طلال سلمان

على الطريق تأملات… في الحجيج الأبكم!

تم تدجين المسلمين في الأرض، إلا أقلهم، فنبذوا السياسة وأمور دنياهم بعدما “حرم” عليهم الاهتمام بها، وأمروا بالانصراف إلى التعبد والتهجد طلباً للمغفرة وحسن الختام!
فها هو موسم الحج يتحول – بضغط حكام السعودية – إلى مجرد تجمع أبكم، يمارس الطقوس بطريقة آلية تكاد تقربه من الوثنية، فيسعى ويرجم ويصلي ويدور من حول الكعبة في البيت الحرام ويردد خلف “المطوف”: “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك”، ثم ينفض جمعه اللجب مكتفياً كل مشارك فيه بلقب “الحاج” وكفى الله المؤمنين شر القتال!
إنها أعظم تظاهرة خرساء في الكون!
مليوناً مؤمن، يجيئون خفافاً من كل فج عميق، فإذا ما تلاقوا منعوا من أن يختلطوا فيتحادثوا ويتشاكوا وينظروا في شؤونهم وما يمكنهم أن يفعلوه مجتمعين طالما عجزوا عن إنجازه فرادى؟!
الكل في البلوى سواء… فكلهم مقموع من حاكمه المحلي ومن حاكم حاكمه الأجنبي، (وبالنسبة للمؤمن فهذا الأجنبي كافر)،
أرضهم محتلة، في الغالب الأعم، وإرادتهم محتلة بالمطلق، ومعظمهم جائع بينما الذين يكنزون الذهب يجتهدون لزيادة فقره و”يمنحون” موارد الثروة في أرضه للأجنبي، ويتخلون عن حقوقه فيها و”يبيعون” بلاده قطراً قطراً في سوق النخاسة، ثم… يحرمون عليه السياسة، باسم الدين، بوصفها رجساً من عمل الشيطان!
في هذه التظاهرة الكونية الهائلة يحتكر “الملك” الكلام مكرساً احتكار السياسة: فالسياسة للملوك، وليست للرعاع والدهماء.
إنه “السياسي” الأوحد. وهي الصورة ذاتها التي في الداخل، داخل السعودية، وداخل كل قطر إسلامي. فالسياسة فن لا يتقنه المحكوم. إنها اختصاص الحاكم الأوحد.
لكن هذا “السياسي” المحلي هو مجرد وكيل أو “مقاطعجي” عند السياسي الأوحد في الكون: السيد الأميركي… يدعو له، ويلتزم بتعاليمه ويلزم “الرعية” بطاعته فإذا عصت أدبها بالعصا وأجبرها على أن تعود إلى سبيل الرشاد، وإلا شتت شملها في المنافي والمغتربات تسعى وراء كفاف العيش وقد أذلتها الغربة وأمضها القهر الذي لا ينتهي.
على أن الوجه الآخر للصورة هو الأشد إيلاماً والأخطر في دلالاته،
فبينما يحرم الحكام الأوحدون على المسلمين (وبينهم العرب) الاهتمام بشؤون الأرض والناس والتاريخ والجغرافيا والمستقبل والمصير وما إلى ذلك من التوافه، تطارد الحركة الصهيونية آخر يهودي في الكون فتسيسه وتنقله لتورثه الأرض المشاع التي تخلى عنها أبناؤها، والتاريخ المسفوح الذي تنكر له صناعه، والمستقبل الذي اكتشف فجأة أنه “لطيم” فدار يبحث – كلقيط – عمن يتبناه!
باسم السياسة والأرض تمد إسرائيل يدها إلى كل يهودي، بذريعة الدين، فتستقدمه وتحوله إلى محارب وتهدر له دماء العرب والمسلمين: توفر له السلاح الفتاك وتطلقه محرضة إياه على إبادتهم.
تحت راية دينية مزعومة تتدخل الولايات المتحدة الأميركية في الشؤون الداخلية لهذا القطر العربي أو ذاك، فتضغط على الحكم فيه من أجل أن يرفع قيود السفر عن بضع مئات من رعاياه “اليهود” لكي ينتقلوا إلى الضفة الأخرى من الجبهة فيرفعوا السلام في وجه البلاد التي منحتهم شرف الانتماء إليها ووفرت لهم على امتداد التاريخ كله فرصة الحياة الكريمة واعتبرتهم بعض “أبنائها”.
وبالمقابل يمنع المسلمون (عموماً، وبينهم العرب) من الاهتمام بالشأن السياسي، ويفرض عليهم الخرس والصمت والتسليم بكل الأوضاع الخاطئة والظالمة والخارجة على الأديان والشرائع عموماً، وإلا اعتبروا “إرهابيين” ووضع عليهم الحد!!
إذا دافع العربي (والمسلم) عن أرضه، وقاوم الغاصب والدخيل، فهذا تجاوز يكاد يقع في مرتبة “الشرك” لأنه يهدد “النظام الاجتماعي العام” بالخطر.
وإذا طالب العربي (والمسلم) بحقوق الإنسان في أرضه وثروتها، فأصر على أن يمارس حقه (الانتخابي) في اختيار حاكمه، وأن يعبر عن رأيه علناً، وأن يدافع عن مصالحه فيستخلصها من قاهره المحتكر والذي غالباً ما يكون فاسداً ومفسداً في الأرض، فهذا مروق وهذا خروج على “أولي الأمر” وبالتالي فهو كفر أو أشد من الكفر!
كأنما يراد لنا أن نفهم أن السياسة – أيضاً – احتكار لليهود ومشتقاتهم.
أليس اليهود – إسرائيليين وصهاينة – هم الذين يحتكرون السياسة، كنتيجة منطقية لاحتكارهم المال والنفوذ وأجهزة الأعلام – في العالم أجمع : غربه الأميركي – الأوروبي، وشرقه السوفياتي (سابقاً) والمشرذم حالياً حتى لتستحيل نسبته إلى قومية أو قارة أو دين بالذات؟!
وإنها لمفارقة مفزعة أن يتحول دين التحريض على التحرر واكتمال الكرامة الإنسانية والعدل الاجتماعي إلى أداة إرهابية في يد الحاكم المستسلم للأجنبي والمتنازل عن بلاده بأهلها وثرواتها وتاريخها للأجنبي مقابل حماية عرشه المتهالك؟!
إن العائدين من الحج يتحدثون بانبهار عن فخامة الإنجاز في محيط الحرم الملكي،
ولكنهم يهمسون بكثير من الرعب والتهيب عن صرامة التدابير الأمنية وأجهزة الرقابة والتنصت التي تطارد الحجيج إلى خيامه في العراء المكشوف.
وليس معقولاً ومقبولاً أن يلتقي أكثر من مليوني مسلم، وأن يمتد لقاؤهم أياماً، في دار الإسلام – أي حيث ولد الرسول وانطلقت دعوته إلى الهداية، ثم ينفض جمعهم من غير أن يقولوا كلمة ويتخذوا قراراً في شأن ما هم فيه من بؤس وفرقة واقتتال واضطهاد وحروب إبادة.
إن المسلمين لفي أسوأ حال إطلاقاً،
فغير بعيد عن مكة المكرمة نفسها تقوم قواعد “المحرر” الأميركي الذي نفذت قواته (مع التحالف الدولي) عملية “تحرير” الكويت تحت اسم رمزي هو “السيدة العذراء”، كما يقول صانع التاريخ “الإسلامي” الحديث الجنرال شوارزكوف!
لكأنما عادت دار الإسلام محمية أجنبية،
أما في الشرق فإسرائيل، وهي القاعدة الغربية المقيمة، تستعبد وتمارس إذلال بقية العرب… تطارد بالموت من يحاول توكيد إرادته في التحرر والمقاومة والصمود، وتسد عليهم طريقهم إلى مستقبل أفضل.
وفي السودان يقاتل الانفصاليون بدعم “إسلامي” غير محدود الحكم الذي يحمل راية الإسلام!
وفي الجزائر يطارد كل من يقول إنه مسلم من الثلاثين مليوناً من المسلمين الجزائريين!
أما أذربيجان فيكافح أهلها بما يشبه اليأس لحماية وحدة التراب الوطني لبلادهم فيعجزهم الدعم الأجنبي المفتوح لجيرانهم الأرمن،
وأما في أفغانستان فتجري دماء المسلمين أنهاراً في حرب عبثية أشعلها الأجنبي وأغرق فيها معظم الدول الإسلامية،
وهي لن تنتهي إلا وقد استكان المسلمون في تلك الأرض لحقبة جديدة من الهيمنة الاستعمارية قد تمتد أجيالاً،
أما في البوسنة والهرسك فحرب الإبادة مستمرة بلا شفقة، ومع كل آذان صبح جديد يتناقص عدد المسلمين في تلك الأرض التي وصلوها ذات يوم فاتحين برسالة الهداية والإيمان،
وأما الأكراد فحدث ولا حرج عما هم فيه من عنت وانقسام وضياع وفرقة وشرود بعيداً عن واقعهم ومصالحهم الحقيقية، بتحريض من الأجنبي، وبحراسة طائراته ومدرعاته المدربة على توفير “النزاهة” للانتخابات، أي انتخابات!
هذا حديث في السياسة وليس في الدين،
ولا دين من دون سياسة، لا في السابق ولا في الحاضر ولا في الحلاق،
فالدين في خدمة الإنسان، وليس أمراً مجرداً، والناس ليسوا مجرد ملائكة، بل هم بشر يسعون في مناكبهم “ليأكلوا من طيبات وما رزقناهم”
وطالما إنهم باسم الدين يمنعون رعاياهم من الاهتمام بشؤون الدنيا، فلماذا إذن باسم الدين يحكمون… أليس الحكم من أمور الدنيا؟!
… وسلام على من أتبع الهدى!

Exit mobile version