طلال سلمان

على الطريق تحية السنة التاسعة في انتظار الضفاف الأخرى

اشتاقت إلى السلاح الزنود، اشتقالت الصدور الفرح، اشتاقت الشوارع هدير البحار البشرية، اشتاقت إلى الهتاف، الحناجر واشتاقت الأقلام كلمة لم تبتذلها المناسبات الصدئة ولقاءات التطابق في وجهات النظر (؟!).
اشتقنا إلى جملة مفيدة، إلى فكرة، إلى طلقة، في زمن الثرثرة وبيانات تبرير الاستكانة للهزيمة، وعبر جثث القتلى وصور الأحياء كدنا نفتقد الشهيد والشجاع إلى حد الحفاظ على حلمه العادي.
لكن الأرض صدقت. كالعادة، وعدها فإذا الربيع يهل بشارة بإمكان التغيير، بل وحتمية التغيير، حين يقرر الناس – بسطاء الناس – أن يغيروا وها إن حفنات من الرجال والنساء والأطفال العزل (إلا من إيمانهم) يخلخلون أسس الكيان الصهيوني الذي صوره لنا غياب إرادة القتال وكأنه قوة أعظم لا تقهر ولا تخطئ ولا تشرق علينا الشمس إلا بإذن من جبارها القهار مناحم بيغن!
ومع الربيع لنا في “السفير” موعد حميم وصلة رحم، فها نحن قد أكملنا سنة أخرى لنطل على سنتنا التاسعة برغم العتمة والبرد والصمت ورياح اليأس والإحباط والقدر الإسرائيلي!!هل يحق لنا أن نعتبره يوم عيد؟!
أيكفي أن يتفجر النسغ زهراً، وأن يتفتح الدم المسفوح مرحاً أخضر، وأن تسمعنا الأرض جلجلة المياه الحبيسة، وتتركنا نترصد مواقع انبثاقها نقطة بداية لتاريخ جديد كي تغمرنا الفرحة ونرفع الصوت بأن غدنا الآتي صار بين المآقي والجفون، وإن ما كان وما هو كائن إلى زوال؟!
وماذا أن تكون “السفير” قد صمدت ثماني سنوات، وإنها تستقبل التاسعة مؤسسة راسخة في الأرض التي أنبتتها ثابتة على إيمانها بما برر وجودها أصلاً، وما يعطيها اليوم هذا الدور المميز والمطلوب والضروري؟
ومن أين يتسلل الفرح، وحراس عصر الظلم والظلام ينتشرون على امتداد الأرض العربية، يطاردون البسمة والأمل وأشعة الشمس والهواء ولثغات أطفالنا وهم يهمون بالنطق الأول لكلمات الحب المهجورة؟!
من أين تجيء الأعياد وبشير الجميل يهددنا بـ “القرار”، وبيغن بنار “الاستقالة” وحل الكنيست، وفيليب حبيب بالعودة لجولة جديدة، والأمير فهد يخيرنا بين قبول مشروعه لـ “السلام” مع إسرائيل أو الجوع في ظل كساد نفط الآخرين، وريغان ينذرنا بأن صبره إلى نفاذ، وإن النفاد سيقودنا إلى الهاوية وبئس المصير؟!
من أين تجيء الأعياد وأصحاب القول يقولون ويعيدون أن العرب (؟!) قد أحرقوا بلادنا، وفرضوا علينا الذلة والمسكنة، بما هم عليه من تخلف وبداوة وميل إلى الدكتاتورية والفردية وشهوة إلى الدم، دم بعضهم البعض؟!
وماذا أن يكون ثمة بعد من لم يسقط ولم يهرب إلى المنفى الأفرنجي الدافئ، ولم يبرأ بنفسه من اسمه وملامح وجهه ولون بشرته وواقع انتمائه إلى أرض بذاتها وإلى أمة يكاد تاريخها يكون هو التاريخ؟!
حسناً، فلنبرر إذن فرحتنا المنكرة!
ولنبدأ بأن نعترف: نحن بالفعل متخلفون، وعصرنا هو عصر التردي والانحصاط والانهيارات الشنيعة وسقوط الكلمات الكبيرة.
لكننا بصدق وببساطة، لسنا يائين، وقد حسمنا أمرنا: سنظل نحن!
متخلفون، أجل، لكن تخلفنا لن يمنعنا من مواصلة التصدي لإسرائيل (ومن معها) حتى ننتصر عليها كائنة ما كانت قوتها ومساحة أرضنا التي تحتلها (للمناسبة: أكثرية “الشعب” الإسرائيلي من أخوتنا المتخلفين مثلنا وربما أكثر؟!)
متخلفون، لكننا نعرف أن التقدم والحرية وقحنا في الأرض والكرامة لن تأتينا في علب مصنوعة في “بلاد بره” وإن مستقبلنا لن يكون إلا محصلة لعملنا ونضالنا من أجل تحقيق طموحاتنا المشروعة: لن يقاتل أحد بالنيابة أو بالكالة عنا، ولن تنفعنا مليارات النفط المنهوب في شراء الغد الأفضل ولن يستقيم أمر واحد من حكامنا إلا إذا كنا نحن من اختاره ونصبه وقام عليه رقيباً وحسيباً.
ولنعترف أيضاً بأننا نسبح ضد التيار، وإننا نقفز من فوق الواقع إلى المطلقات.
ولكن من قال أن قدري ومصير أبنائي وحقي في الحياة رهن بإشارة من بشير الجميل أو مناحم بيغن؟!
ومن قال أن الوطن يبدل كما الثياب، و إن الانتماء يتقرر في ضوء الأوضاع السائدة فإن كانت طيبة استعربنا، وإن ساءت هجرنا العروبة إلى العدومية أو إلى ما هو أسوأ: أي إلى الكيان الطائفي أو العنصري أو إلى أفخاذ العشيرة والبطون؟!
ثم ماذا تراه يدبر لنا العدو أو يريد منا أكثر مما “نهرب” إليه بذريعة البأس وفشل الأنظمة والقمع وأجهزة المخابرات وافتقاد القيادة القادرة؟!
وكيف يكون مدخلاً إلى الحياة هذا “الحل” الذي يقضي بأن نلغي أنفسنا وكل ما يشكل ذواتنا وعلاقتنا بالحياة ناهيك بطبيعة الحياة وجدواها؟!
سنة تاسعة على الطريق،
نعرف أن غدنا بعيد ولكننا نؤمن أنه آت.
نعرف أن أمامنا الكثير الكثير من الأهوال والفواجع والانتكاسات، وحتى الهزائم ولكننا نعرف أن من حق أجيالنا الآتية علينا أن نصمد، أن نحفظ لهم الأرض التي ورثناها عن آبائنا والتي منحتنا شرف الحياةز
إن عتمة الليل العربي الراهن حالكة، لكن أنور السادات قد سقط وانتهى،
إن الاحتلال الإسرائيلي قائم منذ عام 1948، لكن العُزل من رجالنا وشبابنا والنساء قد كشفوا أنه إلى زوال، وفرضوا علينا أن نستذكر أيام الصليبيين.
وباختصار: لن نحتقر أنفسنا بسبب انتمائنا، بل سنحتقرها لو قصرنا، ولن ننتحر بأن نستخذي فنستسلم ونزحف إلى بشير الجميل مستغفرين وطالبين الشفقة والرحمة وقبولنا خدماً لمطبخه العامر.
الحل في أن نكون نحن، بشهادة غزة ورفح ونابلس ورام الله والبيرة حتى آخر قرية في الضفة الأخرى.
الحل في أن نكون نحن بشهادة الجنوب العظيم: الضفة الأولى.
وفي انتظار انتفاضات الضفاف العربية الأخرى سنظل نبشر بالغد والآتي عبر ليل القهر، وسنظل جريدة كل الوطن، كل الوطنيين في كل لبنان، وجريدة كل عربي في كل أرض عربية.

Exit mobile version