طلال سلمان

على الطريق ترنيمة للمحاصرين بمدافع “عماد” الطوائف جميعاً

تنطلق القذيفة عاتية مزمجرة مدمدمة بالحقد، تخترق حلمك المخبأ بعناية في ملجأ وجدانك، تتهاوى صورة الغد الموعود بصمت، وترف أجنحة الليل فتغطي بسوادها الزمان والمكان وأدوات المكتب وأثاث البيت والوجوه المبتسمة للأحبة الذين كانوا يسكنون حلمك المحترق.
تنطلق القذيفة. تعرف بانطلاقها عند وصولها. تتحقق من انطلاقها عندما تتحقق من سقوطها. أنت حي، بعد، ترى وتسمع وتحس، إذن فقد أخطأ الرامي هدفه وخسر قذيفة أخرى وكسبت يوماً جديداً، أو بعض يوم، أو ذلك الفاصل الزمني بين قذيفتين، بين الاطمئنان إلى سلامة السمع مرتين… هو العمر كله محتشد في ذلك الفاصل. هي الحياة جميعاً مكثفة في ذلك التجويف المتعرج المبطن بقطيفة من زغب.
تنطلق القذيفة. تعرفل بوصولها عند انفجار اللوعة نحيباً مكتوماً خشية أن يسمع الرامي فيسدد الطلقة الثانية القاضية. تنحطم تحويشة العمر، وتنتثر نتفها غباراً كثيفاً يطمر وهو يتهاوى تاريخك الشخصي، تعبك، عرقك، القروش المدخرة والسلف التي لم تسدد بعد، وخناقات صغيرة مع زوجتك استولدها اعتراضك على اللون أو النوع أو الشكل أو كل ذلك معاًز
تتوالى القذائف فتمتد النار من الخاص إلى العام. لست وحدك الهدف بل الناس جميعاً. ليس بيتك الهدف بل بيوت أصدقائك. رفاقك ، خلانك، زملاء العمل وأصحاب الوجوه الأليفة التي يتشكل منها الحي وتمنحك فيه الموقع والمكانة والألفة وحق الرعاية.
تتوالى القذائف فتنتشر باتساع حدود المدينة…
تطل المدينة شبحاً هائلاً متعدد الرؤوس والأطراف عبر ألسنة النار،
تصير المدينة وحشاً خرافياً استشعر الخطر فهب يدفعه عن ذاته وعن أهله ، في اتجاه البحر.
تتوحد المدينة بالبحر. ينهض البحر حارساً . يلبس البحر خوذة الاطفائي ويطلق شلالات مطره على نار الحقد حتى تخمد أنفاسها السوداء.
تتوالى القذائف وقد تحددت أهدافها بدقة: اسمك، أسماء أبنائك، أحلامك، أمانيهم، صور شهاداتهم، بطاقاتهم الجامعية، كتبهم المدرسية، القواميس وكراسات الورد التي تتكثف فيها تجارب الحب الأولى، اعترافات ساذجة وهمسات حرى ومحاولات ماكرة لتمويه الأسماء الساحرة التي باتت “مقدسة”.
حجم القذيفة يحدده حضورك، أما العدد فيحدده تقديرهم لخطرك…
… وأنت حاضر مهما اجتهدت في تغييب نفسك. ألست رقماً إضافياً؟!
… وأنت خطر مهما تمسكنت، فأنت إنما تتمسكن حتى تتمكن!! وجودك بذاته هو الخطر، فكيف تريدهم أن يقتنعوا بأنك غير موجود وأنت موجود؟!
محاصر بالنار والتفاهة، أنت، محاصرة مدينتك، محاصرة أحلامك، ومهدد غدك بالتدمير والنسف والاغتيال الصريح.
لا الماضي يعنيك ولا تريده أن يعود،
ولست صاحب القرار في يومك المصادر بقوة السلاح،
ولا أنت بقادر على استنقاذ غدك من براثن غيلان الطوائف.
ضحية في الماضي، ضحية في الحاضر، وضحية في المستقبل ستكون،
في الماضي كنت “أقل” مما يجب. اليوم أنت “أكثر” مما يجب، أما الغد فضائع بين “الأقل” و”الأكثر”، بين الخوف من خطر حضورك والذعر من خطر غيابك.
ممنوع من أن تكون إنساناً سوياً، أنت.
ممنوع من التفكير المنطقي.
ممنوع من الحلم، فحلمك مؤامرة على الكيان، على النظام، على الطائفة العظمى وسائر الطوائف بما فيها طائفتك… ومؤامرة، قبل وبعد، على “الضابط الصغير”،
محاصر بالمؤسسات الطائفية والمذهبية، أنت ، وممنوع من أن تكون مؤسسة اسمها المواطن له حقوقه وعليه الواجبات الطبيعية لبني آدم القرن العشرين.
ومفروض عليك أن تحيا بالصراع وللصراع، وممنوع من النصر، عليك أن تصارع فحسب، تصارع لتؤكد إنسانيتك مع وعيك بأن نتائج الصراع ستلغيها وتلغيك.
لن تكون بين المنتصرين باسم حقوق الطوائف، فحقك خارجها.
ولن تكون بين المنتصرين باسم المذاهب، فهي نقيض حقك وسبب طمسه.
ولكنك ستعتبر في عداد المهزومين إذا ما انتصر تماسك الطائفة العظمى على تفكك الطوائف الأخرى واشنغالها بالصراع على تعديل الحصص المنتهبة خلال فترة فقدان السيطرة وضعف الهيمنة على الأطراف.
تعزي النفس بنسبة هزيمتك إلى هزيمة فكرة الوطن، فكيف يكون منتصراً المهزوم وطنه والمندحرة قضيته والمثخنة أمته بجراح العجز والاستسلام؟!
لكنك عدة النصر ولست موضوعه فقط، فمن يعوضك؟!
محاصر بالنار والتفاهة وتجار الحروب ودكاكين الطوائف،
محاصرة مدينتك بعد، من الخارج ومن الداخل،
لا الغزو الإسرائيلي قد انتهى، ولا حصاره قد رفع، ولا النبت الشيطاني الذي بذر حبه في أرضك قد زال أو أزيل، بل هو ما زال يفرخ ويطرح ثماره المسمومة،
ومعالم المرحلة جميعاً تحمل البصمة الإسرائيلية في أساسياتها والتفاصيل.
كيف تكون حرب أهلية ولا تكون الجرثومة الإسرائيلية نطفتها ومصدر النار والحطب؟!
إذا قلت “إسرائيل” قلت “الطائفية”، وإذا قلت “الطائفية” قلت “الحرب الأهلية”، والعكس صحيح. هي حلقة جهنمية مغلقة فلا تهم نقطة البداية.
… وأنت الضحية الدائمة للحروب جميعاً، وأنت الدافع الوحيد للضرائب المتصاعدة والمتزايدة قيمتها بتزايد الجباة،
تدفع للغازي وتدفع للمتنطح لمقاومة الغزو تحت أية راية إلا راية الأمة والوطن…
وتظل في وحدتك المقاوم الوحيد،
فالمقاومة هي صمودك، هي بقاؤك حيث أنت، هي مواصلتك حياتك على أرضك، هي قدرتك على الابتسام والعمل، هي البقاء في البيت المحطوم الزجاج والمغطاة نوافذه – الفجوات بالنايلون والبلاستيك والبطانيات القديمة،
أنت المقاوم الوحيد، والمؤدي الوحيد لثمن صمود الوطن. تدفع للميليشيا وتدفع ربحاً إضافياً للتاجر. تدفع سيارتك للصوص وتدفع خوة لحاميهم وتعود فتشتريها منهم.
بل إنك تدفع لميليشيات طائفتك ولميليشيات الطوائف “المضادة”.
فهم “شركاء” على ظهر صمودك،
وهم “صامدون” بتمويلك الشخصي المسحوب من رصيد قدرتك على الصمود والاستمرار.
محاصر بالنار والتفاهة والخراب، محاصرة مدينتك الأميرة المتشحة بالسواد وغلالة الموت،
بيوتها مبقورة الجنبات، شجرها مكوي بالنار كمن عذب في زنزانة الطاغية، فنادقها الفارغة محطمة الواجهات مهشمة الأسماء والتاريخ، نواديها مسرح للعنكبوت ومقبرة للصمت ومستشفياتها أهداف حية لمدفعية الطوائف واعتداءات الميليشيات اليومية.
عائشة بكار، تعيش أنت. دار الفتوى تعتمد شعار: من قال لا أدري فقد أفتى! رمل الظريف نثر رمله ونتفاً من عماراته على الزيدانية، و”الصنائع” العثمانية صارت جبانة لكتب القانون ومشاريع الرسائل الجامعية، والإذاعة عمود أخرس من الاسمنت المحروق و”الشحار”،
… و”فردان” ذاكرة لنصر الآخرين عليك، وجامعة بيروت العربية ذاكرة لانهزام فكرة الثورة والتغيير أمام همجية قاع المدينة، والطريق الجديدة اكتسبت المزيد من العلامات الفارقة في عماراتها التي كانت مهاجع “المجاورين” من طلبة العلم الوافدين من أربع رياح الأرض العربية إلى مدينة العلم العربية..
من قال إن ميشال عون قد جاء من الفراغ؟!
أبداً، هو ابن شرعي لعصر الهزيمة العربية، لعصر الضياع الوطني العام.
بقدر ما كان بشير ثم أمين الجميل ابنين شرعيين لمؤسسة الهزيمة والغزو الإسرائيلي وطغيان التعصب الطائفي على العقل والوطنية والفكر القومي،
… فإن ميشال عون هو الطفل المدلل لعصر الميليشيات الطائفية التي قضت على البقية الباقية من الأمل بغد أفضل.
إنه ابن الدولة الشوهاء، دولة الهيمنة الشرعية للطائفة العظمى على مقاليد الحكم،
فباسمه وبتعصبه وبانتمائه العضوي للمؤسسة الطائفية التي حولت الأحزاب السياسية إلى عصابات مسلحة تقتل وتنهب وتنتهك الحرمات جميعاً، وصل ميشال عون إلى حيث هو اليوم.
… ولسوف يصل غيره ممن يحملون ملامحه ذاتها وصفاته ذاتها، طالما استمر هذا النظام الفريد،
ليس ميشال عون أكفأ الضباط (عسكرية) ولا هو أرقاهم ثقافة وعلماً،
ولكنه دخل الحربية باسمه، ونال ترقياته بقوة الحق المقدس لطائفته العظمى، ثم رفع استثنائياً وجعل عماداً لجيش دولة الطائفة بقوة تعصبه الطائفي وباستعداده (الثابت) للقتال ضد شعبه من أجل حماية امتيازاتها،
ألم يقل أمين الجميل، ابن بيار الجميل، القائد والمؤسس لحزب الكتائب، في مؤتمر لوزان: إنه لا يستطيع أن يعين غير ميشال عون قائداً للجيش لأن ميليشيات الطائفة العظمى لا تقبل غيره من حزب الطائفة العظمى ومن رئاسة دولة الطائفة العظمى، فهو الضمانة العسكرية للضمانات الشاملة التي تحظى بها الطائفة العظمى كامتيازات نالتها، على حساب الوطن وشعبه، في عصر القهر الاستعماري.
ميشال عون هو ابن شرعي للكيانية، التي كانت مرضاً لبنانياً وها هي تستشري في جسد الأمة بين المحيط والخليج كما السرطان الخبيث.
وميشال عون هو ابن شرعي للنظام الذي اصطنع اصطناعاً ليستوعب النفوذ الأجنبي وليحميه من خلال تسليمه بالضمانات والتمييز بين اللبنانيين على أساس من علاقتهم التاريخية – عبر طوائفهم ومؤسساتهم الطائفية – بمراكز النفوذ الأجنبي،
وميشال عون هو ابن شرعي للتخلي القومي عن لبنان، وتركه ساحة وحيدة مفتوحة للصراع العربي – الإسرائيلي بكل تداعياته المنطقية في عصر هزيمة عربية شبه شاملة.
وإذا كان هذا التخلي قد ترك آثاره المدمرة على سياق النضال الوطني الفلسطيني. إذ دفعه إلى الكيانية وأخرجه من المجرى القومي الشامل لنضال الأمة، بحيث صار “القرار الوطني المستقل” بديلاً عن الالتزام القومي بواجب التحرير ومقاتلة العدو والغاصب والمحتل.
… فمن باب أولى أن يعطي التعصب الطائفي المعزز بالكيانية والمستقوي على الأمة بعجزها عن مواجهة عدوها القومي، ثماراً مسمومة مثل ميشال عون،
وميشال عون هو ابن مؤسسات التعصب في الطوائف جميعاً،
إنه ابن التعصب الماروني لامتيازات الموارنة بقدر ما هو ابن التعصب السني لحقوق السنة، بقدر ما هو ابن التعصب الشيعي لتعديل حقوق المحرومين الشيعة، وهو ابن التعصب الدرزي لاستعادة المغتصب من حقوق الطائفة الدرزية التي كانت لها السيادة على المرابعين الموارنة ثم دارت بها الأيام فإذا هي مجرد وزير في بلاطهم الملكي الفخم!
ميشال عون هو “قائد” في معسكر المتعصبين جميعاً،
يهتف له المتعصبون من موارنة كسروان ويشفق عليه المتعصبون لسنيتهم في أحياء بيروت، ويعطف عليه المتعصبون لشيعيتهم في بعض الضاحية ومنابع سكانها الوافدين، ولا يشتد عليه المتعصبون لدرزيتهم طالما كانوا بعيدين عن خط المواجهة بالنار معه.
فهذا الجيش الذي أنبت ميشال عون هو جيش الطائفة العظمى ولكنه يحظى بعطف الطوائف جميعاً.
أفليس الجيش إحدى أهم المؤسسات الطائفية في البلاد؟!
كيف يكون ضده، إذنن الطائفيون؟!
الغبن؟ الظلم؟! الأحجاف اللاحق بالطوائف الأخرى؟!
هذه هنات هينات، المهم أن تبقى المؤسسة، فالمؤسسات الطائفية يشد بعضها بعضاً كالبنيان المرصوص،
… وإذا ما تهاوت مؤسسة طائفية عظمى كالجيش فلا بد أن تتهاوى سائر المؤسسات الطائفية، الضعيفة منها والقوية.
حتى الميليشيات الطائفية تتضرر من اندثار الجيش كمؤسسة.
إن زواله يزيل أهم مبررات وجودها.
ثم إن الطائفية مصدر امتياز، حيثما وجدت،
فالمتعصب السني له امتياز على سائر السنة لأنه “جابي” الحقوق أو المطالب بالحقوق أو حامي الحقوق السنية!
والمتعصب الشيعي له امتياز على سائر الشيعة لأنه “يحصل” ما ضاع من حقوق الطائفة بسبب من تهاون سابقيه من القيادات غير المتعصبة للطائفة الخ…
ميشال عون هو ابن شرعي لهؤلاء جميعاً،
وهم لا يقاتلونه إلا بذلك القدر الذي يؤكد صلة القربى بينهم وبينه،
ولن يفرطوا به إلا متى اطمأنوا إنه سيكون الضحية الوحيدة بشخصه،
أما إذا اشتبهوا بأن الخسارة ستنقلب على الطائفة العظمى برمتها فلسوف يقفون إلى جانبها ويحمون “ضماناتها” موضع الشكوى،
فإذا ما سقطت سقطوا، وإذا ما ضعفت ضعفوا، وإذا ما ضربت مؤسسة التعصب في داخلها تهاوت مؤسساتها،
والحل؟1
أن يتفاهموا على التضحية بميشال عون حماية للطائفة العظمى والطوائف الشقيقة!!
محاصر بالتفاهة والموت والدمار ومؤسسات التعصب،
محاصر في مدينة محاصرة بالقهر الإسرائيلي والتخلي القومي والضياع الوطني العام،
محاصر في مدينة محاصرة في وطن عظيم شلته الهزيمة واستشرت فيه أمراضها الخبيثة،
لكنك تقاوم ولا تستسلم.
فالمقاومة مبرر للحياة، أما الاستسلام فليس له اسم آخر إلا الموت، بطيئاً كان أم سريعاً تحمله إليك قذائف “الضابط الصغير”!
… والحياة، الأحلام، الوطن، الأمة، الأحبة المنتظرون أن تستنقذ لهم بعض مستقبلهم، كل ذلك يستحق مزيداً من الصمود.
تصمد في وجه الكل؟!
ذلك سبب للفخر. تلك ظاهرة صحة ودليل عافية وإثبات لا يدحض على حقك في غد أفضل.
ليس ذلك سبباً للخوف.
هم جميعاً يتكتلون ضدك لأنك ، أيها المحاصر المنهوب رغيفه، أقوى منهم حتى حين يجتمعون.
فأنت أنت الأمة: سيفها ومعقد الرجاء، صوتها وأغنيتها والقصيدة،
التفت من حولك: الدنيا ربيع،
ومثلما انتصر الربيع، وبقوته فيك ستنتصر!

Exit mobile version