طلال سلمان

على الطريق بيروت: الموقف هو القائد – 3 – فليعد الجميع إلى ميدان المعركة الأصلي

ولدت ، أمل “كحركة سياسية تعبيراً عن حالة احتقان مذهبي تعانيه الطائفة الشيعية في لبنان منذ أمد طويل. فالطائفة الأكثر عدداً في البلاد كانت الأقل حضوراً ونفوذاً في اللعبة السياسية والحياة العامة يكبلها ويشل فاعليتها ودورها نظام توزيع الحصص – مغانم ومناصب ومشروعية في تمثيل البلاد والنطق باسمها – وهو النظام المرتكز بأساس صيغته الاستقلالية على “الميثاق الوطني” أي على تحالف بين الطائفة المارونية (كممثل لجميع المسيحيين ومن بعدهم للغرب)، والطائفة السنية (كممثل لجميع المسلمين ومن بعدهم للمنطقة العربية). وكان هذا التحالف يعطي الموارنة موقع الصدارة والقيادة والرئاسة والحق في القرار، ويترك للسنة (رئاسة الوزارة) حق المشاركة المحدودة والمحددة بحق الرفض فالاعتذار (أو الاعتكاف) وصولاً إلى إخلاء المكان لطامح آخر مستعد لأن يلغي كلمة “لا” كلية من قاموسه السياسي، مكتف من الحياة بمجد الحفاظ على “وحدة الحكم” ليبقى لبنان محلقاً – بجناحيه – وإلا كانت الكارثة…
على إن حركة “أمل” ولدت ولادة ثانية هي التي أعطتها ملامحها الراهنة وهويتها الوطنية، وسمتها المقاتلة من أجل القضية. مما مكنها من تجاوز الإطار المذهبي وأهلها لأن تكون صاحبة إسهام مطلوب وحيوي في حركة النضال الوطني (والقومي) في لبنان المحتل بعض أرضه والمهيمن على إرادة شعبه كنتيجة للانقلاب الكتائبي الذي تم في ظل الاحتلال الإسرائيلي وأوصل آل الجميل، بكل تاريخهم المعروف، إلى سدة الرئاسة فيلبنان.
ولقد تمت الولادة الثانية لحركة “أمل” في تلك الفترة على وجه التحديد، وإذا كان يمكن اعتبار معركة خلدة المجيدة ضد قوات الاحتلال الإسرائيلية محطة أولى مضيئة، فإن تصدي “أمل” في بيروت ثم في الضاحية لمشروع الهيمنة الكتائبية على البلاد قد أعطى هذه الحركة السياسية الناشئة موقعاً متميزاً ودوراً لا يمكن تجاهله في قلب العمل الوطني وسلمت القوى الوطنية والتقدمية عموماً بهذا الدور. كما اكتسب بعداً إقليمياً في ضوء التحالف السياسي بين “أمل” والقيادة السورية في دمشق.
وهكذا فإن “أمل” التي قادت انتفاضة 6 شباط 1984 في بيروت. وأسقطت – بالضربة القاضية – مشروع الهيمنة الكتائبية وأنهت دور “الجيش الفئوي” في حرب الضاحية، لم تكن تلك الحركة التي انبثقت في أواخر حرب السنتين تعبيراً عن حالة احتقان مذهبي تعانيه الطائفة الشيعية، بل كانت شيئاً مختلفاً تماماً، قوة وطنية تعبر عن تيار عريض في البلاد ويضم مناصرين ومحازبين ومؤيدين من مختلف الطوائف، إسلامية ومسيحية.
كانت “أمل” الجديدة التي تمت ولادتها الثانية، في خضم معارك نجاحة ضد الاحتلال الإسرائيلي وضد مشروع الهيمنة الكتائبية (المتصل بذلك الاحتلال عضوياً) واحدة من أهم قوى التغيير الآتية تعبيراً عن رفض أو اعتراض أكثرية اللبنانيين على النظام الطائفي القائم سداً بينه وبين شوقهم إلى غد أفضل. وإلى ممارسة إنسانيتهم وحقوقهم الطبيعية وفق كفاءاتهم وأهليتهم وليس وفق الانتماءات الطائفية التي تلغيك – أحياناً – كإنسان وتدفعك دفعاً إلى أحد مصيرين: إما الهجرة إلى حيث يمكنك أن تعمل وتعيش وتمارس إنسانيتك وإما التحول إلى انتهازي ووصولي “وزلمة” لهذا الزعيم أو ذاك تستعين به لتغطي عار انتمائك إلى غير الطائفة الممتازة.
ولأن “أمل” الجديدة جاءت مطهرة بنار القتال ضد الاحتلال الإسرائيلي والهيمنة الكتائبية فقد استطاع رئيسها نبيه بري أن “يقتحم” النادي السياسي المحصورة حقوق العضوية فيه بأبناء “العائلات” و”الإقطاعيات” واستحق من ثم أن يكون ممثل هذا التيار التغييري في مؤتمر الحوار الوطني الأول في جنيف ثم في المؤتمر الثاني في لوزان.
وكان طبيعياً ومنطقياً أن تكون رايته المشرعة : إلغاء الطائفية السياسية كمدخل إلى تغيير جذري في أسس النظام اللبناني.
على هذا لم يعترض أحد في بيروت على “أمل” التي تصدت للقيادة في 6 شباط مقدمة نفسها بديلة عن “الدولة”، المنتحرة في بيروت ذاتها وفي الجبل ثم في الضاحية قبل ذلك. وعن “الشرعية” الموصومة بالتفريط بسيادة لبنان واستقلاله عبر اندفاعها للاستسلام للعدو الإسرائيلي ومنحه جائزة لاحتلاله ممثلة باتفاق 17 أيار الخياني وكل ذلك برعاية الولايات المتحدة الأميركية.
أي أن أحداً في بيروت لم يعترض على أن تتولى “أمل” المقاتلة ضد “الشرعية” المفرطة. وضد “الدولة” المضيعة نفسها وطريقها ومستقبل البلاد. وضد “الجيش الفئوي”، وأساساً ضد العدو الإسرائيلي وضد اتفاق العار معه.
ذلك إن الموقف هو الذي أعطى “أمل” مشروعية القيادة، وحق تمثيل بيروت بكل من فيها، وإلى حد كبير حق تمثيل لبنان الوطني على اختلاف الانتماءات الطائفية للبنانيين الرافضين للهيمنة الكتائبية والمقاتلين ضد الاحتلال الإسرائيلي.
لم ينظر أحد آنذاك إلى “أمل” على أنها حركة شيعية، برغم إنها في تكوينها التنظيمي كذلك. برغم أن جهات كثيرة – بينها الدولة – ، برئاستها وأجهزتها العسكرية والمدنية، و”الشارونيين” و”الشاميريين” وسائر “يهود الداخل” حاولوا النفخ في نار الفتنة المذهبية. وسعوا بكل ما وسعتهم السبل إلى إهاجة السنة وإخافتهم من الطوفان الشيعي الآتي لاكتساحهم.
فبيروت، ذات التاريخ المجيد، وذات الدور المميز في معارك العرب القومية ومعارك لبنان الوطنية فتحت الصدر وتجاويف القلب وموقع الصدارة لهؤلاء الفتية المقاتلين والمستشهدين في معركة الوطن الأولى والأهم في وجهيها المتكاملين: الاحتلال والهيمنة.
وسرعان ما تعزز موقع “أمل” واكتسبت المزيد من الرصيد الوطني عبر مشاركتها الفعالة في المواجهات اليومية في الجنوب البطل، بمدنه وقراه ودساكره والمزارع ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي.
وتعزز هذا الموقع أكثر فأكثر في التحالف الوطيد والمستمر، منذ اللحظة الأولى بين “أمل” والحزب التقدمي الاشتراكي، خصوصاً وإن رئيسه وليد جنبلاط، مؤسس الحركة الوطنية وقائدها، ثم إنه بطل المعركة الأخرى المهمة ضد الهيمنة الكتائبية في الجبل، والمساهمة ضمن حروفه وبأسلوبه في تدعيم المقاومة الوطنية في صيدا والجنوب والبقاع الغربي وراشيا وصولاً إلى الباروك.
ومن الإنصاف أن نشهد لوليد جنبلاط بأنه استطاع أن يحقق إنجازاً تاريخياً حين أعاد بعث الحزب التقدمي الاشتراكي ونفخ فيه روحاً وطنية كسرت فيه المنحى المذهبي وفتحت أمامه – مرة أخرى – آفاق العمل الوطني والتقدمي والقومي على مصراعيه.
كان الحزب قد تطهر في معركة الجبل ضد الهيمنة الكتائبية، وجاء ليضيف نصره على “القوات”، وهي الفرع الصريح للإسرائيلية في الكتائب، إلى رصيد العمل الوطني في لبنان، وهو الرصيد الذي اغتنى بسلسلة من التجارب والمعارك والخبرات حتى أعطى ثماره الحبلى بالخير المطلق في الجنوب المقاوم.
وهكذا فهم الناس التحالف بين “أمل” والحزب التقدمي الاشتراكي، ومن خلفه سائر أحزاب العمل الوطني وقواه الجماهيرية، تحالفاً من طبيعة نضالية محبذة، يمكن تلخيص أهدافه العظمى في “تحرير الأرض والإنسان في لبنان”… تحرير الأرض من الاحتلال الإسرائيلي، وتحرير إرادة الإنسان التي طمح الانقلاب الكتائبي إلى فرض هيمنته عليها مقدماً بذلك الدليل الحسي الملموس على فساد النظام القائم وضرورة تطويره جذرياً إذا ما عز التغيير.
فالنظام الذي أسلم قيادته للانقلاب الكتائبي قدم مبررات إضافية لفساده ومعاداته لطموحات جماهير الشعب في لبنان بخروجه على إرادة أمته ومحاولته إخراج لبنان منها وطمس هويته القومية، كما بتكريسه للطائفية في صلب النظام كأعتى ما تكون الطائفية.
وكان منطقياً أن تستعر الغرائز المذهبية والطائفية لدى الطوائف الأخرى. فالطائفية تستقي الطائفية، والمضطهد يحب أن يقلد مضطهده… وهكذا في مواجهة “الماروني” الذي جعلته الكتائب وربيبتها “القوات” أكثر مارونية، إلى حد ربطه بالإسرائيلي، صار المسلم أكثر “إسلاماً” على وجه العموم ثم صار السني أكثر سنية والشيعي أكثر شيعية والدرزي أكثر درزية، وهلم جبرا…
وكان ذلك كله في مصلحة الانقلاب الكتائبي، لأن تكريس الطائفية يجعل الأكثر تعصباً بين الموارنة هو “الأحق” بتمثيل المسيحيين عموماً والموارنة خاصة، وهذا لن يكون غير “كتائبي” سواء أكان من الرعيل الأول والطبعة “الاستقلالية” من هذا الحزب، أو من “جيل الشباب” والطبعة المنقحة والمزيدة بالعلاقة مع العدو الإسرائيلي والتي تحمل اسم “القوات اللبنانية”.
من هنا فإن أصابع الاتهام بتدبير ما حدث بعد 6 شباط 1984 في بيروت وطرابلس والجبل وصولاً إلى أحداث صيدا الأخيرة تنتهي إلى ذلك البؤرة التي تجمع الكتائب – بطبيعتها – مع العدو الإسرائيلي مع الطائفيين والمذهبيين عموماً، من المستفيدين بالنظام الطائفي والمناهضين لأي إصلاح له، لأن طبيعته الطائفية تعطيهم المكانة المتميزة والدور القيادي إضافة إلى المغانم والمنافع وما أكثرها.
ومن هنا فإن حق “أمل” والتقدمي الاشتراكي ومن خلفه سائر الأحزاب والقوى الوطنية، في القيادة، يظل مرتبطاً بقدرتهما على إنجاز مهمات هذه المرحلة في النضال الوطني اللبناني.
فالكل يرحب بشباب “أمل” والتقدمي كمناضلين دون أن يلتفت أحد إلى انتماء أي منهما المذهبي كما لا يلتفت أحد إلى انتماء “الشيوعي” و”القومي” و”البعثي” المذهبي، فالهوية النضالية تحجب كل ما عداها، أما حين يبهت الدور الوطني فيغلب على عمل “أمل” والتقدمي وسائر الأحزاب والهيئات طابع رد الفعل الطائفي والمذهبي على ممارسات طائفية ومذهبية تصدر عن النظام وأهله، أو عن جهات مشبوهة لا تريد للبنان لا أن تتحرر أرضه ولا أن تتحرر إرادته وإنسانية المواطن فيه.
وشرط السلامة بالنسبة لـ “أمل” كقوة وطنية ألا تنساق في دهليز رد الفعل الطائفي والمذهبي وأن تظل فوق الساحة التي منحتها هويتها النضالية التي أهلتها للصدارة ولأن تكون شريكاً أساسياً في قيادة العمل الوطني في المرحلة الراهنة والشرط ذاته ينطبق على التقدمي الاشتراكي.
فحزب الكتائب يريد أن تتحول جميع القوى السياسية الموجودة على ساحة لبنان إلى “كتائب” وأن يصير شباب “أمل” كتائبيين شيعة وشباب التقدمي كتائبيين دروزاً مما يبرر لممثلي السنة أن يصبحوا كتائبيين سنة الخ..
والعدو الإسرائيلي يريد من الجميع أن يندفعوا في هذه العملية الانتحارية الموجهة ضد الذات وحلم الوطن، بحيث تبقى الإرادة الوطنية مرتهنة لديه، وينفتح الطريق فسيحاً أمام الكانتونات الطائفية وأمام خطط التفتيت المعدة للمنطقة العربية برمتها.
لهذا ترتفع الأصوات بالتنبيه: أن تعالوا نتلاق في الجبهة لنقاتل المعركة الحاسمة في حربنا ضد الاحتلال الإسرائيلي والهيمنة الكتائبية… تعالوا نتلاق على مشروع وطني بسيط يتلخص بـ “تحرير الأرض والإنسان”.
ولعل اللقاء الموسع الذي دعت إليه دمشق غداً يكون منطلقاً نحو مثل هذه الجبهة التي لا تعصمنا من الانقسام بل تصحح مسارنا نحو أهدافنا الغالية: أن تكون لنا الحياة في لبنان الوطن، لا لبنان الكيان وأن نصير مواطنين بدل أن نظل رعايا للطوائف وملوك الطوائف.
وصيدا، بل كل الجنوب ومعه البقاع الغربي وراشيا تنادي الجميع، فإذا عز النصير في الخارج فلا أقل من أن يلبي النداء أهل الداخل.
وهناك هناك تكون البطولة لا في شوارع بيروت الغربية وزواريبها.
وفي مجال النضال لتطوير النظام، أو تغييره، إذا تعذر التطوير يكون إثبات الجدارة بالقيادة على طريق غد أفضل.
فهلموا إلى حيث يجب أن نكون جميعاً وإلا خسرنا الجميع المعركة التي بوأتنا “كمقاتلين من لبنان” الصدارة في الأمة كلها ونصبتنا مصدراً لفخارها وعزتها وعنواناً لجدارتها – بعد – في حياة كريمة.
ولن ينفعنا أبداً أن نقول ذات يوم: “صحيح إننا خسرنا الحرب لكننا ربحنا زاروب الطمليس”.

Exit mobile version