدوان حاكم أرعن ومهووس بالسلطة، وهو منهم، فقاتلوا أشقاءهم، فهل أقل من أن يطلب هؤلاء من هذا الأميركي أن يمنع عنهم عدوان “حليفه” و”شريكه الاستراتيجي” الإسرائيلي؟!
ألا يستحق العرب شيئاً من “المجاملة” الأميركية بعد كل ما بذلوا وأعطوا وتحملوا من أعباء “الصداقة الأميركية”؟!
ولسنا نطلب إنقاذ لبنان بدافع الأخوة،
بل إننا بدافع الأخوة نطالب العرب بإنقاذ أنفسهم، وفي ذلك إنقاذ لبنان أو ما تبقى منه.
فنأمل خيراً،
والإصرار على الأمل هنا هو عض بالنواجذ على عروبة لبنان التي تركزت عليها الغارات الإسرائيلية لأنها هي الهدف الحقيقي لهذا الاجتياح، كما لكل اجتياح سابق.

Exit mobile version