طلال سلمان

على الطريق بيروت : الموقف هو القائد

حزينة هي بيروت، وحزنها معد وثقيل الوطأة، حتى لتكاد تختفي الابتسامات من عيون الصبايا. وعن شفاه اولادها الأشقياء، وصوتها يصلك ناضجاً بالأمل الممض، سواء أكان المتحدث من المحسوبين في عداد “الضحايا” أو في عداد “المسؤولين” عما وقع في تلك الليلة المشؤومة.
والكل متفق على أن ما وقع كان كريهاً وبشعاً، حتى من يقول أن يسلم بضرورته أو بتعذر تحاشيه، مستخدماً من أجل ذلك سيلاً من الأسباب والذرائع والمبررات، يختلط فيها العام والخاص، والصحيح والمتوهم، وكذلك المستخلص من النتائج والملحق كرد إضافي ومستعجل على الاتهامات ظالمة كانت أو صادقة أو متجنية أو خبيثة الأغراض.
والكل متفق على أن بيروت، الأميرة، الكبيرة بمواقفها وبناسها، كل ناسها، العظيمة بتاريخها وبدورها وبصمودها الأبي، لا تستحق مثل هذه المعاملة، وإن ما وقع هو حصيلة سلسلة من الأخطاء تراكمت على امتداد شهور وربما سنوات، ولم تلق العناية المطلوبة، أو الحسم اللازم. على قاعدة مشروع سياسي محقق لطموحات الناس المشروعة إلى غد أفضل في وطن لأبنائه جميعاً.
والكل متفق، أخيراً، على أن ما جرى هو “أمر عارض” يندرج في خانة رد الفعل العصبي المحكوم بعامل الخوف من أن تضيع المدنية والقضية، وليس في خانة الأمر المقرر من ضمن نهج متكامل، وإلا انتفت الحاجة إلى مثل هذه المناقشة، وإلى أية مناقشة إطلاقاً.
في ضوء هذا كله فلتفتح النوافذ جميعاً، ولتخرس السنة الحقد الموسوسة في الغرف المعلقة، وليخرج الناس من الملاجئ وأماكن الأمان ليعيدوا اكتشاف ذواتهم ومدينتهم العظيمة. ولنطلق الحوار طليقاً بلا قيد يحدد نقاط الصح لنعززها ونسترشد بها. ويكشف مكامن الخطأ ويعريها فيفضحها والمنتفعين بها ومنها.
فليس ما وقع ليلة الثلاثاء – الأربعاء الماضية هو نهاية عصر الديموقراطية والحريات العامة، وليس بداية عصر الإرهاب والقمع الدكتاتوري المموه بالهيمنة المذهبية،
فلا نبيه بري هو الحجاج بن يوسف الثقفي، ولا بيروت هي الكوفة. ولا وليد جنبلاط هو نبوخذ نصر المغير على أورشليم والأخذ أهلها رهائن وسبايا.
فبيروت باقية أبداً، باقية بأهلها ولأهلها، باقية بأديانها وطوائفها ومذاهبها كافة. وبأحزابها وهيئاتها ومؤسساتها جميعاً، والأهم إنها باقية بدورها الوطني والقومي الذي لا يستطيع أن يلغيه أحد ولا يستطيع أن يحتكره أحد مدعياً أنه سيعوضنا عنها بذاته الكريمة أو بميليشياه الموقرة.
والآن يمكننا أن نتابع النقاش حول بيروت وعلاقتها بالقضية وبالقوى الموجودة فيها، خصوصاً وإنه نقاش متصل منذ ما قبل الغزو الإسرائيلي في بداية صيف 1982، وهو مرشح للاستمرار طالما استمر غياب المشروع الوطني العتيد الذي لا بد سيرتكز إلى بيروت – بكل من فيها – وسيكتل الناس من خلف قضيتهم الأساسية. قضية تحرير الأرض والإنسان، بدل أن يظلوا تائهين وغارقين في همومهم اليومية الصغيرة، أو ضائعين عن عدوهم الأصلي ولشدة ضياعهم يتخبطون فيقاتلون ساعة ويقتتلون ساعة ثم يهدهم العجز فيستكينون للقادر على أخذهم مزقاً وأشلاء وطوائف ومناطق ومذاهب وفرقاً متناحرة.
أخطر ما أصاب بيروت، خلال الأيام القليلة الماضية. إن بيروت التي نعرف والتي نحب والتي تشكل مصدر فخارنا واعتزازنا، قد ألغيت، غيبت فجأة فغابت بغيابها، القضية، والراية وحلم الوطن.
وهكذا لم تغب صيدا، بكل الفواجع التي تنزل عليها منذ حوالي الشهرين فحسب، بل غاب الجنوب أيضاً… وهكذا اختفت صورة لبنان المجيدة، لبنان المقاتل، لبنان الفدائي، لبنان المشتري حريته وحرية أمته بدماء شبابه وصباياه وشيوخه وأطفاله الحاضنة مآقيهم صورة غدنا البهي.
وليس السؤال الآن، ولا يجب أن يكون لمن صارت الهيمنة في بيروت، أو بيد من هي بيروت الآن؟! بل السؤال الحقيقي والدائم والذي يجب ألا ننساه لحظة واحدة هو: أين بيروت الآن، في أي موقع هي، وفي أي مشروع سياسي وظفت أو ستوظف وبدأت تمارس فعلها وإشعاعها السني؟!
فبيروت، بيروت التاريخ المجيد والدور العظيم، تقود ولا تقاد.
وبيروت لا تؤخذ غلاباً ولا تغتصب السلطة فيها بالميليشيات أو بالجيوش الجرارة، وهذه دروس الغزو الإسرائيلي ومشاريع الهيمنة الكتائبية حاضرة في الذهن والوجدان والذاكرة.
وبيروت لا يملكها فرد، ولا يقودها حزب، ولا يستطيع أن يفرض إرادته عليها تنظيم.
بيروت تعطي نفسها وتسلم قيادها للموقف لا للشخص، للمبدأ لا للشطار في المناورة والتكتكة، للرسالة لا لتجار الهيكل، وصحيح أن التجارة سمة غالبة لأهل بيروت، المرفأ والعاصمة، لكن دورها الوطني والقومي كان دائماً وأبداً يتجاوز التجارة وأهلها، المال وأصحابه، ليرتبط بالقضية وبقيادة العمل الوطني (متى وجد) وبقيادة حركة الثورة العربية في فترات انتعاش هذه الحركة ومدها العظيم.
ولأن بيروت كبيرة وعظيمة ومجيدة الدور والتاريخ فلقد كان زعيمها دائماً “الزعيم”، زعيم لبنان لبنان، وزعيم كل العرب في الأغلب الأعم. ولم يكن أحد ليسأل. في العادة، عن اسم “قائد” بيروت، بل كان السؤال دائماً عن موقفها، ومن خلال ذلك الموقف وبكل ذلك الموقف كان يتحدد اسم “الزعيم” و”القيادة” ليس لبيروت فقط، بل للوطن العربي كله وأحياناً لما يتجاوز حدود الوطن الكبير.
وهكذا فلقد كان زعيم بيروت ذات يوم سعد زغلول، وفي يوم آخر إبراهيم هنانو، والحاج أمين الحسيني وفوزي القاوقجي، وفي وقت لاحق القيادات الأولى لحزب البعث العربي الاشتراكي، والدكتور جورج حبش والدكتور وديع حداد وغيرهما من قيادة حركة القوميين العرب،
وهل ننسى إنها نصبت محمد الخامس، زعيماً لها يوم أن خلعته قوات الاحتلال الفرنسي من عرش المغرب، وغنها رفعت أكاليل الغار من حول هامة أحمد بن بللا ورفاقه الخمسة بعد حادث القرصنة الشهير الذي رمى بهم في غياهب السجون الفرنسية؟!
بل هل ننسى أن زعيم بيروت في يوم مضى كان باتريس لومومبا وكوامي نكروما وأحمد سيكوتوري وأحمد سوكارنو ونهرو وهوشي مينه وفيديل كاسترو وصولاً إلى سلفادور الليندي؟!
كانت بيروت تتعاطى مع هؤلاء جميعاً من خلال مواقفهم، هذه المواقف التي كان يعلي صوتها ويعلي رايتها “الزعيم” و”القائد” الذي ارتبطت به بيروت كما لم ترتبط برجل، ودائماً على قاعدة الموقف ومن خلاله، جمال عبد الناصر.
وكان أعظم ما يميز بيروت إنها قد تخطئ في المحليات ولكنها لا تخطئ في الأساسيات وما هو جوهري، من هنا إنها كانت تتساهل في أن يكون فيها وأن يدعي النطق باسم بعض حاراتها أو بعض أحيائها، في المواسم الانتخابية وما ماثلها. قبضايات وفتوات وشيوخ حارات وأصحاب محطات بنزين ومواقف سيارات، أو بعض رجال الدين وأتباع الأجهزة – بحسب اختلاف العهود ومصادر السلطة.
لكن أولئك جميعاً لم يكونوا بيروت في أي يوم، ولم يعكسوا إرادتها وموقفها ولا تركتهم يحملون رايتها أبداً. لعلهم تركتهم يسترزقون ويؤمنون بعض المنافع وبعض المكاسب المادية الرخيصة، لكنها لم تسمح لهم أبداً بأن يحصروها في أشخاصهم، أو أن يسجنوا طموحاتها ودورها المتميز والمطلوب في حدود الزواريب التي “يمونون” على قاطنيها و”يعينون” أنفسهم الوكلاء الشرعيين عنهم لدى المرشحين للنيابة أو اصحاب النفوذ.
ولعل ذاكرة بيروت تحفظ أسماء “لبنانية” قليلة لأشخاص احتلوا موقع الزعامة والقيادة. ودائماً انطلاقاً من الموقف الوطني والقومي وليس انطلاقاً من البراعة والشطارة في ممارسة اللعبة السياسية.
في طليعة هؤلاء رياض الصلح، بشارة الخوري، فؤاد شهاب وكمال جنبلاط، الأول والثاني من خلال دورهما في معركة الاستقلال، والثالث من خلال دوره في بناء الدولة الحديثة، والرابع من خلال نجاحه في قيادة العمل الوطني المرتبط حكماً بقيادة الحركة القومية وبطموحات أبناء الأمة إلى الحرية والاشتراكية والوحدة.
ولقد صار هؤلاء زعماء لبيروت، وبالتالي للبنان، برغم أن أحداً منهم لم يكن “بيروتيا”، ولا وقف انتماء أحدهم المذهبي حائلاً دونه ودون تسنم سدة الزعامة الشعبية في المدينة – الأميرة.
الموقف، إذن، هو الأساس، وهو المحك وهو المعيار،
ولم تشهد بيروت مرة اقتتالاً بين أبناء الصف الواحد وأبناء القضية الواحدة إلا وكان ذلك مرتبطاً بغياب الموقف الوطني أو بضعف التعبير عنه والعجز عن تجسيده لدى “القيادة” المفترضة.
وهكذا صار الأمر قانوناً: يحضر الموقف الصحيح وتحضر القيادة المؤهلة فإذا بيروت أميرة المناضلين. معقلهم وقلعتهم الحصينة وخميلة حبهم، كتابهم والصحيفة والمطبعة وقهوة الصباح، المشفى والمكتبة والنادي والتظاهرة والجامعة والكلية ورحاب الصبا.
… فإذا ما غاب الموقف، أو ضاع في زحمة المتنافسين على المكاسب الآنية. وإذا ما كانت القيادة أعجز من أن تقنع بيروت بها، تحولت العاصمة الجميلة إلى غابة من السلاح المشرع الموجه إلى صدرها وجنباتها. والمسخر لفرض الخوة والسرقة وحوادث النهب والسلب وتأكيد تحكم أولئك العجزة المشوهين بطول أمد تحكم أهل النظام الفريد بهم.
من هنا ضرورة أن نستعيد الموقف الصحيح، وأن نحدد أهدافنا الصحيحة والتي لم تتغير، لكي نحدد في ضوء ذلك جميعاً أين أصبنا واين أخطأنا، وكيف نعيد إلى بيروت رونقها وبهجتها وبسمتها ودورها العظيم، شمالاً وجنوباً، في البقاع والجبل، ثم في دنيا العرب من حولنا، وفي قلب المعركة الأهم: معركتنا ضد العدو الإسرائيلي وضد حلفائه وردفائه ومكملي دوره في الداخل. عبر الهيمنة، وعبر الفتنة، كما عبر حفلات الاقتتال المدمرة لنا جميعاًز
وفي غد نتابع النقاش مع المواقف والقيادات حتى تبقى لنا بيروت، ويبقى معها الجنوب وحلم الوطن وإرادة الحياة فيه ومن أجله.

Exit mobile version