طلال سلمان

على الطريق بين الأمير الفصيح والملك المستعجل العرب يخسرون مرتين…

دار الفلك… فإذا ثمة “عربي” يأخذ على “الإسرائيلي” النقص في ولائه لـ “الأميركي”! وإذا “السعودي” يحاول إقناع اليهودي الأميركي بتخفيف نقده لإسرائيل وتجنب إغضاب شامير لأن ذلك قد يؤذي خطة “السلام” الأميركية في منطقة الشرق الأوسط!
دار الفلك… فإذا “الأردني” يحاول العودة إلى قلب “السعودي” خاصة و”الخليجي” عموماً، متخذاً من إسرائيل جسراً للعبور، فإذا كان “الصلح” هو المطلب فهو المصالح بلا شروط، وإذا كان “التطبيع” و”التعاون الاقتصادي وفي مجالات المياه والتسلح والبيئة” فهو حامل الراية وطليعة الصفوف، لعل “طوال العمر” يرضون فيغفروا ويعطوا، ولعل واشنطن تتسامح فتنسى “الأردن العربي” لتقبل “الأردن الإسرائيلي” فيكون شر ذا بخير ذا وإذا الله قد عفا…
دار الفلك… فإذا بابا الفاتيكان أكثر تطرفاً من “الفلسطيني” في عروبة القدس، وإذا “اللبناني” أكثر تشدداً في موضوع حق العودة وتقرير المصير من فلسطينيي الداخل (وربما الخارج أيضاً)!
دار الفلك… فإذا شامير يثير أزمة حادة مع إدارة بوش لأن بيكر لم يبلغه عندما التقاه قبل ثلاثة أيام في واشنطن القرار الذي أعلنه بعد ساعات قليلة، بتحديد يوم الأربعاء في 4 كانون الأول 1991 موعداً للجلسة الثانية للمفاوضات الثنائية المباشرة بين العرب (كل بمفرده) والإسرائيليين وفي العاصمة الأميركية… ولهذا فالحكومة الإسرائيلية التي ترفض هذا الصلف الأميركي، وسياسة الفرض هذه، تتحفظ ولعلها ستطالب بتغيير في الزمان وفي المكان (إذ ربما اعتبرت واشنطن أرضاً غير محايدة)!!
أما الملك حسين فقد سبق بالموافقة القرار ذاته، ناسفاً بذلك فرصة أخيرة (؟) لحد أدنى من التنسيق الثلاثي (الأردني – الفلسطيني – السوري) كان محدداً ميعادها بعد ساعات قليلة من إطلاق بشرى الموافقة الملكية على المكان والزمان والموضوع، وكان سبقها إعلان موافقة غير مشروطة على المفاوضات المتعددة الأطراف أيضاً، وفي أي مكان أو زمان تختاره الإدارة الأميركية، وسواء أ؛ضر بقية العرب أم لم يحضروا!
دار الفلك، فلا أحد في مكانه، والكل منسجم في لعبة الكراسي الموسيقية، حتى لتخطئ في تحديد هوية القائل إذا أنت حكمت من خلال النص مجرداً!
السعودي يتشفع لدى اليهودي الأميركي من أجل أن يصالح إسرائيل، والأردني يتشفع لدى الإسرائيلي من أجل أن يصالح السعودية، وإسحق شامير يستعير شعار “القرار الوطني المستقل” من ياسر عرفات الذي يكاد يتشفع لدى “صقور” حزب العمل الإسرائيلي من أجل أن يعتدلوا فلا يطلبوا لشعب فلسطين ما لا يطيق من حقوق وطنية أو سياسية، و”المصري” يلوم “السوري” على تطرفه وغلوه في التصلب إلى حد اتهام شامير بممارسة الإرهاب.
… أما الأميركي فينصب وسط هذا كله محاكمة للعربي الليبي، ويتوجه إلى المصري بأمر يتجاوز الوقاحة إلى العدوان المباشر إذ يطلب إليه إقفال الحدود بين القطرين الشقيقين المتداخلين والمتكاملين، ويضغط حتى لا تعقد جامعة الدول العربية جلسة، مجرد جلسة، ولو على مستوى المندوبين، لمناقشة – مجرد مناقشة – التهديد الأميركي الصريح للجماهيرية العربية الليبية!
أبعد من هذا: يبادر أمين عام الجامعة إلى بذل مساعيه الحميدة، فيتصل بالسفير الأميركي في القاهرة وبمندوب ليبيا في الجامعة، وكان حضرته “طرف ثالث” لا تربطه صلة بأي من المتخاصمين!
وفي مؤتمر مدريد طلب الكثير من العرب من الأمير بندر بن سلطان أن يتكرم عليهم فيكون “محايداً”، أي إنهم سلموا بخروجه منهم وتشفعوا لديه حتى لا يخرج عليهم فينضم جهاراً نهاراً إلى عدوهم الإسرائيلي!
دار الفلك دورة كاملة، فإذا المملكة العربية السعودية التي كانت تنافس أبا الهول في صمته، تكسر تقاليدها العريقة وتنطق… بعد دهر الخرس!
وماذا قالت مملكة خادم الحرمين الشريفين، التي لم تشتهر بالشجاعة في المكاشفة والمصارحة، والتي استعانت دائماً بعتمة الليل والكتمان وتغليف التواطؤ والتآمر بالإكثار من ذكر الله؟
لقد أكدت إن “ولدها” بندر إنما التقى بأقطاب اليهود من رجال الكونغرس الأميركيين خدمة للفلسطينيين ليس إلا، وإنه في سياق هذه الخدمة وعد برفع المقاطعة السعودية عن المتعاملين مع إسرائيل، وتعهد بحضور بلاده المؤتمر المتعدد الأطراف للتعاون الإقليمي المفتوح، بغير عقد، وبمعزل عن تاريخ الصراع بين العرب والإسرائيليين، فالتاريخ كتاب ميت، والسيد بوش يقول إن الإنسان يجب أن يكون هو سيد التاريخ وليس العكس!
وطريفة هي المفارقات التي يعكس البيان السعودي بعضها:
ففي حين يقارع جورج بوش اليهود الأميركيين ليحرر قراره من ضغوطهم، يلتقي بهم بندر بن سلطان – الفصيح والرجل الحجة – ويفاوضهم كيهود أساساً ويرسل عبرهم عروضه السخية إلى إسرائيل التي تقاتل بوش في الكونغرس وفي الشارع وفي البيوت في قلب واشنطن!
جورج بوش يلزم نفسه بمبدأ “الأرض مقابل السلام”، وبندر بن سلطان يحرر نفسه من الأرض ومن أهلها، ويعرض السلام ومعه المياه والنفط والتطبيع الاقتصادي والسفارات والتعاون الثقافي الخ… مقابل السلام!!
يا سلام!!
الآن نفهم أكثر لماذا أطلقت بعض الصحف الأجنبية على بندر اسم “الطرف الآخر” لكماشة الضغط على الوفود العربية في مدريد،
ففي أثر كل خلاف على إجراء أو موعد، كان الأميركي يخرج مغضباً، وكان الإسرائيلي يستشعر قدراً من الاطمئنان وهو يرى بندر قد انطلق للضغط على بعض أخوانه العرب محاولاً “إغواءهم” لتقديم المزيد من التنازلات!
في أي حال فالحمد لله أن اليهود الأميركيين يعون مصالحهم ويراعون الهموم الحياتية لمواطنهم الأميركي ويستشرفون مستقبل إسرائيل بأفضل من بندر بن سلطان وإسحق شامير معاً… وعلى هذا ظل موقفهم أكثر تقدماً وأكثر تعاطفاً مع “الحقوق الوطنية لشعب فلسطين” من الأمير العربي ومن الإرهابي البولوني (الأصل).
إذن فموعد الجولة الثانية للمفاوضات الثنائية والمباشرة بين العرب والإسرائيليين يوم الأربعاء في الرابع من كانون الأول 1991 وفي واشنطن.
وبعد الثانية ستكون جولة ثالثة، ورابعة فخامسة وسادسة الخ.
ثم تصير الجولات خبراً في الأخبار اليومية يحذف إذا ضاقت المساحة بالأحداث الأكثر أهمية وخطورة.
وبندر بن سلطان لا يرى في كل هذه التنازلات العربية ما يكفي فيعرض فوقها وبعدها نفط بلاده ومياه أقطار أخوانه العرب وكل وجوه التعاون الأخرى وفي مختلف المجالات، مجاناً ولوجه الله وسلفاً!
وفي الروايات إن الأسرة المالكة ليست موحدة الرأي حول هذا الأمر، وإن بعضها متخوف من النتائج، ويستذكر فيذكر بمصير أنور السادات.
فقبل بندر بخمس عشرة سنة قام “شجاع” آخر من بين العرب فذهب إلى الكنيست في القدس المحتلة، مخترقاً بذلك الحاجز النفسي ليكسره، مفترضاً إنه إنما يحرج الإسرائيليين فيحصل منهم سلماً على ما لم يحصل عليه حرباً.
وبرغم أهمية مصر الفائقة، وبرغم دورها الحاسم في السلام والحرب، وبرغم التحول التاريخي الذي أحدثته تلك “الزيارة” في سياق الصراع، وربما على مستوى التوازنات الدولية ومنطق الحرب الباردة وتحالفات كل من الجبارين العالميين، فإن إسرائيل لم تعط السادات ما كان يأمل به وانتهى منبوذاً ملعوناً ومقتولاً في قلب النهار.
لقد سلم أسلحته سلفاً، وألغى حتى فرصة المساومة، وأعطى ما لم يكن يحلم العدو بأن يأخذه منه، فكان منطقياً أن يقول بعدها هنري كيسنجر : “ولماذا نعطيه أي شيء، طالما إنه أعطى كل شيء سلفاً ومجاناً وبغير شروط أو طلب”؟!
بعض العرب لا يرون في المؤتمر إلا أنه أمر أميركي بالصلح مع إسرائيل، فوراً وبغير نقاش، وإلا فالويل والثبور وعظائم الأمور!
ينسون إن الأرض أرضهم، وإنهم هم المطالبون والمعنيون بالدفاع عنها والنضال لاستعادة المحتل منها، فيبدون في بعض اللحظات وكأنهم أكثر تساهلاً من الأميركيين أنفسهم، ويباغتونهم – على طريقة أمين الجيمل – بأن يندفعوا إلى عناق الإسرائيليين والتودد إليهم والتوسع في الحديث عن مستقبل التعاون، والتطرف في إدانة الماضي وكأنهم هم الذين يحتلون الأرض الإسرائيلية وينكرون على شعبها حقه في العودة وتقرير مصيره فوقها!
إن هؤلاء العرب يُفقدون الأميركي موقع الوسيط، إذ في حالة بندر أو النظام الأردني، يبدو جورج بوش متطفلاً أو “عذولاً” يفسد الخلوة الحميمة بين حبيبين التقيا بعد طول فراق!
ومنطقي والحالة هذه أن يتطرف شامير (وكأنه كان في أي يوم غير متطرف!!) فيتمسك بأحلامه ومطالبه كاملة، ويحاول أن يأخذ من هؤلاء المستسلمين لخوفهم من غضبه أكثر مما أخذ بسلاحه حرباً من الذين أعجزهم الدعم الأميركي المفتوح لإسرائيل من أرضهم.
وهكذا يخسر العرب أرضهم مرتين:
مرة لأن أصدقاء واشنطن بينهم كانوا أعجز من إبعادها عن عدوهم، في زمن الحرب عليهم،
ومرة لأن أصدقاء واشنطن هؤلاء ظهروا أكثر قرباً إلى إسرائيل منها في زمن… السعي للسلام!
وهكذا ستأخذ إسرائيل مرتين: مرة بالسيف الأميركي في يدها على العرب، ومرة أخرى بالسيف “العربي” في يدها على العرب ومعهم حليفها الأميركي!
وأول الغيث “بندر” ثم ينهمر…

Exit mobile version