طلال سلمان

على الطريق بين طهران ومدريد “مهاجرون” بلا نبي ولا رسالة

الصوت في طهران والصدى في العواصم البعيدة، من واشنطن إلى موسكو مروراً بمدريد التي سينعقد فيها المؤتمر – الضد، والموضوع فلسطين، لكنها “إسلامية” الآن نتيجة غياب العرب أو عجزهم، مع التلميح بتهم أقسى، تتناول أول ما تتناول الفلسطينيين عبر قيادتهم الرسمية…
هل استبق الصدى الصوت الذي سيصدر من مدريد و”السلام” الذي يصطنعه الأميركيون (ومعهم السوفيات) فيها للإسرائيليين واستطراداً للعرب العاجزين عن الحرب وعن التحرير، وإن بقي الشعار المهيب مرفوعاً: “من النهر إلى البحر” في مواجهة المشروع المضاد، الإمبراطوري، المنداح في ما بين النهرين: “من النيل إلى الفرات أرضك يا إسرائيل”؟!
القضية عربية واللغة فارسية والشعار إسلامي والصدى المطلوب غربي والجمهور فلسطيني بالعاطفة أو بالموقف أو بالانتماء الذي استولدته آخر الثورات العظيمة في هذا القرن بقيادة العمامة السوداء لذلك العجوز المنفي الذي هز العالم عشر سنوات طويلة كانت كافية لتغيير مسارات عديدة ومصائر كثيرة والتعجيل في ابتداع “النظام الجديد” المانع لثورات العالم القديم!
لنبدأ من اللقاء الأخير المتوج لمؤتمر طهران “كونفرانس” بين المللي حمايت از انقلاب إسلامي مردم فلسطين”، والترجمة الحرفية: المؤتمر الدولي لدعم الثورة الإسلامية للشعب الفلسطيني.
صباح أمس، الخميس، توجهت قيادات مختارة من المشاركين في المؤتمر، للقاء مع “قائد الثورة والجمهورية الإسلامية في غيران وولي أمر المسلمين آية الله السيد علي خامنئي”. “إسلاميون” من لبنان، من مصر، من فلسطين، من الأردن، ومن الهند وباكستان، من اليمن، من السودان، ومن جهات آخرى، لكن “العرب” هم الأكثرية كما هم القضية في المؤتمر الذي ضم مشاركين من 49 “دولة”…
المجلس بسيط جداً في المنزل الأنيق المغلقة من حوله الشوارع والذي تجتاز إليه معبران للتدقيق، منعاً لاحتمال تكرار المآسي التي حصدت نخبة من الرعيل الأول من قيادات الثورة (والجمهورية) الإسلامية في إيران.
كبر الواقف عند الباب فصلى الحضور الذين انتظمهم المجلس جلوساً على الأرض مستندين إلى جدران القاعة البسيطة الأثاث، على محمد وآل محمد، بينما انفتح باب في منتصف القاعة ودخل الكهل المتوسط القامة بلحيته المربعة التي يختلط فيها الأبيض بالكستائي، تطل من خلال النظارتين عيناه بذكاء هادئ، وتسبقه تحيته بالعربية مع اللياقات الإيرانية الموروثة: توجه إلى العموم، ثم التفت إلى كل من ضيوفه بتحية خاصة “صبحك الله بالخير”،
خلفه تماماً زر لجرس، وفوق مقعده صورة لسلفه العظيم الإمام الخميني تعلوها آية “إن كلمة الله هي العليا”، وفي مواجهته مباشرة لوحة زيتية كبيرة للإمام الخميني أيضاً، وتتناثر هنا وهناك لوحات عليها بعض الشعر أو بعض الحكم مرسومة ومطرزة بذلك الخط الفارسي الجميل وساعة ينتقل عقرباها بصمت تفرضه هيبة المجلس.
إلى يمين “القائد” جلس منظم المؤتمر ورئيسه رئيس مجلس الشورى، حجة الإسلام والمسلمين الشيخ كروبي، فوزير الخارجية الأنيق بلباسه الإفرنجي من دون ربطة عنق علي أكبر ولايتي، وإلى يساره مدير مكتبه الشيخ تسخيري الذي قام بمهمة التعريف قارئاً من صفحة دارت على الموجودين أسماءهم مضيفاً إليها مواقعهم في تنظيماتهم أو في مجتمعاتهم.
نسبة المعممين ليست مرتفعة، وأبرزهم (في ما عدا الإيرانيين) لبنانيان: “أمير حركة التوحيد” الشيخ سعيد شعبان، ورئيس “حزب الله” السيد عباس الموسوي، لكن الملتحين هم الأكثرية، والمتحدرين من “الأخوان المسلمين” أو الذين ما زالوا “أخواناً” هم أكثرية هذه الأكثرية، خصوصاً وقد تعزز التاريخيون في مصر بالمتحددين في الأردن وبالعائدين إلى أصولهم الفكرية من بين الفلسطينيين.
كان الأولى بالحديث، حتى وإن اتخذ طابع التوجيه والإرشاد، لأنه الوحيد المنتصر وسط ثوار الزمن القديم الذي يتهاوى الآن على أبواب مدريد، التي وصلها العرب أول مرة في ذروة إنجازهم “النظام الجديد” لعالم ذلك الزمان، والتي يذهبون إليها الآن لكي لا يظلوا خارج “النظام الجديد” الذي تقرره الولايات المتحدة الأميركية لعالم نهايات القرن العشرين.
فبين حدي الفتح تتأرجح فلسطين: مسببة في مدريد على حد الأندلس، ولاجئة سياسية في طهران، على حد “الري”، حيث “العرب” ذكريات تختزنها بعض كتب التاريخ وتشي بحضورهم بعض الكلمات والتعابير والتقاليد والقيم التي دخلت مع الانتصار العظيم ثم لم تخرج مع هزيمة “الذين بكوا كالنساء ملكاً لم يستطيعوا حمايته كالرجال”.
“مهاجرون” بلا نبي ولا رسالة هم العرب، اليوم، وطهران “يثرب” هذا الزمن تفتح وأهلها “الأنصار” الذراعين والقلب والبيت للأخوة في الدين الهاربين من ظلم ذوي القربى ومن عبء المواجهة مع قوى “الاستكبار العالمي”…
ولأن الظروف قد اختلفت فمن حق “يثرب” أن يكون منها “الأمير” مبقية للمهاجرين بلا نبي ولا رسالة أن يكون منهم “الوزير” مع اشتراط صدق إسلامته والتثبت من إيمانه بالدين الحنيف و”بولي العصر” الإيراني بالعمة السوداء التي تشهد بتحدره من “أهل البيت”… العربي حكماً!
بالفارسية تحدث “القائد – ولي أمر المسلمين” الذي يتقن العربية كأهلها وأحسن… وقد تجلى اتقانه للغة الضاد حين تدخل أكثر من مرة مصححاً للمترجم بعض ما غمض عليه من المفردات أو التعابير المحدد معناها بدقة.
قال السيد خامنئي إن مؤتمر طهران كان حدثاً عظيماً هز قوى الاستكبار العالمي وهدد مشروعاتها المشبوهة والمعادية، لاسيما منها مؤتمر مدريد، بالفشل فتآمرت بالتعتيم عليه وتصويره وكأنه اجتماع لحفنة من الإرهابيين المعادين “للسلام”.
وقال السيد خامنئي إن قضية فلسطين أجلُّ من أن تترك للحكام، ولا بد أن تتولاها الشعوب والأمم الإسلامية مباشرة، وإلا ضيّعت، مذكراً بأن الشعب في إيران لم يكن له رأي في غيران – الشاه، في أي شأن أو قرار مصيري، ثم انتزع بالثورة حقه في أن يقرر في كل أمر، وبالذات في قضية فلسطين “التي هي ملك للمسلمين ويجب أن تعود إليهم، كما علمنا القائد العظيم الراحل الإمام الخميني، قدس الله سره”.
الكلمات تحريضية، لكن النبرة هادئة، الموقف مبدئي هنا: إعلان نوايا، أما المواقف السياسية فيتخذها السياسيون، من رئيس الجمهورية (الحاضر – الغائب)، إلى وزير الخارجية، وقد اتخذاها وأعلناها: نحن ضد مؤتمرمدريد ومع الذين يعارضونه، ولكننا نتفهم ظروف الذين تضطرهم قوانين العلاقات التي سنها “النظام العالمي الجديد” إلى حضوره، مع الاحتفاظ بحق الاعتراض على نتائجه.
الثورة فيحريف سنتها الثانية عشرة ما تزال حية، ولكنها أكثر عقلاً. لقد بلغت سن الرشد حتى من قبل أن يرحل مفجرها وقائدها العظيم. الشعارات على الجدران بعد، وفي عناوين الصحف، وفي الصياغة العامة للأخبار والتحليلات والتعليقات. لكن الدولة أعظم حضوراً ومنطقها يفرض نفسه ويمتص الكثير من بريق المبدئيات.
لفلسطين قداستها التي لم تنقص ذرة، والقدس هي أولى القبلتين وثاني الحرمين ومسجدها الأقصى هو الراية والشعار، لكن الحياة لا تنبع من الذاكرة والغيبيات بل هي تبدأ وتنتهي بالمحسوس والمعاش.
“- أهي تبرئة ذمة، وعلى طريقة “إني قد بلغت، اللهم فاشهد”، أم هي رسالة إلى منظمي المؤتمر – الضد في مدريد، بأنكم تسجلون موقفاً للتاريخ، وإنهم أهملوا الاتصال بكم برغم إنكم معنيون، تماماً كأهل القدس وسائر فلسطين وكل العرب، بل ربما أكثر؟…”
يبتسم المسؤول الكبير في وزارة خارجية الجمهورية الإسلامية في إيران، لا يغضب، ولا ينفعل، ولا يستنكر طرح السؤال:
“- لسنا أغبياء، وتعرف إن العالم يتغير، وإن الكرة الأرضية تدور وسوف تستمر في الدوران، وندرك إن زمن الثورات قد انتهى، أقله في المدى المنظور… ومع تقديرنا لظروف الذاهبين بالأمر إلى مؤتمر مدريد فإننا لا يمكن إلا أن نعارض. ألم تلاحظ إننا أغفلنا ذكر أي اسم كطرف مدان؟! لقد حاول البعض أن يسمي، وبالتحديد سوريا ومنظمة التحرير… وبرغم موقفنا المعروف من ياسر عرفات فقد تدخلنا حتى لا تتم إدانة شخص أو جهة من دون الآخرين، أما سوريا فإننا نثق بالرئيس حافظ الأسد. نحن نقدر صراحة وضعه في مواجهة الضغوط العاتية، ونقدر إنه مستهدف، وحين قررنا الدعوة لمؤتمر طهران لم يكن قد تقرر عقد ما يسمى بـ “مؤتمر السلام” في مدريد… وقد دهمنا تحديد المكان والزمان ونحن على وشك أن نفتتح هذا المؤتمر، فكان علينا اتخاذ موقف، وقد اتخذناه مع الحرص على أن يكون مبدئياً. ارتضينا أن تكون طهران الخط الخلفي، من يستطيع التأكيد إن مؤتمر مدريد سينجح؟ وماذا لو فشل؟! أليس ضرورياً أن تكون هناك جبهة خلفية تحمي فكرة المقاومة والتصدي والصمود؟! إننا نقدم طهران كقاعدة خلفية، وكملجأ وملاذ للمناضلين الذين يستشعرون إنه لم يعد لهم مكان أو نصير”.
الإيراني قلق، لكنه لا يرى في مؤتمر مدريد نهاية الدنيا: “- من قال إن السلام، أي سلام، هو في مصلحة إسرائيل؟! إن إسرائيل بحدود آمنة وبلا أعداء يحصرونها ويهددونها وتستطيع أن تبتز العالم باسم ضرورة حمايتها من خطرهم الداهم، هي دولة عادية، لا أهمية لها ولا قيمة ولا وظيفة جدية في نظر من له حق القرار والفرض. من يضمن لإسرائيل في النظام العالمي الجديد ما كانت تطمح له من دور ومن مدى حيوي يقوم عليه مشروعها الإمبراطوري”؟!
لا يعني هذا التوصيف إن ثمة صلة رحم بين مؤتمر طهران ومؤتمر مدريد، لكن المؤكد إن أحدهما لا يلغي الآخر، بل لعله يبرره.
ولا تعني هذه الصورة إن طهران قد هجرت الثورة أو إن الثورة قد اندثرت في البلاد التي استعادها الخميني وصحبه من جاهلية الشاه إلى الإسلام والمسلمين، لكن هموم طهران الذاتية ثقيلة جداً.
وأعمق جرح في وجدان طهران إن “قوى الاستكبار العالمي” قد شنت عليها حرباً ثقيلة ومكلفة عبر “العرب” وبواسطتهم، في حين كانت تطمح لأن تتكامل وتكتمل بهم لتتمكن من تغيير العالم ووضع نظامه الجديد.
وإيران الثورة ما تزال خارج هذا النظام الجديد، لكنها تحاذر أن تبدو وكأنها مستعدة لأن تخرج عليه شاهرة سيفها.
وفي الطريق إلى المطار مهر آباد كان الطهرانيون المهذبون والبسطاء يجرون في الشوارع المجللة بالأشجار ساعين وراء “السنون”، ونادراً ما كانت تلفت أنظارهم تلك الشعارات التي رفعت في كل مكان عن “الكونفرانس بين الملي حماية از انقلاب إسلامي مردوم فلسطين”.
النظام الجديد مكلف لمن يريد إقامته،
وإيران حاولت أن تقيمه بلحمها وبوهج التاريخ، أما الذين يحاولون اليوم فبلحوم غيرهم وعلى حساب ذلك التاريخ وأهله.
ومدريد – الماضي تختار عاصمة للمستقبل، أما طهران التي كانت تعد نفسها لأن تكون عاصمة المستقبل فتتراجع في اتجاه أن تغدو تاريخاً،
والقدس تتأرجح بين الحدين، وقد تجد نفسها مضطرة لأن تقبل اللجوء السياسي إلى عاصمة آخر الثورات العظمى في التاريخ الحديث.
إن لم يكن لك المستقبل، فلا أقل من أن تبقى لك الذاكرة والذكريات.

Exit mobile version