طلال سلمان

على الطريق تراصفوا فكرة فكرة

تراصفوا قلماً قلماً، رأياً رأياً، ريشة ريشة، فكرة فكرة، عدسة عدسة، رجلاً رجلاً، امرأة امرأة، نقابة نقابة، مهنة مهنة، مؤسسة مؤسسة: هل أبهى من ائتلاف الآراء بالاختلاف، وهل أجمل من إشراف الفكرة بالصح في مواجهة الغلط، وهل أقوى من تشابك أيدي المثقفين في عشقهم للأرض والمتداخلة أحلامهم في الصحو كما في الغفوة الهانئة؟!
تراصفوا شعباً واحداً بمصير واحد في وطن واحد يجمعهم الإيمان باله واحد، الآن وعلى الدوام وإلى دهر الداهرين آمين!
لا “الشرقية” رأي، ولا “الغربية” رأي: بيروت هي الرأي والراية، هي القلم والعلم، هي الريشة واللوحة، هي الصورة والموضوع، هي البيت والأسرة، هي العاصم والعاصمة، هي الترس والحصن الحصين.
وليست هي مسألة اختلاف في الرأي بين صيدا وبين صور، أو بين كفرملكي وكفرحتى، أو بين جرجوع وبين جباع، أو بين تبنين ومرجعيون وبين النبطية وبنت جبيل ومعها رميش وعين ابل، ودبل وابل السقي،
الجنوب هو الراية والقضية، وهو السيف المنتظر الزند العفية.
وليس للشمال رأي مختلف عن رأي البقاع. وكلاهما منسي إلا في الفتنة وباسمها، وما التضامن الكاذب إلا محاولة لتوسيع دائرة النار وتعميم الحريق.
ولا الجبل برأيين ورأسين وفكرين وحضارتين: حضارة الحارة التحتا وحضارة الحارة الفوقا وما بينهما جنرال تمدين الكوين!
لبنان هو الأنا والأنت والنحن والهم. لبنان هو المختلف باتفاق، والمتفق أهله على اختلاف الرأي، فالوطن ليس وجهة نظر، والأرض أغلى من أن تكون ردة زجل أو بضاعة مطروحة في المزاد العلني.
لبنان هو الحبر والمحبرة، هو الكلمة والجريدة، هو المطبعة والكتاب، هو الشاعر والقصيدة، هو اللحن والمغني، هو عطر الورد وشوكه، هو المترجم والترجمة، هو – على ما يحب المتحذلقون – الشرق والغرب،
لكن أرضه هي الهوى والهوية، وأمته هي الوالدة والحاضنة والراعية ولو اشتط بعض أهله فتطرف في حب “الله” حتى كفر!
ولبنان رقيق المشاعر والبنية بحيث لا يحتمل الدكتاتور ولا هو يتحمله. ولهذا فقد تحول الجنرال إلى ثور هائج في بيت من زجاج، كيفما تحرك يحطم مقوماته فيجرحه نثار الزجاج المحطوم فيزداد هياجاً وتعنف حركته في “حماية” ما تبقى، حتى ليكاد يسقط الهيكل بأهله وعليهم، وحتى لا يتبقى من العماد إلا “الروح والدم” والأصابع المنفرجة بإشارة النصر اليتيم!
تراصفوا بآرائكم جميعاً، بخلافاتكم في الاجتهاد، بتناقضاتكم في التحليل والاستنتاج، بطوائفكم ومذاهبكم والمعتقدات جميعاً، باليمين واليسار والوسط، بالتقليد والتجديد والمقلد والمجدد،
ذلك هو مجد لبنان، يقول الميثاقيون.
ذلك هو سر لبنان ومبرر وجوده، يقول المثقفون،
فلبنان هو “الكل”، إن صار “البعض” اقتتل مع “البعض الآخر”، وإن صار “الواحد الأحد” تفجر بالحرب إلى حد الاندثار.
ومشكلة ميشال عون إنه الرجل الخطأ الآتي في الزمان الخطأ إلى المكان الخطأ… لقد تخلف عن أسلافه الطغاة خمسين عاماً أو يزيد، وجاء إلى البلد الذي يلغيه الطاغية الفرد، وتصدعه الهيمنة، ويقزمه القهر ويلغي دوره التزمت أو التطرف أو افتقاد الجذر والملامح واللسان.
تشاوشيسكو يهديك السلام، يا جنرال، ويستعجلك اللقاء!
تحت المطر مشت مسيرة الحرية،
وبالمطر اغتسلت مدينة الحرية وقاهرة الطغاة التقسيميين والانفصاليين، أميرة الحزن العربية، وكلمة الغد الأفضل: بيروت.
ولقد أكدت وحدتها مستحضرة الذين فرض عليهم الغياب، بالخطف أو بالارهاب أو بالخوف على الأهل وفلذات الكبد.
فبيروت القضية، بيروت الوحدة، بيروت الحرية، بيروت الوطن واحدة لا تتجزأ وغير قابلة للانقسام والتقسيم.
وبيروت القضية – الوطن – الوحدة وحلم السلام أقوى من ميليشيات الطوائف وأقوى من عسكر الطوائف، وقد هزمتها جميعاً منفردة ومتحالفة ومجتمعة.
ولسوف تهزم بيروت، باسم الوطن وقوته، آخر عسكري لآخر ميليشيا طائفية في لبنان، الحامل تشوهاتها جميعاً والمعاق بخيباتها جميعاً.
لقد سقط الوهم بأنه نقيضها أو خصمها أو بديلها.
إنه حصيلة أخطائها وخطاياها جميعاً، وحصيلة أخطاء من استولدها ووفر لها شهادة الميلاد.
إنه بطل أبطال الحرب الأهلية، يختزل ملامحهم جميعاً، هو سهم بالسلطة، قسوتهم على المواطن والوطن، ضعفهم تجاه المال وتجبرهم على صاحب الرأي والمؤمن بالبديهيات والثوابت وعشاق الورد والفراشات والأحلام ونجمة الصبح الجنوبية.
تحسس مسدسك يا جنرال، فهم يتكلمون. وعن الحرية!!
اشهر سيفك يا فارس الهزيمة والحرب الأهلية فهم يرفعون صوتهم بالغناء، وبينهم من ينفخ في شبابته مواويل الهوى والشباب والأمل المنشود… إنهم يغنون للآتي بعدك، للآتي رغم أنفك، للآتي بقوة لا تنفع في صدها الدبابات والمدافع و”الجعالة” الشهرية السخية!
على إنها ليست معركة ضد ميشال عون وحده، ولا يجوز أن تكون،
فميشال عون لم يكون في أي يوم وحده. كان له الداعم والسند والمؤيد والموجه والموظف والموفر الحماية والرعاية “الكريمة”.
إنها معركة ضد “العونيين” جميعاً. ضد دعاة الحرب الأهلية والعاملين لإدامتها، حيثما كانوا. ضد الطغاة والدكتاتورية والعسف والقمع بشتى أصنافه وتسمياته “الديموقراطية”.
إنها معركة وطنية بقدر ما هي معركة قومية.
إنها معركة إعادة الاعتبار للكلمة، للصحافة، للحرية، ولكل مؤمن بالكلمة وكل عاشق للحرية.
إنها معركة الغد الأفضل في لبنان كما في كل قطر عربي.
وهي “مقدمة” ضرورية لمعركة السلام الوطني في كل أرض عربية.

Exit mobile version