طلال سلمان

على الطريق بين البداية والنهاية

قبل ثمانية عشر عاماً أنشأت مجموعة من شباب فلسطين تنظيماً ينادي بالكفاح المسلح طريقاً إلى التحرير، فلم تلبث أن قفزت – عبر عدد من العمليات الفدائية – إلى قيادة العمل الوطني الفلسطيني.
وصار ياسر عرفات اسماً معروفاً بعد رجوعه سالماً من عملية فدائية نفذها في أرض فلسطين المحتلة بوصفه واحداً من شباب هذا التنظيم الذي سيعرف باسم “العاصفة” قبل أن تتكشف هويته الكاملة “حركة التحرر الوطني الفلسطيني – فتح”.
اليوم، وعشية الذكرى التاسعة عشرة لانطلاق حركة “فتح” تكاد تغيب ألقاب ياسر عرفات العديدة جميعاً ولا يبقى منها إلا اللقب الذي يشارك في إطلاقه عليه الأميركيون والأوروبيون وعرب أميركا والغرب، أي الغربيون عموماً، وهو “ممثل الاعتدال الفلرسطيني”.
وبالنسبة لإنسان أرضه محتلة وإرادته مقهورة وشعبه شريد طريد، فليس “الاعتدال” – خصوصاص بالفهم الأميركي والغربي – وساماً، كما إنه لا يعني ما يختلف كثيراً عن معاني التخلي عن الموقع الأصلي، والانحراف عن الهدف الأساسي للرصاصة الأولى، وعن دخول بازار البيع والشراء عن الباب الخلفي لأن الباب الأمامي محجوز للقادرين على اقتحامه عنوة بقوة القضية وعزم رجالها المقاتلين.
ولا يستطيع عرفات أو غيره أن يكون ذلك الفدائي الواهب روحه لوطنه، المتحدي جبروت إسرائيل ومن معها بقوة حقه في أرضه، وأن يكون في الوقت نفسه واحداً من الملوك والسلاطين وشيوخ النفط الحاكمين بوصفهم حراساً للمصالح الغربية (والأميركية تحديداً) في المنطقة،
ويوم كان عرفات رمزاً للنضال الوطني الفلسصطيني ومشروع رمز للنضال القومي، صغر الرؤساء والملوك أمامه وصاروا يتسابقون ليتصوروا معه في محاولة لإيهام الناس بولائهم لفكرة الثورة والتحرير وإرادة المواجهة لأعداء الأمة،
أما يوم صار عرفات رمزاً “للاعتدال” ودرعاً ضد “التطرف” الفلرسطيني خاصة والعربي عامة (والتطرف هنا لا يعني إلا الثورة، في حين لا يعني الاعتدال غير “المساومة” والاستعداد للتفريط والتخلي عن علة الوجود وهي الثورة) فهو قد خسر كل شيء، حتى نفسه،
ذلك إن الذين زينوا لعرفات طريق الرئاسة والملك بتحريضه على اعتماد نهج “الاعتدال”، هم أول من يتخلى عنه وينبذه حين يصدقهم فيتوهم إنه صار منهم.
فلا مكان بينهم لفدائي حقيقي، إلا بمقدار ما يفرض نفسه عليهم بقوة اختلافه عنهم، وبصدق تمثيله للقضية التي فرطوا فيها.
كذلك لا مكان بينهم لفدائي سابق أو متقاعد أو مستقيل، فإذا ما تخلى الفدائي عن سلاحه (أي عن قضيته)، فقد حقه حتى في أن يتصور معهم،
إنهم يقبلون الفداءئي مضطرين ومرغمين ليغطوا انحرافهم بتلك العلاقة معه، بأمل أن تهدأ الموجة بعد استيعابها فيعودوا إلى سرتهم الأولى.
ولكنهم لا يعطونه حقاً بالعضوية في ناديهم إلا بمقدار ما يؤكد “توبته” ورجوعه عن خطيئة المناداة بالكفاح المسلح والثورة الشعبية طريقاً إلى التحرير،
… فإذا ما صارت لغته مثل لغتهم، واسلوبه مثل أساليبهم، وإذا ما استمع إلى نصيحتهم بضرورة الاتكال على واشنطن – بعد الله – بوصفها تملك مئة في المئة من أوراق الحل، وبضرورة اعتماد الحوار و”اللوبي” وصفقات الكواليس وهمسات أصحاب التأثير على مراكز القرار، وتوسط أصدقاء المستشارين وتكليف “خبراء” الرأي العام الخ…
وبالاختصار: إذا صار منهم لم يعد بهم حاجة إليه، إلا بوصفه دليلاً على قدرتهم هم على امتصاص الثورات والثوار وتأمين مصالح اميركا والغرب، ومن ضمنها عروشهم ورئاساتهم.
وليست خطيئة ياسر عرفات إنه ذهب إلى مصر حسني مبارك،
هذه نتيجة،
أما السبب في الخطيئة فهو إن ياسر عرفات صدق إنه يمكن أن يحتفظ بمزايا الفدائي بمجرد الاحتفاظ بالغطرة على رأسه، بينما يحظى بكل امتيازات الرؤساء والملوك بمجرد الجلوس إلى موائدهم.
لقد أسهم ياسر عرفات إسهاماً مؤثراً في خلق هذا الالتباس المفجع الذي غرق في طياته المواطن العربي بين الثورة والأنظمة، بين الكفاح المسلح والتسوية، بين التوريط والتفريط، بين الحلول والأوهام، بين السلطة والتسلط، بين الحكمة والحكم، وصولاً إلى الخلط بين التكتيكي والاستراتيجي، كما درج مثقفو هذه الحقبة على القول.
لقد جعل ياسر عرفات من “لعم” شعاراً ، أي من الموقف الذي يتداخل فيه الرفض والقبول وتضيع فيه الحدود بين الخطأ والخطيئة وبين ما يفرضه الحق والعدل وواجب النضال.
وليس في التاريخ ثورة اعتمدت “لعم” نهجاً وسياسة،
إن مثل هذا الالتباس أو التداخل أو التردد أو التكتكة المضللة يلغي الثورة وينهي الثوار،
وبالتأكيد فإن هذه “اللعم” قد أبعدت العديد من الثوار الحقيقيين، وأفسدت آخرين منهم، وقربت إلى موقع القيادة العديد العديد من الانتهازيين والمنحرفين بحجة التعب وطول المسافة ، ومحترفي بيع اشلاء الثوار باسم الحرص على “أخذ” كل شبر من أرض فلسطين يجري تحريره (بغض النظر كيف وعلى يد من وباي ثمن وما إذا كان يمكن اعتباره محرراً فعلاً).
ولقد أكمل أبو عمار طريقه حتى النهاية،
وليس أمراً مفاجئاً أن يجد نفسه عند النهاية وحيداً: فوق باخرة يونانية تحرسها بارجة فرنسية ومن فوقه طائرات أميركية، وتحف به أمواج رثاءا فرنجية تنعي إلى الغرب ضحية جديدة من ضحايا “الاعتدال” الذي لا يعني في حال الفلسطيني غير الضياع عن الطريق الصحيح،
فكيف يمكن أن يكون “اعتدال” الفدائي شيئاص آخر غير الانتحار،
إن الوصفين لا يتلازمان أبداص ولا يتجاوران فإذا حدث التلازم، أو التجاور فإن أحدهما ينفي الآخر، بالضرورة، فإن انتفى “الاعتدال” صارت “الفدائية” ثورة وتحريراً، أما إذا انتفت “الفدائية” فلن يكون الاعتدال شيثئاً آخر غير ما نسمع هذه الأيام من أوصاف لياسرعرفات يطلقها عليه رفاق النضال القدامى وزملاء السلاح، يوم كان للسلاح مكانه والاعتبار.
لقد أحرق عرفات، بنهجه الخاطئ ، الباخرة التي يقف على سطحها، وأحرج فأخرج حتى أولئك الذين صمتوا عن هذا النهج سنوات، وأكد مصداقية خصومه الذين من حقهم أن يروا في أنفسهم إنهم كانوا السابقين إلى اكتشاف الحقيقة وإعلانها.
فإن يقول أحد أئمة النضال الوطني الفلسطيني، جورج حبش، في عرفات ما قاله، فهو لا يعبر عن خصومة بقدر ما يعبر عن خيبة أمل جيل كامل في شخص كاد يختصر في نفسه ذات يوم رمز القضية الأقدس في التاريخ العربي الحديث.
فلقد تحمل جورج حبش ومن معه ومن هم مثلهن الكثير الكثير من أجل إنقاذ ما تبقى من القضية من غير أن يؤذوا رمز الشرعية والوحدة في إطارها السياسي منظمة التحرير، لكن عرفات مضى إلى بعيد حتى أخرج نفسه من الإطار ومن موقع الرمز.
أما “اللجنة المركزية” لحركة فتح، أو من بقي فيها مع عرفات، فلقد وجدت نفسها مضطرة لترداد كثير من الاتهامات التي أطلقها قادة المعارضة داخل فتح (أبو صالح، أبو موسى أبو خالد العملة، قدري الخ)، برغم مخاصمتها لهم وانحيازها على امتداد شهور إلى معسكر عرفات وصولاً إلى مواجهتهم بالسلاح،
ولن يستطيع عرفات أن يبقى فوق ساحة العمل الوطني الفلسطيني حتى في موقع أحمد حلمي باشا (رئيس حكومة عموم فلسطين الشهيرة).
ذلك إن الباشا لم يأت إلى تلك الحكومة التعيسة من موقع الفدائي، ولم يتبدل بها أو بعدها عما كانه قبلها.
كما إن منظمة التحرير “إطار نضالي” وليست تركيبة هشة لطمس مسؤولية المنسحبين من فلسطين، كما اريد لتلك الحكومة أن تكون.
ولن تنفع الأموال التي أغدقها على الثورة أعداء الثورة والتي كانت بين أسباب الأخطاء القاتلة في إضفاء إطار نضالي على أي تركيبة جديدة مثل حكومة المنفى أو ما شاكلهاز
فالأموال تنفع في إفساد الثورات، لكنها لا تنفع لا في استعادة الأوطان ولا في اكتساب تأييد العالم فضلاً عن احترامه، خصوصاً متى اعتمدت كسلاح أساسي.
ومهمة مناضلي فلسطين الآن أن يعودوا بقضيتهم إلى الطريق السصوي،
وليس ثمة إلا طريق واحد فحين لا تكون فلسطين هي منطلق الثورة العربية، الثورة القومية، الثورة الوحدة، الثورة الكاملة لتغيير هذا الواقع النتن الذي نعيش فيه، فإنها لا تكون إلا موضوعاً للتجارة والاتجار، مزايدة ومناقصة، بين الأنظمة والمنظمات، كما بين الرجال والدول.
وعلينا أن نتذكر إن هزيمة فلسطين بدأت حين نقصت العروبة في ساحة نضالها الوطني بقدر ما نقصت في الأنظمة التي تعاطت شأنها.
واستقلالية القرار الوطني الفلسطيني مرتبطة طرداً بمقدار العروبة فيه: فمتى كان قراراً باسم الثورة بكل العرب ومن أجل كل العرب فإنه سيكون مستقلاً عن كل الأنظمة وقوياً عليها تماماً بقدر ضعفها أمام وهجه الثوري.
وشرط العودة إلى الطريق أن تهزم الكيانية داخل العمل الوطني الفلسطيني، فبهزيمتها تهزم الأنظمة جميعاً وتنتصر القضية، قضية فلسطين وقضية الغد العربي الأفضل.. قضية كل إنسان عربي، من المحيط إلى الخليج.
والاستقلال الحقيقي يتم بالعروبة، وبالعرب، وليس بعيداً عنها وعنهم.

Exit mobile version