طلال سلمان

على الطريق ترحيباً بالكويت العائدة إلى العروبة

سيسجل اللبنانيون للشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح، الذي يستقبولنه اليوم بالترحاب، إنه أول رئيس عربي يزورهم، ولو لساعات، فيسمع منهم مباشرة بدل أن يسمع عنهم، ويرى بعينه بعض آثار محنتهم القاسية ونتائجها بدل أن يرى بعين الغريب صاحب الغرض، أو “القريب” الهارب من مسؤوليته حيال ذوي الأرحام.
وسيسجل اللبنانيون، أيضاً، لأمير الكويت أنه جاءهم عن طريق دمشق بالتحديد، وهي التي عاشت معهم – بقيادتها وأهلها – همومهم الثقيلة، فنجدتهم حين عز المنجد، وعملت للتوفيق بينهم حين كثر المنتفعون بالفتنة، وساعدتهم على التصدي للنتائج السياسية الخطيرة للاجتياح الإسرائيلي في العام 1982 في حين تخلى عنهم بعض أخوتهم بل وتورط بعض هذا البعض فزين لهم اتفاق 17 أيار سنة 1983 السيء الذكروحاول غوايتهم بقبول صلح إذعان منفرد مع العدو القومي على حساب الأمة جميعاً، وهم منها وفيها بلا جدال.
ومؤكد أن اللبنانيين مهتمون بزيارة الأمير أكثر من اهتمامهم بالمساعدة الكويتية العتيدة، على أهميتها… ذلك إنهم عانوا طويلاً من قسوة تخلي الأهل عنهم، وافتقدوا أخوتهم الكثر في زمن الشدة وقد كانوا يحتاجونها لاسباب سياسية ومعنوية أساساً وليس بسبب ضيق ذات اليد.
فزيارة الأمير تعني، أول ما تعنيه، بداية خروج الكويت من أسار المرارة التي انعكست خلال السنوات الثلاث الماضية ابتعاداً عن العرب وتنصلاً من العروبة، حتى لقد تمنى بعض الكويتيين لو إنهم يستطيعون نقل بلادهم، بآبار النفط فيها، إلى أية بقعة أخرى في الكون، ويا حبذا لو كانت إلى جوار الولايات المتحدة الأميركية أو داخلها وبهويتها وبعلمها – التعويذة الطاردة للشر والأشرار.
ثم إن هذه الزيارة تتضمن معنى اعتذارياً عما صدر من مواقف موتورة أو متشنجة حملت الضحايا مسؤولية الجلاد إذ ألقت جريمة صدام حسين على من تجرعوا الهزيمة القومية الشاملة التي انتهت بها مغامرته الحمقاء في غزو الكويت.
ولقد آلمت تلك المواقف العرب جميعاً، وفي الطليعة منهم من تصدى بصدره أو بفكره أو بعمله، لصدام حسين وأوهامه، خصوصاً وإنها لم تقتصر على كتابات أو استكتابات بعض الذي ظلوا في خدمة “بطل القادسية” حتى وصوله إلى مكاتبهم في الكويت، طلباً للمزيد من الدنانير التي كان يغدقها عليهم تقديراً لحماستهم لحربه الأولى ضد إيران، أو توسلاً لنفوذه للوصول إلى السلطة في الكويت أو في أنحاء أخرى من الخليج.
ثمة من هو في موقع المسؤولية في “الكويت المحررة”
وثمة من ينتسب إلى الأسرة الحاكمة،
وثمة من ينطق باسم مراكز قوى مؤثرة،
وقد صدر عن هؤلاء، وأكثر من مرة، مواقف وأقوال لا يمكن أن تكون معبرة عن تاريخ الكويتيين أو عن انتمائهم العربي الصرف، أو حتى عن مصالحهم الفعلية، وهي حيوية جداً ومؤثرة جداً ويتعدى تأثيرها بالقطع حدود الإمارة الصغيرة.
إن اللبنانيين، وقد تجرعوا المآسي على امتداد دهر الحرب الأهلية (العربية) بأطوارها المتعددة، هم أكثر من يقدرون مشاعرالخذلان والخيبة التي استولدها في النفس الكويتية “غدر الشقيق”، لكنهم لا يرتضون لأخوتهم في الكويت أن يستمروا في تحميل الأمة جريمة حاكم فرد مهووس بالسلطة، وهو قد أذى شعبه العراقي بأكثر مما أذى الكويتيين،
… ثم إن هذا الحاكم الفرد المهووس بالسلطة كان، ولسنوات طويلة، المقرب والمفضل وذا الحظوة لدى أهل النفوذ في الجزيرة والخليج عموماً، بوصفه “حارس البوابة الشرقية” والمتصدي “للمجوس” و”الفرس” و”الشعوبية”،
بالمليارات، وعشرات المليارات، عززت “قومية” ذلك الحاكم الفرد، على امتداد سنوات طويلة، حتى إذا جاء وقت الحساب النهائي صارت “العروبة” هي المسؤولية وتمت إدانة الضحايا من العرب، عراقيين وغير عراقيين، فأعدموا مرة ثانية!… واتخذت المليارات ومئات المليارات طريقها هذه المرة إلى “بطل التحرير” الجديد، أي الأميركي، الذي كان أعظم محرض لصدام حسين على غزو الكويت، تماماً كما كان من قبل أعظم محرض له على شن الحرب على إيران الثورة الإسلامية ومنع التلاقي التاريخي بين الأمتين اللتين تشتركان في إنجاز الكثير من الصفحات الحضارية المجيدة؟!
أهلاً وسهلاً بالشيخ جابر الأحمد في “وطنه الثاني” لبنان،
هكذا تقول لافتات الترحيب بأمير الكويت الذي يعرف الكثير من اللبنانيين، والكثير عن لبنان، والذي كانت له يد في قيام بعض المؤسسات وفي تعزيز أخرى، وكان “لبنانياً” في بعض أفكاره حول وظيفة الكويت العربية ودور نظامها الذي حقق – ولفترات – نجاحاً ملحوظاً كداعية توفيق وساع بالخير بين أخوانه.
واللبنانيون يرحبون بهذه الزيارة باعتبارها إعلان عودة إلى ما هو طبيعي بل بديهي، وانتهاء للمرحلة الاستثنائية الحرجة التي كان لبنان فيها على “القائمة السوداء”، وكان بين ما يؤخذ على أهل الحكم فيه (وقد كانوا أهل معارضة) قولهم بالعلاقات المميزة مع سوريا.
إن للكويت منزلة خاصة في نفوس اللبنانيين، فبين كل خمسة مواطنين هناك لبناني على الأقل عاش ردحاً من عمره في الكويت، وبذل بعضاً من عرق جبينه وساعديه أو بعضاً من فكره وعلمه في بناء تلك الواحة التي كانت سباقة في ارتياد آفاق الديموقراطية في ذلك الجزء من الوطن العربي الذي أخرجته الحقبات الاستعمارية الطويلة والتخلف المفروض بالقهر من ذاكرة الدنيا حتى تفجر فيه النفط فإذا هو مركز اهتمام الكون، ولكن بثروته وليس بأهله.
وبين اللبنانيين من يرى أن يجب أن يرى في عودة الكويت، بأميرها وأهلها، إلى لبنان خطوة في الاتجاه الصحيح، أي عودة إلى العرب بعد اغتراب قسري عنهم فرضته ظروف قاهرة قادت الكثير من العرب إلى مواقع الخطأ.
فتجربة لبنان القاسية علمته أن الأجنبي لا يهتم إلا لمصالحه، وإنه لا يجيء إلا لتأمينها، ولا يهتم كثيراً بأشخاص من يسند إليهم “الوكالة” في تأمينها… وقديماً، أي في 14 تموز من العام 1958، وقف السفير البريطاني في بغداد يتفرج على الدبابات البريطانية الصنع وهي “تسحل” الصديق الأوفى لبريطانيا في العراق وسائر الأرض العربية نوري السعيد.
وتجربة لبنان القاسية علمته أن العدو القومي يبقى عدواً حتى بعد “الصلح المنفرد”،
فإذا كان الإسرائيلي ما يزال يتصرف مع المصريين ممن كبلتهم معاهدة كامب ديفيد كأعداء، فإنه لم يتردد كثيراً هنا، في بيروت كما في الجبل وأنحاء أخرى من لبنان، من التضحية ببعض “أصدقائه” الأعزاء، عندما صار موتهم هو بالتحديد الخدمة التي يريدها منهم.
لهذا فإن بين ما يؤلم اللبنانيين أن يرى أخوته الكويتيين يسارعون إلى إسقاط المقاطعة العربية للمتعاملين مع إسرائيل، بينما هو – مع أشقائه السوريين والفلسطينيين والأردنيين – في غمار “حرب” المفاوضات معها، وكان بين أسلحته المدخرة للحظات الحرجة المقاطعة: فلا يتم التنازل عنها إلا بمقابل مجز، خصوصاً وإنها ورقة ضغط على الغرب عموماً وليس فقط على الإسرائيليين ، ثم إنها سلاح دفاعي وليست سلاحاً هجومياً.
كذلك فإن بين ما يؤلم اللبنانيين أن يسمعوا من مسؤولين كويتيين جاءوا إلى بيروت باسم التضامن العربي وتحت رايته ما يجعل من التضامن جريمة، فيرفضون التوقيع على وثيقة برلمانية تدعو إلى تعزيزه بل استعادته إذ أنه “غائب” أو “مغيب” برغم اشتداد الحاجة إليه في مواجهة نيران الاجتياح الإسرائيلي.
وأخيراً فإن بين ما يؤلم اللبنانيين أن ينسى بعض المسؤولين الكويتيين ما كانوا تعهدوا به، على أكثر من صعيد، رسمي وأهلي، وأن يتذرعوا بكلمة نقد هنا أو بصرخة توجع هناك لمعاقبتهم جميعاً،
ولقد تميز حكام الكويت، بوجه الإجمال، بسعة صدر كانت موضع تقدير من العرب المحرومين بأكثريتهم الساحقة من ممارسة حقوقهم في نقد حكامهم أو في الاعتراض على “مغامراتهم” أو “نزواتهم” أو “غزواتهم” كالتي قادت صدام حسين إلى الكويت وقادت الأمة إلى الكارثة.
لكن هذه الميزة كادت تختفي في الفترة الأخيرة مع غير الكويتيين، بل ومع أصناف معينة من الكويتيين ممن أساءوا ويسيئون إلى صورة الكويت عربياً، ودولياً، ويشوهون تاريخها ودورها ويلغونها معنوياً وسياسياً إذ يجعلونها مجرد محمية أميركية بلا قرار إلا ما يقوله المعتمد الأميركي فيها.
وليست قوة هذا التيار الانفصالي والكياني الذي ينكر وجود الأمة العربية ويزور حقيقة الكويت فيجعلها “أمة تامة” خطراً على الكويت أو العرب عموماً، ولكنها مصدر خطر على النظام الكويتي أساساً، إذ يزيف له هويته ويخرجه عن طبيعته فيفقده مبرر وجوده، فليس ذلك النظام مجرد “ناطور” لبئر النفط الذاهب خيره إلى الغريب، ولا يجوز أن يكون،
وليس النظام الكويتي وكيلاً للأجنبي ومصالحه، بل هو ممثل لشعبه ومصالحه، يستمد منه مشروعيته وهي مصدر قوته، أما بوارج الأجنبي وأساطيله فهي للأجنبي بداية وانتهاء.
مرة أخرى، أهلاً وسهلاً بأمير الكويت،
ونتمنى أن يتقبل هذا الكلام الذي تمليه مشاعر الأخوة والحرص على الكويت، ودورها المفتقد في دنيا العرب،
فالكويت تكون بعروبتها، أو تفتقد مبرر الوجود، لأن النفط ليس هوية ولن يكون.

Exit mobile version