طلال سلمان

على الطريق بيعة لمستقبل داخل الماضي!!

“إنني أعتقد أن رئاسةالدولة يجب أن تكون مؤقتة لا مؤبدة، محددة، لا دائمة، وبذلك يستطيع القائد أن يؤدي دوره ويسهم في تطوير بلاده ثم يسلم الراية إلى أجيال جديدة تشترك في تحمل العبء ودفع ضريبة الكفاح من أجل رفعة الوطن.
“ولا أخفي عنكم إنني أؤمن بأن رئاسة أي شخص للدولة يجب ألا تتجاوز مدتين متتاليتين، ويسعدني أن أكون أول من ينطبق عليه هذا الحكم من رؤساء مصر.
24/6/1984
“محمد حسني مبارك”
… لكن الرئيس مبارك وجد، بعد تسع سنوات، ما يستدعي منه تبديل قراره، والانصياع لإرادة “الشعب” – عبر مجلسه المنتخب بالتزكية!! – في قبول ولاية ثالثة لست سنوات إضافية!.
وهو قد انصاع “لكي نجابه معاً هذا الخطر الذي يهدد إنجازات بذلت الأمة من أجلها تضحيات غالية وجسيمة”.. فـ “المؤامرة” تحرك “الجماعات الإسلامية”، ولا بد من “المجابهة الشاملة لعناصر الإرهاب وتقويض مخططها الرامي إلى إعاقة تقدم مصر”، ولا بد من “التصدي لهذه الجماعات الشاردة” التي “لن أسمح لها بأن تدمر ما أنجزه الشعب”.
ثم إن مبارك قد قبل بولاية ثالثة من أجل تعزيز الديموقراطية وتوكيد الاستقرار: “فالديموقراطية والاستقرار شرطان متلازمان لتحقيق التقدم، وغياب أحدهما يمسح وجود الآخر (…) ولسوف نتخذ كل الإجراءات والتدابير التي يضمنها لنا الدستور والقانون من أجل إعادة الاستقرار إلى الوطن (…) والديموقراطية في غياب الاستقرار هي الفوضى وغياب المسؤولية وتمزيق للجهد الوطني وضياع مصالح الجماهير والوطن…”.
إذن فالرئيس مبارك يقبل الولاية الثالثة من أجل إعلان الحرب على “التطرف الديني” الذي يخرب الاستقرار، فالأمن يتقدم على الديموقراطية، والقضاء على “المؤامرة” يتقدم على حسم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة إلى حد استهجان تأخرها في الانفجار بحيث تدمر كل شيء.
لكن الرئيس لا يحدد الجهة التي تقف وراء هذه “المؤامرة” ولا يفعل غير تجاهل طبيعة الأزمة الوطنية التي ولدت “التطرف الديني” كتعبير سياسي فج عن عمق الشعور بالمهانة، وطنياً، وبالضياع وبالاختناق وبانعدام المخارج التي تحفظ للمواطن المصري الحد الأدنى من كرامته كإنسان.
قبل أربعين سنة، تقريباً، شهدت مصر “حرباً” بين ثورة 23 يوليو وبين “التطرف الديني” ممثلاً بالأخوان المسلمين آنذاك. ولقد واجهت الثورة “الأخوان” بالاعتقالات والسجون والمحاكم الاستثنائية، لكن ذلك لم يكن كافياً ولا هو كان علاجاً… حتى إذا تبلور برنامج الثورة السياسي اقتصادياً واجتماعياً وفكرياً وثقافياً، توقفت “الحرب” تلقائياً، وتضاءت “الأزمة” إلى حجم تيار معارض بؤسه معلن في افتقاره إلى برنامج يلبي مطالب الناس الحيوية، قبل أن يكون في الشبهات التي ظلت تحوم حول ارتباطاته الخارجية، وبالغرب البريطاني أساساً ثم الأميركي بعد ذلك.
ولأن نظام 23 يوليو كان يشكو خللاً في إيمانه بالديموقراطية، وكان يفوض نفسه باسم الثورة أن يقرر نيابة عن الشعب، على اأقل لمرحلة انتقالية، متكئاً دائماً على شخصية البطل التاريخي جمال عبد الناصر، فإن مجموع إنجازاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية لم تستطع حماية النظام من الانحراف إلى الموقع المعادي تماماً لجماهيره، مع غياب البطل الذي كان استثناء، وكان أقوى من نظامه حتى ليمكن القول أنه كان خارجاً عليه.
إذن فالرئيس حسني مبارك قرر التضحية بقبول ولاية ثالثة في حكم مصر، وهي تضحية لم تقدرها أطراف سياسية مؤثرة ولها وزنها، ولذلك جهرت باعتراضها ورفضت البيعة، واعتبرت “الاستفتاء” تزويراً لإرادة الشعب، إذ أنه ممارسة للإرهاب بالتزكية، فأين هي الديموقراطية حين يكون الترشيح حقاً مقدساً لشخص واحد أحد يجسد بمفرده إرادة الأمة بكل طبقاتها وفئاتها وتياراتها وطوائفها، وبمن في ذلك هؤلاء الذين يقاتلون هذا المرشح الأوحد ونظامه بالرصاص؟!
ولا بد من التنويه بالهامش الديموقراطي الذي يحفظه النظام المصري، ولو ضيقاً جداً ومقنناً جداً وشكلياً إلى حد كبير، لمعارضيه، مما سمح لأحزاب المعارضة (كالوفد والحزب العربي الديموقراطي الناصري، والتجمع، ومعظم الأخوان المسلمين قبل أن نصل إلى الجماعات الإسلامية)، بالتعبير عن رفضها العلني لمبدأ البيعة، بل والطعن في دستورية ترشيح مبارك لولاية ثالثة.. الخ.
لكن هذا الهامش لن يؤثر على النتائج التي قد “تتواضع” متراجعة من نسبة 99,99 إلى 98 في المائة مثلاً من مجموع الستين مليون مصري، والذين سيزيدون حتى يوم الاستفتاء ربع مليون أو أكثر!
فالبيعة لا تحتاج إلى لوائح شطب وصناديق وكمبيوتر وغير ذلك مما يفسد الإرادة الشعبية التي تعكس بهذه النسبة أو تلك إرادة إلهية لا مجال لمجرد المناقشة فيها.
هل نبارك سلفاً لهذا الرئيس الذي يمدد لنفسه باسم نظام لا يفتأ يؤكد يومياً أنه خارج عليه إلى حد التناقض، وعامل على تهديمه حتى القضاء التام عليه واستئصاله من جذوره؟
وصحيح أن حسني مبارك ليس من صناع ثورة 23 يوليو 1952، ولكن السؤال مشروع عما إذا كان فعلاً من “أبنائها”، سيما وإن خطابه السياسي المعتمد يرتكز على معاداتها والتنصل من برنامجها كلية.
والصحيح أيضاً أن ثورة 23 يوليو قد انتهت برحيل بطلها، وإن ما استبقي منها هو ما كان يلزم أنور السادات، ثم حسني مبارك من بعده، لإضفاء شرعية مموهة على النظام الذي يحكم باسمه.
فقد تحول الاحتفال “الرسمي” الذي يقيمه النظام المصري في ذكرى ثورة 23 يوليو إلى مناسبة سنوية للتشهير بجمال عبد الناصر وثورته على الصعيد القومي (الوحدة العربية، الالتزام بموجبات النضال العربي وتحرير المحتل من الأرض العربية، ومجابهة الخطر الإسرائيلي والهيمنة الغربية على الإرادة العربية الخ)،
… كذلك فإن الذكرى تعطي خصوم الثورة داخل مصر الفرصة الذهبية للتشهير بإنجازاتها على الصعد الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، من تأميم قناة السويس إلى بناء السد العالي واقتحام ميدان الصناعات الثقيلة، وإعادة توزيع الثروة لتضييق الهامش بين الذين يملكون أكثر مما يجوز وبين الذين لا يملكون من الخبز كفاف يومهم.
بالمقابل فقد تحولت الاحتفالات الشعبية بهذه الذكرى، خارج مصر خاصة، إلى “بكائيات” تلعن الحاضر العربي وتترحم على الماضي محاولة استبقاء الناس في أساره، بدل أن تحرضهم على اقتحام المستقبل وإسقاط الموانع التي تلغي دورهم وتخرجهم – وبلادهم – من التاريخ.
إن النظام يحرص على إحياء الذكرى ليهرب من ارتباطه بالماضي خارجاً إلى التيه، في حين أن الكثير من خصومه يحيون الذكرى ليهربوا من الحاضر إلى الضياع في تيه الماضي الذي لن يعود،
أما الخصوم المشتركون للنظام منذ 23 يوليو 1952 وحتى اليوم فهم يريدون سوق الناس إلى “جاهلية” أخرى ولو رفعت رايات الإسلام،
إنهم يتوغلون في ماضي الماضي، وفي ابأس موروثاته، وأردأ النصوص المنحوتة أو المبتسرة، والتي تلغي علاقة الإنسان بالأرض وعلاقة الإنسان بالإنسان، أي تلغي التاريخ والجغرافيا، ولعلها تغري الناس بتجاوز الدين الأصيل إلى الخرافة المموهة بشعارات دينية.
لذا تشهد مصر، والعديد من أطراف الأرض العربية، حرباً بين سلالات مختلفة لأبناء الماضي، تضيع في غياهبها وأوارها صورة المستقبل، فلا يتبقى لأحد من الاهتمام والوقت والقدرة على التركيز ما يبذله من أجله.
وإنها لمفارقة مفجعة أن تكون مصر اليوم وبعد إحدى وأربعين سنة على ثورة 23 يوليو وكأنها ملوية العنق إلى الخلف ممنوعة من التطلع إلى الأمام ومن التقدم بينما يتمتع شعبها العربي العظيم بكل الكفاءة والتراث الحضاري والزخم النضالي اللازم للمساهمة في صناعة مستقبل الكون وليس “المحروسة” وحدها،
… وبينما الأمة في ضياع وسط حروب الماضويين، ننتظر مصر لكي تعاون مسيرتها نحو غدها الأفضل.
ولا بد من مصر وغن طال السفر!.

Exit mobile version