طلال سلمان

على الطريق تداعيات… من يبروت إلى ناميبيا عبر فلسطين!

سحبتنا دوامة العنف والانكسار إلى قاع الحزن ورماد العبثية وعدم المبالاة فلم نعد نعرف كيف نفرح وانطفأ الشوق إلى الحياة وتلاشت ارتعاشة الحماسة بعدما استنفدناها خلال ركضنا وراء الأحلام التي لا تتحقق، فاكتفينا باليومي والعادي والتافه طالما ظل مقروناً بالسلامة!
صارت السلامة أهم من الحياة.
صارت الكهرباء أهم من المستقبل،
صار الغاز أهم من اكتمال السنة الجامعية لفلذات الأكباد الذين هم اليوم الأفضل والغد الأفضل وعنوان “الوطن” ومهجع الغوالي من الأمنيات.
لم يتبق وقت للحب، لإشراقة الوجه بابتسامة اللهفة في لقاء المصادفة، لانبثاق القصيدة نهراً من شجن اللوعة أو قنديلاً من زهر اللوز في موسم التجدد والخصب،
لم تعد الصحيفةن الإذاعة، المجلة، الكتاب حضن العين ومهماز التفكر والتامل،
تجمعت الأخبار في خبر واحد إن لم تسمعه لم تسمع غيره، وتصاغرت الدنيا الفسيحة حتى صارت بلداً واحداً، بل مدينة واحدة، بل نصف مدينة، بل قرية شطرت نصفين بخط تماس مع الموت.
ماذا يعنيك من أمر الانتفاضة؟
شحبت الذاكرة حتى سقط منها ما كان يعطي للحياة معناها،
وتراكمت المتاعب والهموم وأكوام التعاسة حتى لم يتبق للمبادئ والقيم والمثل العليا من مكان لا فوق كتفيك المثقلين ولا في وجدانك المجهد.
كم قتيلاً اليوم؟!
قتيل واحد وبضعة جرحى؟! فليكن الخبر بحكم النعي،
خمسة قتلى وبضعة عشر جريحاً؟! زد في المساحة، إذن، بدافع الخجل، ثم بحكم الاضطرار، إذ ليس بين الأخبار ما هو أهم؟
انفصل اخلبر عن القضية،
انفصل الشهيد – في الذهن – عن دمه، عن أرضه، عن الوطن والأمة،
إن لم تكن فلسطين هي الوعاء، كونها الرباط المقدس، يذهب الدم هدراً ويكاد الشهيد يقضي ملوماً أو مداناً أو في أقل تقدير مجرد ضحية لحادث عنف لا تبرره السياسة الصغيرة خصوصاً وغن أصحابها لا يستطيعون أن يكبروا به.
فبعد خبر المصادمات وسقوط الشهداء يجيء خبر التنازلات وسقوط المعنى: “أكدت الإدارة الأميركية التزام منظمة التحرير بنبذ الارهاب”!
أين يذهب الشهيد؟! أي أرض للثورة يسقي، واية ورود ستنبت في فضاء “المناورة” البلاد حدود ولا ضوابط؟!
ماذا يعنيك من أمر ناميبيا واستقلالها؟!
أين تقع ناميبيا؟! هل هي على محور الصالومي أم على محور الشالوحي؟ وكم تبعد عن الضاحية وإقليم التفاح؟!
في أفريقيا؟! ما لنا وما لأفريقيا؟! هذا ما جنيناه من اهتمامنا بالآخرين؟! تفضل فدلنا على دولة واحدة، جهة واحدة، تهتم بما جرى ويجري لنا!! لقد تحمسنا للجميع، تظاهرنا للجميع، لكاسترو، لغيفارا، للومومبا، لنكروما، لسيكوتوري، لكل صعاليك الدنيا… دمرنا بلدنا من أجلهم، وها هم اليوم بين شامت أو متجاهل أو غير معني، بل لعلهم يقولون في سرهم عنا: تستاهلون ما أصابكم وأكثر!
صارت صفحات مجدنا وفخارنا عبئاً على أيامنا البائسة، وصار شرفنا ومصدر الرصيد الذي تكون لبيروت ولبنان بين العرب وفي العالم سبة أو وصمة عار نداريها أو نحاول إزالتها من فوق جبيننا ومن تاريخنا لكي يرجع مزوراً كله ومبنياً على الكذبة ومصلحة الأجنبي!
لسنا في فلسطين، ولسنا منها،
لسنا في ديار العرب ولسنا منها،
لسنا في دنيا الكفاح والنضال ولا نريد أن نتذكر أيامنا فيها، ولا خاصة أن نستعيدها أو حتى أن نستبقيها بصورتها الأصلية في وجدان أطفالنا.
لكأننا نتقصد أن نشوه كل جميل فينا لنبرر تسليمنا بما نحن فيه واستسلامنا سلفاً للآتي، والآتي أعظم!
ننفي تاريخنا ونرهن مستقبلنا مقابل يوم رخيص في حاضر تافه حدوده العجز عن قمع تمرد عسكري والفشل في مواجهة أزمة سياسية والقصور في علاج اختناق تمويني.
ويتحكم فينا الوهم: إننا إن نحن ألغينا أنفسنا نكون!!
ونكاد نعمم هذا المنطق ونقبله من أخوتنا وأهل رحمنا: إن ألغى الفلسطينيون فلسطينهم نكون لهم “الدولة”، وإن ألغى المصريون مصرهم تكون لهم الإرادة الحرة وتعود إليهم الجامعة العربية ولو جثة لم تجد لها مثوى أخيراً في تونس الخضراء، التي ثارت لكرامتها حين عوملت وكأنها مجرد “محلل” بالعامية المصرية أو “مجحس” – باللهجة اللبنانية – ويعادلها “النياس” بالعامية التونسية،
مسكينة الجامعة: لقد قضت وهي في زهرة شبابها، خمس وأربعون سنة إلا قليلاًز
سقط من الذاكرة سهواً إنها خرجت من مقرها لأنها كانت قد ماتت قبل ذلك بزمن طويل.. من يوم بطلت أن تكون “جامعة” و”عربية”ز
لقد صارت الذاكرة كالغربال، لا تحفظ شيئاً فوق سطحها ولا تختزن بين خيطانها العنكبوتية إلا “الممنوعات” وما يقع تحت طائلة القانون وسيئي الظنون!
.. ولو إن ذلك كله يبدل حالنا السيء إلى أحسن منه ويوصلنا إلى الحد الأدنى من احتياجاتنا اليومية البائسة لقلنا:لا حول ولا قوة إلا بالله،
لو إن الهرب من المواجهة ينفي احتمالها،
لو إن التنصل من تبعات المسؤولية يسقطها عن الكاهل المنهك،
لو إن إنكار الهوية والخروج من القضية يفتحان باب الحل أمام الأزمة المستعصية،
لو إن التسليم بالتقسيم، أو بالتوطين، بالتمرد المسلح أو بالانفصال المسلح،
لو إن ذلك كله، ومعه الترحيب بحمامة السلام شيمون بيريز (؟!) بديلاً عن السفاح إسحق شامير، يقربنا من “الأمان”،
لو إن التضحية بفلسطين تنقذ لبنان، أو التضحية بلبنان تنقذ فلسطين، أو التضحية بكليهما تنقذ مصر وتحمي سلامة أقطار المشرق والمغرب بما فيها خزانات النفط العربي التي تقرر لها – في النهاية – مصيرنا.
لو إن ذلك كله ينفع أياً منا لقلنا: لا بأس، بعضكم يضحي من أجل البعض الآخر، فإذا انتعش بعض الأمة انعطف فساعد البعض الآخر على النهوض وتعاون الجميع على اصطناع الغد الأفضل.
لكن الغد الأفضل مثل لبنان وفلسطين ومصر وسائر الدنيا العربية، قضية قومية: لا يكون لبعضنا من دون البعض الآخر، ولا، يختلسه بعضنا على حساب البعض الآخر.
هي تداعيات فقط استولدتها الرغبة في رفع الرأس خارج المستنقع الذي نكاد نفطس – بالطائفية والانكسار وذل الهزيمة ومضغ رماد التفاهمة – في مقره المنتن!
إنها محاولة لفتح ثغرة يدخل منها بعض الهواء النقي،
إنها محاولة لتنشيط الذاكرة حتى لا ينسى أحدنا من هو، اسمه ، عنوانه، لون بشرته والوشم الحامل رسم أحلامه على تجويفة الصدر والخافق المعذب فيها!

Exit mobile version