طلال سلمان

على الطريق بيروت: الموقف هو القائد – 4 – اقتراحات أمام اللقاء الإسلامي الموسّع

من مصلحة لبنان ، كله، ومن مصلحة سوريا بطبيعة الحال، أن يتحول اللقاء الإسلامي الموسع الذي ينعقد في دمشق اليوم، بدعوة منها وبرعاية نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام، من مناسبة للتشاكي وتبادل الاتهامات ومن ثم المصالحة بتبويس الذقون “وعفا الله عما مضى”، إلى فرصة طيبة يستشرف فيها الجميع آفاق المستقبل ويصلون فيها إلى تصور مشترك يكون أساساً لمنهج عمل يحكم المسلك والتصرفات والاستهدافات السياسية ويحدد الأولويات ويبرمجها على طريق خروج لبنان من أزمته الدامية والمستعصية، ودائماً بالتوافق مع سوريا وبمباركتها.
فهذا اللقاء يجيء متواقتاً مع قرب جلاء قوات العدو الإسرائيلي عن معظم المحتل بعد من أرض لبنان، ولا يجوز له بالتالي إلا أن يتوقف وقفة مطولة أمام موجبات ما بعد الجلاء وأمام المسؤوليات الكبرى التي سيواجهها لبنان (ومن خلفه سوريا)، في الجنوب المحرر خصوصاً وإنه سيصل بيروت مكتوياً بنار التجربة والبطولة، محروقة أرضه، ممزقة أوصال مناطقه وأهاليه بمشاريع الفتن التي ينظمها العدو وعملاؤه والتي تشكل حرب “القوات” ضد صيدا وجوارها نموذجاً فاقعاً لها ومرشحاً للتكرار في جزين ومنطقتها وصولاً إلى البقاع الغربي وراشيا وربما زحلة، إذا استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
وهذا اللقاء يجيء متواقتاً مع وصول الحركة المريبة لأطراف الحلف المفبرك على عجل بين عرب أميركا في المنطقة، إلى ذروتها في محاولتهم إقناع واشنطن بأن الفرصة سانحة لتصفية القضية الفلسطينية، الآن، فإن تأخرت خسرت هي بعض نفوذها وخسروا هم كل وجودهم وانتصر “الراديكاليون” وذهبت المنطقة إلى “الشيطان الأحمر” أو إلى الفوضى والإرهاب الخطير والله أعلم!
وهذا اللقاء يجيء وقد ثبت بما لا يدع مجالاً لشك أن النظام اللبناني أعجز من أن يستطيع – بتركيبته الراهنة وبمنحاه الطائفي – أن يستطيع توفير الحلول المطلوبة لمجمل المسائل المطروحة عليه، يستوي في ذلك ما يتصل بهوية لبنان القومية ودوره في الصراع العربي الإسرائيلي، أو ما يصل بمطامح اللبنانيين المشروعة على وطن حقيقي لهم جميعاً يتمتعون فيه بحقوق متساوية ويؤدون واجبات متساوية، لا يمتاز أحدهم على الآخر لا بانتمائه الطائفي أو المذهبي ولا بدمه الأزرق وانتسابه إلى نادي العائلات والاحتكارات والصفقات والسمسرات.
فالنظام، كنظام، أثبت فشله المطلق في مواجهة مسألة التحرير، وكان على اللبنانيين أن يواجهوا أعباء التحرير ومسؤولياته من خارج النظام، بل عليهم أن يصطدموا بمؤسسات النظام أولاً (الرئاسة، قيادة الجيش ثم الجيش نفسه)، ليتسنى لهم بالتالي أن يواجهوا العدو الإسرائيلي،
والنظام، كنظام، أثبت فشله المطلق في مواجهة مسألة الصيغة السياسية المحققة للتوافق الوطني والضمانة لديمومته.
والنظام، كنظام، ولاسيما في ظل نتائج الانقلاب الكتائبي عليه من الداخل، أثبت عجزه المطلق عن مواجهة الأزمة الاقتصادية المتفاقمة بسبب السياسات المرتجلة والمغامرات العسكرية المفجعة التي اندفعت فيها رئاسة الجمهورية في بيروت والجبل والضاحية فدمرت فيها ما تبقى من موارد البلاد ومن مؤسساتها الشرعية (وأساساً الجيش).
في ظل هذا كله لا بد للقاء الموسع أن ينظر إلى ما حصل في بيروت قبل أسبوع كنتيجة منطقية لتراكم المشاكل والمسائل المعلقة والمتروكة بغير حل، أو المساوم على حلولها لتأتي الحلول صفقات فئوية يجريها فريق على حساب آخر مما يؤهلها لأن تكون أسباباً لمزيد من الفتن بين رفاق السلاح وأبناء القضية الواحدة.
ومن حق دمشق، وعبد الحليم خدام بالذات، على المتلاقين لديه اليوم، ألا يرموها بمشاكلهم وهمومهم وشكاواهم الصغيرة طالبين إليها (وإليه تحديداً)، أن تغرق في البحث عن الحلول والتسويات المناسبة، ويعودون منها قائلين: “والله، هذا ما أشارت به دمشق، أو ما طلبته دمشق، أو ما فرضته دمشق”، فإن نجح الحل فالفضل لتجاوبهم، وإن فشل فالمسؤولية على دمشق التي “تحتكروتصادر قرارنا، ولا “تسمع منها” و”لا تقبل نصيحتنا” و”تصر على أن تغرق نفسها أكثر فأكثر في الرمال المتحركة اللبنانية”، على حد ما يقوله “اهل الحكمة” من علماء السياسة وفقهاء النظام اللبناني الفريد.
ومن حق عبد الحليم خدام، على هؤلاء الآتين إليه مختلفين، متفرقين، متشاكين، أن يطالبهم برؤية وطنية عامة وبروح قومية تتسامى على المنافسات والحساسيات وتعطي للمناقشة العتيدة مستواها المطلوب كمناقشة لمصير الشعب وحلم الوطن في لبنان في لحظة عصيبة تعيشها أمته العربية وقد مزقتها التناحرات والخلافات والمصالح الذاتية قبل المؤامرات وخطط التفتيت الإمبريالية والصهيونية الخ…
فدمشق في هذه اللحظة، ليست ولا يمكن أن تكون “دار المندوب السامي”، بل هي في موقع “الأم” والقيادة العربية الموكل إليها مساعدة لبنان على تجاوز محنته التي بدأت تصبح تجسيماً مفزعاً لمحنة الأمة كلها.
ودمشق لا يحرجها أن تمارس، من هذا الموقع، مسؤوليتها القومية في لبنان فتقاتل فيه، وبالتحالف مع قواه الوطنية، ضد اتفاق العار (17 أيار) وضد مجموع القوى التي حاولت فرضه عليه ابتداء من رئيس الجمهورية إلى العدو الإسرائيلي فإلى “الكفيل” الأميركي ومعه كل عربه في المنطقة،
لكن دمشق ، وكائنة ما كانت قوتها، يحرجها ويشل دورها أن تطالب بأن تتولى بقواتها المسلحة مباشرة قمع تمرد سمير جعجع على سبيل المثال، بينما المطالبون بمثل هذه المهمة فعلياً منهمكون في أنماط من الصراعات والمنافسات السيخفة أو غارقون حتى الآذان في سلسلة من الصفقات والسمسرات تبدأ بطائرة الرئاسة ولا تنتهي مع المتقدمين بالعروض والقروض لإعادة إعمار الضاحية.
اما أن تستعدي طائفة دمشق على طائفة أخرى، أو أن يطلب أتباع مذهب من دمشق أن تنصرهم على أبناء مذهب منافس، فهذه مؤامرة على دمشق ودورها، كائنة ما كانت الذرائع والمبررات.
وكلنا يذكر كيف نجح الطائفيون في مؤتمر لوزان في شل فاعلية الدور السوري حين فرضوا مناخاً طائفياً مسموماً عطل أي بحث جدي في ضرورة تطوير النظام، بحجة أنه لا يجوز أن يفرض على المسيحيين أن يقدموا مزيداً من التنازلات ، وكأنما كان اتفاق 17 أيار لخيرهم، أو كأنما هم بمجموعهم المسؤولون عن عقده بكل النتائج المدمرة التي ترتبت عليه.
بل كلنا يذكر كيف كان يتم الالتفاف على الدورالسوري وتطويقه وتقزيمه بإشعال بعض الفتن الطائفية كلما أريد تمرير فصل جديد من فصول التفريط والاستسلام لمقتضيات مشروع “السلام الإسرائيلي” في المنطقة.
إن دمشق، الآن، أعظم خبرة وتجربة ومعرفة لبنان ومسائله المتشابكة والمعقدة مما كانت في أي يوم.
وأطراف اللقاء الموسع الذين يحتشدون الآن في دمشق يعرفون بالقطع، ما يريدونه للبنان المستقبل، إن على صعيد نظامه السياسي أو على صعيد علاقاته بمحيطه وأساساً علاقته المميزة بسوريا.
وهؤلاء لهم تجربتهم الواسعة مع حزب الكتائب بطبيعته الطائفية المحلية والإسرائيلية عبر نموذج “القوات”، وما فعلته في بيروت والجبل والجنوب والبقاع الغربي، وما تفعله الآن في صيدا وجوارها، (ولا يمكن أن يخدعهم ، للمناسبة، قرار جعجع بسحب “الأغراب” من “القوات” من محيط صيدا، والذي يكشف توقيته الغرض التكتيكي منه)…
من هنا فإن من حق اللبنانيين أن يطالبوا أطراف اللقاء الموسع بأن يعودوا من دمشق باتفاق على مشروع برنامج سياسي شامل، لا يحل فقط مسألة الأمن في بيروت الغربية ولمن يكون حق الأمرة، بل يحدد قواعد التعاطي مع الحكم (رئاسة جمهورية وحكومة)، ومع الأطراف السياسية عموماً في ضوء مردود ممارساتها السياسية على قضية “تحرير الأرض والإنسان” في لبنان.
وبين أسباب الفتنة (السابقة واللاحقة) في بيروت إن ثمة قوى طائفية مرتبطة عضوياً بالعدو الإسرائيلي، ومرتبطة عضوياً ولو بعلاقة مموهة، مع الحاكم في لبنان، من مصلحتها أن يصبح كل اللبنانيين كتائبيين وفي عداد “القوات”، سواء كانوا مسلمين شيعة أم مسلمين سنة أم دروزاً أم أرثوذكس الخ…
وبين أسباب الفتنة إن تركيبة النظام الحالية تتنافى مع تحقيق العدالة والمساواة بين المواطنين، فهي تجعل الحكم ومواقع السلطة الفعلية احتكاراً لفئة من طائفة، مما يؤجج أسباب الاقتتال بين الطوائف الأخرى المغبونة جميعاً، والعاجزة عن رفع السقف إذا ظل محرماً عليها أن تمس امتيازات الطائفة الممتازة.
وبين أسباب الفتنة، أيضاً وأيضاً، إن الرأي العام المسيحي مشلول بفعل إرهاب حملة السلاح، مما يحصر السلطة وحق الكلام، بالمسلحين من الكتائبيين، وهم أقلية الأقلية بين المسيحيين، موارنة وكاثوليك وأرثوذكس ناهيك بالأرمن، وهكذا يغيب الرأي الحقيقي للمسيحيين – عامة – في المسائل المطروحة، ابتداء من دور لبنان القومي وانتهاء بمستقبل نظامه الفريد.
إن على دمشق واجباً ثقيلاً، وهي مطالبة ومسؤولة عن إتمامه في لبنان.
ومن حقها علينا أن نساعدها فلا نلقي عليها ما نستطيع نحن حسمه من مسائلنا وهمومنا الصغيرة،
إن لنا عليها أن نتوقع منها أن تقف إلى جانب ما هو قومي وتقدمي من الحلول المقترحة لعلاج وجوه الخلل والقصور والتخلف في نظامنا السياسي.
ولكن لها علينا بالمقابل أن نذهب إليها ونحن نعرف ماذا نريد من بلادنا، وماذا يمكننا أن نقدم لها.
فإذا نجح اللقاء الموسع، اليوم، في فتح باب الحوار الجدي والمسؤول في القضايا المصيرية التي تواجه لبنان، صار ممكناً أن نتوقع من دمشق أن تكمل ما لم تتمكن من إنجازه في لوزان، وأن تساعدنا على فتح باب خروج من هذا المستنقع الطائفي الآسن الذي يكاد يصل إليها بريحه المسمومة بعد أن كاد يخلص علينا.
فلنأمل أن تكون دمشق مضيفة المؤتمر الثالث للحوار الوطني وراعيته.
ولتأمل أن يكون ما ستنتهي إليه لقاءات “المسلمين” في دمشق مدخلاً صحياً إلى ما يفترض أن تنتهي إليه اللقاءات المقبلة فيها مع “المسيحيين”، تمهيداً للقاء ومن ثم للحل الوطني العتيد.
فلنعط فرصة لأن يكون “المؤتمر الصغير” فاتحة للحل الكبير وليس مجرد “جاهة” لمصالحة بين العشائر المسلحة والعشائر غير المسلحة في واحدة من إقطاعيات الكيان اللبناني المرشح لأن يصير كانتونات بعدد زعماء عشائره الموقرة.

Exit mobile version