طلال سلمان

على الطريق بين مأرب وبيروت..

مأرب – نهايات سنة السد، 1986 –
كإشراقة أول خيط ضوء في عتمة حرب، كإطلالة وجه الحبيب، فجأة، بعد طول غياب، كالتماعة شفرة سيف يماني في لحظة فاصلة، كانبثاق الوردة صفراء مبتلة بالندى من حقل الشوك في لوح الصبار، هكذا هكذا غمرنا السد ضياء ونشوة ودمعة فرح هي بعض طوفان الخير المرتقب.
كانت الطريق الطويلة قد أنهكتنا ببؤس المناظر الموجعة، حتى لقد كان الطرف يرتد مقرحاً فزعاً من قسوة اليباس وصفرة الموت الكالحة: فالتراب أجرب باهت لفظاعة احتراقه القديم ولعقمه لمانع للخضرة، والجبال الجرداء حتى من التماعة انعكاس الشمس عليها تطالعك كأشباح المصدورين، والطريق أفعى تتلوى بين المفاوز والهضاب والأشياء التي أخرجها البركان ثم تركها ليد الزمن تفعل فيها فعلها المشوه المغير لطبيعتها…
وحدها الطريق المسفلتة حديثاً كانت تتوهج وتبرق بالنماء وتعطي دليلاً على أن الحياة قد وصلت – وبفضل السد – إلى هنا، وإن إرادة الحياة أقوى من الرمال المتحركة التي يطلقها الربع الخالي لتدفن الإنسان وجهده عبر التاريخ، ناهيك بطموحاته وأحلامه في غد، أي غد على الاطلاق.
وحدنا، نحن اللبنانيين، من بين المحتشدين في ذلك الوادي الذي كان مركزاً لدولة عظمى، قبل ثلاثة آلاف سنة أو يزيد، مملكة سبأ التي أتى على ذكرها القرآن الكريم ومعها سد مأرب القديم، استشعرنا غصة نغصت علينا فرحتنا بهذا الإنجاز العربي الأعظم بقيمته الرمزية منه بقيمته المادية الماشرة، على أهميتها.
كنا أسرى المقارنة المفجعة بين وطننا المهدد بالاحتراق والتحول إلى ما يشبه هذه الأرض اليباب، “الحفرة، النفرة، التي ليس بها عشبة خضرة”، على حد ما كانت تصف جداتنا تلك الادنى الأسطورية في حكاياتها، وبين هذا الجهد الطيب المبذول لتخضير الصحراء وبعث الحياة في الصخور الميتة منذ آلاف السنين، واصطناع الغد الأفضل بمياه السيول الشتوية النادرة المنحدرة عبر الجبال السبعة المحيطة بالوادي الذي أطلق الملكة التي ليس كمثلها أحد: بلقيس.
هنا تهدم الأبنية والعمارات القائمة التي كانت ذات يوم متعة للناظرين،
وهنا تحرق الأشجار والثمار ومواسم الأرض المعطاء لتترك فريسة الرمال والطلقات الفارغة وأكوام النفايات،
هنا يحقر الإنسان، يهان مرة كل لحظة، يزور تاريخه، ثم يقتل بالرصاص مرة وبالدولار مرات في اليوم الواحد،
هنا تحول “الجنة” إلى “ربع خال” لا يسكنه غير “الشبيحة” و”القتلة” و”المقتولين” والمجددين في أسباب الخراب وأصنافه وأدواته الفتاكة.
وهناك يحاول أفقر العرب، وأكثرهم معاناة من الظلم والظلام الأمامي، وآخرهم في توفر الفرصة السانحة للخروج من دائرة التخلف المغلقة، إعادة بناء المجد القديم وتأكيد جدارتهم بالعصر واستيعابهم لروحه، والتوكيد إن بناة السد الجديد والحضارة الجديدة هم فعلاً أحفاد بناة السد القديم والحضارة القديمة التي كانت بين مفاخر البشرية جمعاء.
هناك يحاولون بقروش التبرعات أن يعيدوا استنبات الشجر والخضرة في الأرض الموات، ويجمعون قطرات المطر قطرة قطرة ليشنوا بها هجوماً مضاداً ضد الرمل الزاحف الملتهم أسباب الحياة وشواهد الحضارة القديمة.
هناك يجتهدون ويبتدعون الصيغ للمجاهرة بإعلان احترامهم للإنسان وتاريخه، وللخروج من دائرة الاقتتال والقتل واعتماد الرصاص لغة وحيدة في حسم الخلافات وتصفية الحسابات وتأكيد الذات.
وهناك أخيراً يعملون بدأب لأن يغادر أبناء شيوخ القبائل واقع آبائهم القاسي والمر، فيصير منهم الأطباء والمهندسون والمحامون والكتاب والشعراء بدل أن يظلوا أسرى المفاهيم العشائرية الضيقة، والغرائز المهلكة والأفق المسدود بلوثة الدم الموروثة جيلاً بعد جيل!
بخمسة وسبعين مليون دولار، قد تصل إلى تسعين مليوناً، دفعها الشيخ زايد، أمكن إعادة بناء السد في مأرق التي تعود إليها الآن روحها التي ظلت تطوف في سماء اليمن السعيد، في انتظار أن يعي اليمنيون حاجتهم إليها فيطلبوها.
وفي لبنان “ينفقون” خمسة وسبعين مليون دولار في الشهر الواحد، وربما في الأسبوع الواحد، على تدمبير أبناء الحياة وأسباب الحياة وروح الوطن بكل تاريخه، الذي لا يبتعد كثيراً عن مثيله في مملكة سبأ القديمة،
ثم إنهم “ينهبون” خمسة وسبعين مليون دولار في الشهر الواحد، وربما في الأسبوع الواحد، وأحياناً في اليوم الواحد، من قوت الشعب في اللعبة الجهنمية المسماة “المضاربة بالدولار على الليرة”،
ولعلهم قد نهبوا خلال اليومين الفائتين، فقط، ما يبني ثلاثة أو أربعة من السدود،
فبين الستين، فالسبعين، ثم الثمانين، فالتسعين ليرة للدولار الواحد سرقوا من قدرات الوطن على الاستمرار ، ومن أسباب حياة المواطن، أكثر مما حصدت قذائف الحروب التي لا تنتهي والتي يستخدمون فيها الناس وقوداً، مجرد وقود، وأدوات لأهداف هي بالضبط ما ناضلوا ضده جيلاً بعد جيل،
هناك يقيمون سداً يفتح طريق اليمن إلى الحياة والعصر،
وهنا يبنون سداً يحول بيننا وبين الحياة والعصر،
وهناك يجمعون الدولارات من أهل الخير ليتيحوا فرصة غد أفضل للمواطن الذي أنهكته عصور القهر والتخالف والجهل والفقر والمرض والاغتراب عن الذات،
وهنا ينفقون الدولارات عن سعة لتوسيع دائرة النار والشر بحيث يضيع حاضر المواطن ومستقبله، ويرتد إلى قعر القعر من مخلفات تلك العصور إياها.
.. ولقد جاوز الدولار التسعين،
وقد يجاوز غداً المئة، له العمر كله، وللمضاربين به،
أما المواطن، وأما المواطن، وأما المقدسات جميعاً، فلكم من بعدها طول البقاء،
.. إلا إذا عملنا جميعاً لهدم هذا السد الذي أقاموه ليمنع اتصالنا بالحياة والعصر، وتعاونا جميعاً لبناء “الجسر” المفتقد لكي نعبر فوقه إلى الحياة الممنوعة بقوة السلاح وأهل السلاح!

Exit mobile version