طلال سلمان

على الطريق بيروت ونواراتها…

… وبقيت “النوّارة”، وستبقى، ونوارة ستبقى، تؤوب غليها رفوف السنونو والسمرمر التي طيشرها مطر القذائف وشلال رصاص “الدم دم” والغاز الخانق، وما هم أن تكون العمارات مهشمة ومثقلة الصدر بأوسمة المقاومة والصمود؟!
بقيت “النوارة” وستبقى حيث هي ، لا تزحزحها المدافع والدبابات، ولا يزعزع ثباتها حصار الجوع والعطش والأطلام ولا ترهبها الطلعات (الجديدة) لطيران العدو الإسرائيلي، وسائر “المآثر” الحية والثابتة في ذاكرتها كما في ذاكرة بيروت العظيمة منذ صيف العام 1982.
بل إن “النوارة” كبرت وشبت إلى فوق فوق فإذا هي ملء العين والسمع والوجدان:
كانت ربع لبنان، عدداً، فصاربت بعد محاولة تركيعها وقهرها بالإذلال شعب لبنان كله إذ مسته النار، وكان لا بد أن تمسه وهي تلتهم فلذات الأكباد وجنى العمر.
كانت الضحية، فصارت بعد عرس الدم (الثاني) القضية ورايتها، وفي حين سقط القناع عن وجه الحكم والقاضي فإذا له ملامح الجلاد ذاتها!
كانت ضاحية فقيرة لمدينة مغلولة اليدين والفكر واللسان فأصبحت – ومعها مدينتها – رمزاً للإصرار على إقامة وطن على أنقاض الكيان الأشوه ، وتحول ذراعاها المفتوحان على مدى الحدقتين إلى سهمين يحدد أولهما مكمن العلة ويحدد الثاني طريق الخروج!
كانت خبراً في صفحة الحوادث والوفيات فصارت هي الصفحة الأولى والعنوان الأول والصورة الأولى والحرف الأخير.
أما الدوي الذي أصم آذاننا وهز الوجدان فينا واعتصر قلوبنا إناء الليل وأطراف النهار فكان دوي صوت الغلط وهو يتفجر ويقتل في كل الاتجاهات: الغلط في القرار أصلاً، والغلط في تحديد وسائل التنفيذ وأدواته، ثم الغلط في فهم النتائج، وهذه جميعاً في أي حال هي سمات مشتركة في كل ما يصدر في عصر 17 ايار!
شذاك بعبق الجو، يا زهرة النارينج المحروقة!
وشميم شجر الليمون المحروق يدخلك فينا، يعطينا شرف الانتماء إليك، وتمتد إيدينا لتحتضن نتفك التي انتثرت فملأت الريح ونور الشمس.
يا حصن بيروت، يا سيفها وترسها والساعد القادر: لقد افتديتنا جميعاً، وافتديت معنا فكرة الوطن، فالحرب ضد الغلط تجعل الوطن في مطال اليد، وعشق الإنسان لأرضه هو وحده الذي يكسو الفكرة باللحم والدم، ولقد قدمت بعض روحك وعماراتك والبيوت الصغيرة ليأخذ منها المداميك.
لقد وصلت الرسالة إلى المعنيين جميعاً: تخضعون أو تلتهمكم المدافع فتقتلع البيوت وتقبر أهلها تحت ركامها، وننتهي من حكاية “حزام البؤس” الذي يشوه صورة المنتجع السياحي الفريد على ساحل المتوسط!
وصلت الرسالة وفهمها الكل وقرروا أن يبقوا وأن يحموا “النوارة”.
فإذا كانت الضاحية في “نظرهم” عنصر الخلل في التوازن، فإن أهلها ومن معهم يعرفون بالضبط أين يكمن الخلل ومن يحمي استمراره ليبقي على الكيان الممسوخ… هذا الكيان الذي يصرون على بقائه طائفياً من فوق ثم يطالبون بأن يكون علمانياً من تحت، الرأس منه حصة واحدة محفوظة، لصاحب الحظ، وسائر الأعضاء أسلاب ومغانم يقترع عليها بقية أهل البلد بالاقتتال والتذابح، والعصا لمن عصى!
وقديم هو الكلام عن ضرورة “مسح” الضاحية وإزالة معظم أنحائها عن الخريطة، فهي الكتلة التي تفضح طبيعة النظام والمستفيدين منه وتسمي ضحاياه، أي الأكثرية الساحقة من شعبه المتمثلة في هذا الحشد اللجب في الضاحية.
… ثم إنها تفصل وتفسد المنظر بين المطار والقصر، وتعطي الخواجات القادمين إلى لبنان فكرة مغلوطة عن مستوى أهله ومدى تحضرهم وعمق انتمائهم إلى “العالم الحر”.
ولقد قرر المعنيون في نوبة كرم أن يصلحوا حالة الضاحية فوهبوها – ذات مرة وكتعويض عن إهمال عشرات السنين – مبلغاً وقدره عشرون مليون ليرة عداً ونقداً، ولكنها أظهرت جحوداً فلم تشكر لتدوم عليها النعم وليزيدنها. وهكذا كان لا بد من التعاطي معها بالأسلوب الأنسب،
حسناً، وماذا بعد؟!
لقد عرف الناس إن الدولة مصرة على إكمال مغامرة الانتحار،
وصمد وقف لاطلاق النار من أصل سبعة، ثمانية عشرة؟! وهو قد ينهار قبل انبلاج فجر الغد، ويعود المنظر نفسه يتكرر أمام عيوننا: تتهاطل رسل الموت على الضاحية، ويخرج منها من استطاع من أهلها، على الأقل ليؤمن أطفاله والنسوة في مكان ما لا تطاله قذائف المدفعية التي التهمت (للمناسبة) قوت عياله.
ثم ماذا؟!
هل يكتفي ببيانات الشجب والاستنكار وإطلاق تنهدات الألم والحسرة والتحرق غضباً؟!
أجدى من ذلك كله أن نقوم ببعض المبادرات الصغيرة ولكن المؤثرة.
وأولى المبادرات المطلوبة أن يكسر طوق الحصار بين بيروت وضاحيتها الجنوبية، وأن تفتح الأم ذراعيها لاستقبال أبنائها الذين حموا شرفها ومنعوها وعصموها وخربوا المخطط المعد لضربها…
إن بيروت تعرف بالتجربة كلفة الصمود، وهي مطالبة اليوم بأن تحمي شركاءها في الصمود، فلا تترك الأسر التي اضطرت إلى مغادرة منازلها المهدمة في العراء، لا ترعاها هيئة قادرة ولا يهب لنجدتها أحد، خصوصاً ممن يفترض فيهم أن يكونوا مسؤولين عن حياة الشعب وسلامته،
وثانية المبادرات المطلوبة أن يوجه ضغط سياسي فاعل، تشارك فيه القوى والهيئات والأحزاب والشخصيات والمقامات الروحية على وجه التحديد ومن الطوائف كافة، على الدولة لوقف عملية اغتيال الضاحية تحت سمع الجميع وبصرهم.
إن الضاحية قضية سياسية من الدرجة الأولى وليست مشكلة أمنية، بل لعلها في هذه اللحظة هي هي القضية، ولا بد من ضغط كاف لإجباره على التعاطي معها بطبيعتها الأصلية، وبالحل الوحيد الممكن والمقبول أي بالعودة إلى الحوار السياسي، بوصفه المدخل الصحي لمعالجة المسألة اللبنانية من جذورها.
وبقدر ما يستمر تجميد الحوار السياسي ، بتغييب مستلزماته وبديهياته وبينها شرط الاعتراف بحق المعارضين في المساهمة بصياغة صورة الوطن ومستقبله، فإن الوجه الأمني سيغلب على ما عداه ملتهماً، في جملة ما يلتهمه.
وبقدر ما تنتفي إمكانات الحوار السياسي يصبح التغيير الجذري هو المطروح على بساط البحث،
وإذا كانت “جبهة الخلاص” قد ألمحت إلى هذا المعنى ولم تقله صراحة، فإن سطور بيانها تضج به،
ومن المؤكد إن العديد من القوى السياسية تنتظر من يتقدمها في هذا الاتجاه لتحسم أمرها وتقول الكلمة ذاتها،
وثالثة المبادرات أن تمتد أيادي المخلصين إلى الضاحية، وأن يتعاون الجميع مع أهلها في تنظيم شؤونها وترتيب أمورها وتوفير إمكانات الدعم لصمودها،
إن الضاحية هي خط الدفاع الأول عن بيروت، وهي أيضاً خط الدفاع الأول عن الجنوب وعن الجبل وعن البقاع وعن الشمال، وعن فكرة الوطن،
واتفاق 17 أيار يسقط في الضاحية بفضل صمودها بقدر ما يسقط في الجنوب برصاص الشجعان من فتيته.
فلتحم بيروت نوارتها، وليحم لبنان خط دفاعه الأول، ولنحم جميعاً يومنا وغدنا وفكرة الوطن في أعماقنا.

Exit mobile version