طلال سلمان

على الطريق بين جولتين

قد يذكر التاريخ، مستقبلاً، إن المرحلة التي نعيش هي مجرد فاصل بين جولتين من جولات حروب “السلام الإسرائيلي” التي تشن ضد عموم العرب وفوق أراضيهم لإنهاء احتمالات تمردهم على الهيمنة الأميركية المطلقة على هذه المنطقة المهمة والغنية من العالمز
فكل ما في الجو يشير إلى اقتراب موعد الجولة الأخرى من جولات الحرب على “الجبهة الشمالية”، بعد أن تبرع أنور السادات – ومن خلفه – بإنهاء احتمالات الحرب على “الجبهة الجنوبية” بإخراج مصر من ساحة الصراع العربي الإسرائيلي، أي الصراع العربي ضد مشروع الهيمنة الأميركية (الغربية) المطلقة على الأرض المنداحة بين المحيط والخليج.
والحرب المقبلة (إذا لم يتيسر لواشنطن أن تحقق الهدف منها بمجرد التلويح بها) هي أيضاً حرب أميركية – إسرائيلية.
ووفق “التقاليد المشرفة” ينشر ويشاع ويذاع ويملأ الأسماع إن العرب يحشدون ويستعدون ويحضرون لشن الحرب، حتى إذا صدق العالم هذا الوهم المقصود، اندفعت الطائرات والدبابات (الأميركية) الإسرائيلية تمزق قطراً جديداً من أقطار العرب، قبل أن تتدخل الولايات المتحدة كوسيط لوقف الحرب ثم لمقايضة الأرض بالسلام، والأرض دائماً عربية و”السلام” دائماً إسرائيلي والرعاية دائماً أميركية!
(للمناسبة فقط: كلما أعطينا مزيداً من الأرض فقدنا المزيد من احتمالات السلام بل وفرض الحياة ذاتها…).
وبغض النظر عن حيثيات الموقف السوري من “الاتفاق اللبناني – الإسرائيلي” فإن الحرب ستكون لإنهاء أية معارضة – ومهما كان وزنها – لمشروع الهيمنة الأميركية المعزز بجيش الدفاع الإسرائيلي.
ومع احترامنا لذكاء العباقرة المروجين إن الرئيس الأميركي ريغان سيدفع في اتجاه هذه الحرب حباً بلبنان وحرصاً على سيادته واستقلاله، فإننا نضيف إلى أسبابهم سبباً تفصيلياً هو: مشروع ريغان لتصفية الصراع العربي – الإسرائيلي تمكيناً للعرب الميامين من التفرغ لمهمتهم المقدسة: دحر الأفكار الهدامة وإلحاق الهزيمة بالكفار الزاحفين من خلف الستار الحديدي!
لقد بدأت الحرب في 4 حزيران الماضي أميركية – إسرائيلية بهدف تصفية المقاومة الفلسطينية وإخراجها من لبنان وشطبها بالتالي من المعادلة السياسية الجديدة التي يراد فرضها على المنطقة.
وجاء “الاتفاق” خاتمة لهذه المرحلة من الحرلب ومكافأة للجهد الإسرائيلي فيها،
وكان شولتس بارعاً حين صور ذلك كله نصراً للبنان،
لكن “براعة” هذا المقاول ما كانت لتجوز على أحد لولا مناخ الهزيمة السائد، ولولا الخيبة والإحباط وفقدان الأمل في أي تحرك عربي مناهض، ولولا إن الأنظمة العربية قد سقطت – من زمان – من وجدان المواطن العربي، فما عاد يأمل منها أكثر من أن تكف شرهاً عنه،
على إن ثمة مرحلة أخرى ما تزال ضرورية لإكمال المعادلة السياسية الجديدة المعدة للمنطقة، وهي ضرورة شطب سوريا بموقعها الاستراتيجي الحاكم ووزنها العسكري وعلاقتها المتميزة مع الاتحاد السوفياتي،
وطالما استحال إكمال هذه المرحلة، بالترغيب فلا بد من الترهيب وصولاً إلى الحرب ذاتها، إذا لزم الأمر،
وفي ظل الظروف السائدة الآن يصبح أداء هذه المهمة أسهل بكثير منه قبل عام مضى،
فطالما إن الاتفاق لخير لبنان،
وطالما إن سوريا هي التي تمنع هذا الخير عن لبنان،
وطالما إن هذا يمنع الخير، بالتبعية، عن الأردن،
وطالما إن ذلك يسرع خطة تهويد الضفة والقطاع،
وطالما، وطالما، وطالما، إلى آخر ما في الجعبة الأميركية من تبريرات عربية تستند إلى شهادات التأييد أو الصمت التي أعطاها العديد من حكام العرب للاتفاق الأميركي – الإسرائيلي على لبنان.
فالحرب ضد سوريا، إذن لن تجد اعتراضاً عربياً جدياً، إلا بقدر ما وجدت الحرب على الفلسطينيين في لبنان من الاعتراض و… الاستنكار!
وهكذا يسهل تكرار المأساة: يغري السادات مصر بالخروج على العرب نكاية بهم وببخلهم، وبتصوير إن “السلام” هو نهاية الفقر والجوع والموت المجاني وبداية عصر الرخاء في ظل السخاء الأميركي!
وتضرب المقاومة الفلسطينية في لبنان وسط أجواء تصور للبنانيين إن هذه العمليثة تستهدف إنقاذهم، وتصور للسوريين إن العملية لن تمسهم بل على العكس ستطلق يدهم في المنطقة بعد تغييب العنصر الفلسطينيز
ثم يدفع لبنان إلى الاتفاق مع إسرائيل تحت ضغط التخلي العربي العام، ومع الوعد بتوفير “التأييد” الكافي لطمأنة أصحاب المصالح فيه في دنيا العرب إلى أن مصالحهم لن تمس، وإلى إن العقوبات لن تكون انسجاماً مع منطق قمة فاس الشهيرة.
وبعدها تجيء الضربة الموجهة إلى سوريا بمثابة “رصاصة رحمة” للصراع العربي الإسرائيلي، وسط صحراء الصمت العربي، وشماتة كل نظام بالآخر، على حساب وجود الأمة ذاتهاز
والمهم بالنسبة إلينا نحن في لبنان إن الأميركيين أنفسهم لا يفتأون يذكروننا بأن شرط تنفيذ الإسرائيليين للاتفاق أن يخرج السوريون،
أي إنهم يذكروننا ألف مرة في اليوم إننا – “بالاتفاق” – قد صرنا مركز الثقل في ما يسمى “أزمة الشرق الأوسط”، بينما دعاتهم والمروجون لهم حاولوا على امتداد الشهور الماضية بيعنا بضاعة فاسدة مؤداها إن الحرب الأميركية – الإسرائيلية قد أنقذتنا بأن أخرجتنا من هذه الأزمة الطاحنة، وإنها فصلت وإلى الأبد بين مسألة لبنان وبين الصراع العربي الإسرائيلي.
والحرب تلد حرباً،
أما السلام فأوانه بعيد بعد، بعد العرب عن صناعة الحرب وعن صناعة نقيضها على أرضهم الفسيحة.
وإلى تلك الصناعة يجب أن يتوجه الجهد، في لبنان، وفي كل أرض عربية.

Exit mobile version